الخليج والصراع المذهبي الزاحف

 

شبكة النبأ: كشفت تحليلات الكاتب الصحفي عبد الباري عطوان التي نشرت في صحيفة القدس العربي مؤخرا عن الهوة المذهبية وحجم الصراع السياسي القائم في منطقة الخليج، فيما سلط الضوء على ابرز المحاور التي دفعت بالسلطات السعودية الى محاولاتها قمع الانتفاضات العربية التي شهدتها المنطقة مؤخرا. ويستعرض عطوان في سلسلة مقالاته الاخطاء الاستراتيجية التي اقدمت عليها دول الخليج، واستشرافه لتداعيات ما سوف تفرزه تلك الخطوات غير المدروسة من اسقاطات على الوقاع المحلي والعالمي ايضا. هذا التقرير يسلط الضوء على ما كتبه عبد الباري عطوان: تلجأ الانظمة الحاكمة، جمهورية كانت او ملكية، لطلب المساعدة العسكرية في حالات محدودة جداً، وكملاذ اخير، حفاظاً على سمعتها، او سيادتها، او هيبتها امام شعوبها، من بينها تعرضها لغزو خارجي يريد اطاحتها من سدة الحكم، او لمصلحة جهة أخرى، او لاحتلالها بالكامل.

الكويت استعانت بالولايات المتحدة الامريكية وقواتها العسكرية الضاربة مرتين، الاولى عندما تعرضت ناقلاتها النفطية لهجمات ايرانية في مطلع الثمانينات من القرن الماضي بسبب دعمها للعراق في حربه ضد ايران، والثانية عندما احتلتها قوات عراقية في صيف عام 1990.

ومن هنا فإن طلب البحرين من دول الخليج التي ترتبط معها في منظومة مجلس التعاون الخليجي لا يستقيم مع هذا المنطق، وان كنا نعارض اي تدخل اجنبي، سلمياً كان او عسكرياً في الشؤون العربية، ونرحب في الوقت نفسه بالحلول العربية لكل مشاكلنا مهما تعقدت، لشكوكنا في الاجندات الخارجية والنوايا غير الطيبة الكامنة خلفها.

البحرين لم تتعرض لغزو خارجي حتى تستعين بقوات درع الجزيرة التي لم نسمع بها طوال العشرين عاماً الماضية، ولم نر اي مشاركة لها في اي ازمة خليجية، وكانت مشاركتها في حرب 'تحرير' الكويت رمزية، وكل ما سمعناه، او قرأنا عنه، انها ظلت دائماً موضع خلاف بين دول المجلس حول عددها وكيفية تسليحها، مما أدى الى حالة جمود في نموها، ودخولها مرحلة النسيان.

الازمة في البحرين داخلية، والاحتجاجات فيها ذات طابع سلمي صرف، وهي احتجاجات ترفع مطالب مشروعة في المساواة والعدالة، والاصلاح السياسي في اطار النظام الحاكم، ولم يستعن المحتجون بأي قوى خارجية، اقليمية او دولية، للتدخل لحمايتهم في مواجهة قمع قوات الامن، وشاهدنا اعداداً كبيرة من المتظاهرين وقد قتلوا او جرحوا برصاص هذه القوات.

قد يجادل البعض بان هؤلاء من ابناء الطائفة الشيعية، وان قطاعاً منهم، رفع صور الامام الخميني اثناء المظاهرات للتدليل على ولائهم لايران، وهذا كله صحيح، ولكن اذا كان قطاع من هؤلاء له مظلمة ما، فإن من واجبنا ان نستمع اليهم، وان نحاورهم، وان نتفهم مطالبهم وان نقدم حلولا لها.

ألم يرفع خليجيون 'اقحاح'، سنة وشيعة، صور الرئيس الامريكي جورج بوش، بل ألم يطلق بعضهم اسمه على مواليده تيمناً وولاء وعرفاناً بالجميل لانه انتصر للكويتيين واخرج القوات العراقية الغازية من بلادهم؟

فهل تراجع هؤلاء او ندموا عندما اقدم الرئيس بوش الابن على احتلال العراق وقتل مليونا من ابنائه، ويتيم اربعة ملايين طفل، وبذر بذور المحاصصة الطائفية في البلاد وسلم الحكم بالكامل للميليشيات الشيعية؟

لم نكن طائفيين ابداً ولن نكون، ومثلما نعارض تدخل دول خليجية في الازمة البحرينية على ارضية طائفية بغيضة، فاننا سنعارض اي تدخل ايراني وفق الاعتبارات نفسها في المقابل، فنحن نطالب بالمساواة والعدالة، وترسيخ اسس المجتمع المدني، وحكم القانون.

ارسال قوات سعودية واماراتية وكويتية وقطرية الى البحرين لن يحل المشكلة، بل سيؤدي الى تعقيدها، وتفريــخ مشاكل اخرى اكثر خطورة، من بينها هز استقرار منطقة الخليج، وتهديد هويتها العربية، وتفتيت وحدتها الوطنية.

استدعاء ايران لسفيري البحرين والسعودية في طهران للاحتجاج على دخول هذه القوات الخليجية الى البحرين امر مدان ومستهجن ايضا، لانه ليس من حق ايران تنصيب نفسها المدافع عن العرب الشيعة في البحرين، الذين صوتوا عام 1971 من اجل الاستقلال وعدم الانضمام اليها، في استفتاء حر ليثبتوا بذلك انتماءهم العربي، وليقدموه على مذهبهم الشيعي.

فاذا كان من حق ايران تنصيب نفسها مدافعا عن الشيعة العرب، فان من حق العرب السنة، او الاتراك السنة، ووفق المنظور نفسه حماية السنة الايرانيين، او الشيعة العرب في منطقة الاحواز ايضا.

دول الخليج، والمملكة العربية السعودية بالــــذات، تسرعت في اتخاذ قرار التدخل وارسال قوات عسكرية الى البحرين، حتى لو جــــاء ذلك من زاويــــة اظهار اكبر قدر ممكن من التضامن مع الاسرة الحاكمة فيها. فقد كان من الاجدى حث هذه الاسرة على ضبط النفس، والتحلي بالصبر، والدخول في حوار جدي مع ابناء شعبها، والتجاوب مع مطالبه المشروعة، وعدم أخذ الغالبية الساحقة من المتظاهرين بجريرة فئة صغيرة تنطلق من خلفيات طائفية طابعها الحقد على الآخر.

نفهم ولا نتفهم، لو ان القوات الخليجية التي ارسلت الى البحرين، كانت ذات طابع امني، ومتخصصة في مواجهة اعمال الشغب، ولكن ان تكون قوات نظامية عسكرية فهذا امر يكشف عن قصور في ادارة الازمات، والرؤية الاستراتيجية الواعية والمتبصرة بالاخطار.

الكثير من الخبراء الاستراتيجيين في الغرب يفسرون اقدام المملكة العربية السعودية على المبادرة بارسال الف جندي الى البحرين على انه خطوة 'استباقية' لمنع وصول الاحتجاجات الى المنطقة الشرقية ومدنها مثل القطيف والهفوف والدمام، حيث تتمركز الاقلية الشيعية، وهذا تفسير فيه وجهة نظر قد تبدو صائبة، ولكن الحكومة السعودية تتصرف مثل الذي يطلق النار على قدمه، لان هذه الخطوة قد تشعل فتيل الاحتجاجات، وبصورة اقوى في اوساط هؤلاء، وتفتح الابواب امام تدخل اطراف خارجية.

الهروب من الاصلاحات السياسية التي يطالب بها معظم ابناء الخليج، سنة وشيعة، اسوة بزملائهم العرب الآخرين في الدول العربية الاخرى، بتفجير خلافات مذهبية، واذكاء نيران الفتنة الطائفية توجه خطير جدا، وربما يعطي نتائج عكسية تماما.

الاصطفاف المذهبي الذي تعمل بعض حكومات دول الخليج على تكثيفه وتعميق جذوره، مدعومة بارصدة مالية هائلة، وعلاقات دولية راسخة خاصة مع القوى الغربية، ربما تكون خطرة في الاطاحة بانظمتها اكبر من خطر التجاوب مع مطالب الاصلاح الشعبي المتنامية.

نعلم جيدا ان بعض الحكومات الخليجية تكابر، وترفض تقديم اي اصلاحات لمواطنيها تحت ذريعة انها ترفض سياسات لي الذراع، او التنازل تحت ضغوط المظاهرات، ولكن هذه المكابرة لن تفيد اذا ما انفجر الصراع المذهبي في المنطقة، واضطرت بعض الجهات المتطرفة، بدعم خارجي للجوء الى سلاح العنف والارهاب، وهناك مخزون هائل من الخبرات في هذا المجال في اكثر من مكان في دول المنطقة والعراق ولبنان احداها.

كان بامكان حكومة البحرين امتصاص هذا الاحتقان، او الجزء الاكبر منه، بالتجاوب مع بعض مطالب المحتجين بتغيير رئيس الوزراء، وتعديل الدستور مثلما فعلت مصر، ومثلما وعد السلطان قابوس، ولكنه العناد الذي سيدمر المنطقة ويهز استقرارها، ويجرها الى حروب اهلية طائفية يعلم الله متى ستتوقف، وكم من الارواح ستزهق فيها.

حكومات دول الخليج وخاصة السعودية تباهت على العرب 'الثوريين' الآخرين بمدى حكمتها وتعقلها ورباطة جأشها، والتعاطي مع الازمات بواقعية، ونخشى ان يكون تعاطيها مع ازمة البحرين خروجا عن هذه الثوابت.

تدخل سعودي خطير

وارسال المملكة العربية السعودية الف جندي الى البحرين تجاوبا مع طلب حكومتها لدعم امنها في مواجهة التهديدات الامنية التي تستهدفها على حد قول بيان مجلس الوزراء السعودي، هو أخطر تطور سياسي وعسكري تشهده منطقة الخليج العربي منذ اجتياح القوات العراقية الكويت صيف عام 1990.

الخطورة تكمن في امرين اساسيين، الاول ان مثل هذا التدخل السعودي في ازمة داخلية لدولة ذات سيادة هو امر غير مسبوق في المنطقة، والثاني: احتمال انفجار حالة استقطاب طائفي في المنطقة قد تتطور الى حرب اقليمية تتورط فيها قوى اقليمية وربما دولية ايضا.

فقد كان لافتا ان القوات السعودية التي عبرت جسر الملك فهد الى المنامة، والتي تبعتها قوات اماراتية، تمركزت في المناطق ذات الطابع السني، الامر الذي سيعطي انطباعا قويا بطائفية، او مذهبية هذا التدخل وتكريس تقسيم هذا البلد الصغير المساحة وفق الاعتبارات الطائفية، مما يهدد وحدته الوطنية، او ما تبقى منها، ويعرقل المصالحة لما قد يترتب على ذلك من مرارات وربما احقاد قد تتعذر ازالتها في المستقبل القريب.

فالمعارضة البحرينية التي تشكل الغالبية في المظاهرات الاحتجاجية الحالية لم تفاجأ بهذا التدخل العسكري السعودي فقط، وانما سارعت الى ادانته باعتباره 'احتلالاً اجنبياً'، وطالبت بعقد اجتماع طارئ لمجلس الامن الدولي لحماية المدنيين في مواجهة خطر حقيقي يتربص بهم على حد قول المتحدثين باسمها.

البحرين تشكل عمقا استراتيجيا للمملكة العربية السعودية، مثلما تشكل في الوقت نفسه صداعا مزمنا بالنسبة اليها، بسبب تأثير الغالبية الشيعية فيها على نظرائهم من ابناء الطائفة الشيعية على الشاطئ المقابل في المنطقة الشرقية السعودية (الاحساء) حيث توجد معظم الاحتياطات النفطية.

ولعل خروج مئات المتظاهرين في هذه المنطقة، يومي الخميس والجمعة الماضيين، تجاوبا مع 'يوم الغضب' الذي حدده شباب 'الانترنت' و'الفيس بوك' بينما كان التجاوب ضعيفا في مدن المملكة الاخرى هو احد ابرز الادلة على هذا التأثير.

ويصعب علينا ان نفهم الاسباب الملحة التي دفعت الحكومة السعودية الى ارسال قواتها الى البحرين، فالمظاهرات البحرينية اتخذت طوال الاسابيع الماضية طابعا سلميا بحتا، ولم يستخدم المحتجون المطالبون بالاصلاح السياسي اي نوع من الاسلحة في مواجهة قوات الامن المدججة بالسلاح التي كانت تتصدى لهم وتحاول تفريقهم حتى لو ادى ذلك الى مقتل اعداد منهم مثلما حدث قبل عشرة ايام عندما اطلقت عليهم النار فجرا وهم نيام في دوار اللؤلؤة.

فهل جاء هذا التدخل العسكري السعودي خوفا من انهيار نظام الحكم الملكي السني في البحرين، ام قلقا من توسع دائرة المظاهرات الاحتجاجية داخل السعودية خاصة في القطيف والهفوف وباقي المدن الشيعية، او للسببين معا، مما دفع مجلس الوزراء السعودي الذي انعقد امس بقيادة الملك عبدالله بن عبدالعزيز الى اتخاذ مثل هذه الخطوة الاستباقية بارسال الدفعة الاولى من القوات الى البحرين.

الرسالة السعودية واضحة تماما، مفرداتها تقول بان المملكة لن تسمح بهز استقرار البحرين، او انهيار نظام الحكم فيها، وانها ستقاوم 'النعرات الطائفية' مثلما جاء في بيان مجلس الوزراء السعودي، ولكن هذه المغامرة، او المقامرة قد تكون مكلفة جدا، بل باهظة التكاليف، ومحفوفة بمخاطر من العيار الثقيل.

فالتدخل العسكري السعودي في البحرين بالصورة التي شاهدناها، قد لا يؤدي الى مقاومة النعرات الطائفية في دول الخليج، وانما اذكائها، وصب الزيت على جمرات نارها المدفونة تحت الرماد، مما يؤدي الى هز استقرار المنطقة، واغراقها في حروب اهلية طائفية، قد تتطور الى حرب اقليمية تنجر اليها ايران على وجه التحديد.

فاذا كان الهدف هو التحرش بايران، وفتح معارك معها، تماما مثلما جرى استفزاز الرئيس العراقي صدام حسين ونظامه عام 1990، سواء من حيث سرقة النفط العراقي واغراق الاسواق العالمية بفائض نفطي كبير ادى الى انهيار الاسعار الى ما دون العشرة دولارات، فان ايران ربما تكون اكثر وعيا هذه المرة، لكن هذا لا يعني انها قد لا تلجأ الى وسائل اخرى لزعزعة استقرار منطقة الخليج، والمقصود هنا استخدام سلاح العنف والارهاب، وقد اعلنت طهران امس انها لن تقف مكتوفة الايدي امام التدخل السعودي.

لا نستبعد ان يكون هناك 'مخطط ما' لتفجير مواجهات طائفية، في منطقة الخليج خاصة، لاشغال الجماهير العربية بها، وبما يؤدي الى اجهاض الثورات الشبابية الاصلاحية التي تكتسح المنطقة العربية حاليا، وتطالب باسقاط انظمة ديكتاتورية قمعية فاسدة واستبدالها بأخرى ديمقراطية تحترم حقوق الانسان وتكرس حكم القانون وتحقيق العدالة الاجتماعية، واطلاق التعددية السياسية.

وسواء وجد هذا المخطط او لم يوجد، فان اللعب بالورقة الطائفية في منطقة الخليج بالذات وفي مثل هذا التوقيت، لن يكون في مصلحة دولها، بسبب هشاشة التركيبة السكانية فيها، ووجود نسبة كبيرة من الشيعة من ذوي الاصول الايرانية سيتعاطفون حتما مع ابناء طائفتهم سواء في السعودية او البحرين.

فنسبة الشيعة تزيد عن ثلاثين في المئة من سكان الكويت، وعشرة في المئة في السعودية، وسبعين في المئة في البحرين، وهناك تقارير تؤكد ان هناك حوالي اربعمئة الف ايراني مجنسين او مقيمين في دولة الامارات العربية المتحدة، وهؤلاء يعاملون كمواطنين من الدرجة الثانية او الثالثة، وممنوعون من تولي العديد من المناصب الحساسة في الجيش والامن في دول خليجية عديدة.

لا نجادل بان المظاهرات الاحتجاجية في البحرين طائفية، ونقر بان بعض الجهات المنظمة لها تتبنى ايديولوجيات متطرفة، ونشير ايضا الى ان بعض المتظاهرين رفعوا صور المرشد الإيراني علي خامنئي، ولكن تظل اغلبية ابناء الطائفة الشيعية في البحرين معتدلة، وتؤمن بالحوار والابتعاد عن العنف والتمسك بوسائل الاحتجاج السلمية، ولذلك كان الخيار الافضل في رأينا هو الصبر بل والمزيد منه، والتمسك بالحوار للوصول الى صيغة وسط ترضي جميع الاطراف.

ونجد لزاما علينا ان نؤكد ان الحكومة البحرينية لم تتجاوب بالقدر الكافي مع مطالب المحتجين في تغيير رئيس الوزراء الذي يقبع في منصبه منذ اربعة عقود من منطلق المكابرة وبدواعي عدم الرضوخ لاحتجاجات لي الذراع، وهذا منهج خاطئ في رأينا، فالسلطان قابوس بن سعيد سلطان عمان اقال الوزارة، وتعهد باجراء تعديلات دستورية، وطرد اثنين من ابرز مساعديه تجاوبا مع مطالب ابناء شعبه الذين انطلقوا في مظاهرات مماثلة لمظاهرات البحرين، فلماذا لم تفعل السلطات البحرينية الشيء نفسه؟

ادارة الازمة في البحرين لم تكن في المستوى المطلوب او المتوقع، كما ان تشدد المتظاهرين في مطالبهم لم يكن خطوة حكيمة ايضا، ولكن بات من المتأخر توجيه النصائح والاحتكام الى العقل للحيلولة دون انزلاق البلاد والمنطقة الى حروب طائفية مدمرة.

المملكة العربية السعودية ودول الخليج الاخرى الثرية تتحمل مسؤولية غير مباشرة في انفجار الازمة في البحرين عندما تركت هذا البلد الخليجي الفقير يواجه ازماته الداخلية المتفاقمة من بطالة وانهيار للخدمات وتراجع اقتصادي بسبب التأثر بالازمات المالية العالمية، دون اي عون او مساعدة رغم انها تجلس على فوائض مالية يزيد حجمها عن الفي مليار دولار. وما تخصيص الاجتماع الاخير لوزراء خارجية دول مجلس التعاون عشرين مليار دولار كمساعدات لكل من البحرين وسلطنة عمان الا اعتراف صريح بهذا القصور الاستراتيجي الفاضح.

نضع ايدينا على قلوبنا خشية مما يمكن ان تحمله الايام المقبلة من مفاجآت غير سارة. واكثر ما يقلقنا هو الفتنة الطائفية التي تطل برأسها بقوة في منطقة الخليج، لان نيران هذه الفتنة اذا ما اندلعت ستحرق الاخضر واليابس، وربما تنهي عروبة الخليج واستقراره، نقولها وفي حلقنا مرارة العلقم.

المملكة العربية السعودية عارضت دائما اي تدخل في شؤونها الداخلية، وقال الامير سعود الفيصل وزير خارجيتها انه سيقطع اي اصبع خارجي ستمتد اليها، متبعا اسلوب احمد ابو الغيط نظيره المصري المقال. ترى ألا ترى المملكة انها بارسالها الف جندي الى البحرين تفعل ما حذرت منه الآخرين؟

هنيئا للشعب السعودي بحكامه

وتطورات الاوضاع على ارض الحرمين لسببين رئيسيين، الاول: الدور المحوري الذي تلعبه المملكة العربية السعودية على الصعيدين العربي والعالمي، والثاني: تجنب معظم وسائل الاعلام العربية الخوض في هذا الشأن خوفا ورهبة او حفاظا على مصلحة ما.

ومن المفارقة ان هناك انطباعا راسخا في الغرب مفاده ان الانظمة الملكية العربية 'محصنة' في وجه الثورات والانتفاضات الشعبية التي تجتاح المنطقة العربية حاليا، ونجحت حتى الان في اسقاط نظامي حكم في كل من تونس ومصر، وهذه الحصانة راجعة، حسب رأي هؤلاء الى صلابة قاعدة الحكم في هذه الملكيات، والتفاف غالبية الشعب حولها.

صحيح ان هذه الحصانة لم تختبر بشكل قوي في المملكة العربية السعودية حتى هذه اللحظة، وان حراك القاع فيها ما زال بطيئا جدا ومحدود التأثير، ولكن الصحيح ايضا ان نظاما عربيا حديث الانضمام الى نادي الملكيات (البحرين) يواجه حاليا ثورة شعبية متأججة بدأت تخرج تدريجيا عن طابعها الاحتجاجي السلمي، نظرا لعدم التجاوب مع مطالبها في الاصلاح السياسي.

الاوضاع في مملكة البحرين افضل كثيرا منها في جارتها السعودية، ففي الاولى برلمان منتخب، وتعددية سياسية تتمثل في تكتلات واحزاب وجمعيات مختلفة التوجهات والمشارب، وتتمتع المرأة بالكثير من الحقوق الاجتماعية والسياسية وتنعكس كل هذه الجوانب في صحافة تتمتع بسقف معقول من الحريات التعبيرية، ومع ذلك انفجرت الاحتجاجات الشعبية منذ اكثر من شهر ولم تتوقف حتى الآن، تطالب بدستور جديد، واطاحة حكومة يرأسها رئيس وزراء منذ اربعين عاما، ولا يتمثل فيها الشعب الا في وزارات ثانوية هامشية، وتحقيق العدالة في الوظائف، ووقف التجنيس السياسي.

في المملكة 'الام' اي العربية السعودية، لا يوجد اساسا سقف للحريات حتى يرتفع او ينخفض، والفساد ضرب معدلات قياسية، حتى ان الحكومة السعودية تدخلت بالامس لدى الحكومة البريطانية لمنع نشر نتائج تحقيقات اجريت بشأن صفقة اسلحة اليمامة قبل ثلاثين عاما وبلغت فيها نسبة العمولات اكثر من ثلاثين في المئة ذهبت الى جيوب امراء كبار.

الشعب السعودي الذي يعاني من البطالة (عشرون في المئة، وضعفها في اوساط الشباب)، وانهيار الخدمات الاساسية، ولا يعرف الانتخابات او اي نوع من البرلمانات المنتخبة، ممنوع عليه الاحتجاج بفتوى رسمية صادرة عن هيئة كبار العلماء برئاسة الشيخ عبد العزيز آل الشيخ الذي هو مفتي البلاد ايضا، لان المظاهرات خروج عن الشرع، ومعصية لاولي الامر.

بالامس خرج الامير نايف بن عبد العزيز النائب الثاني لرئيس مجلس الوزراء، ووزير الداخلية لاكثر من خمسة وثلاثين عاما ايضا، على شاشات التلفزة السعودية مهنئا العاهل السعودي الملك عبدالله بن عبدالعزيز وولي عهده الامير سلطان بن عبدالعزيز 'بهذا الشعب السعودي الكريم.. الشعب الوطني.. هذا الشعب الذي رفض التجاوب مع دعاوى الاشرار التي تريد ان تحول المملكة الى مكان للفوضى والمسيرات الخالية من الاهداف السامية'.

كرم هذا الشعب السعودي ووفاؤه عائدان الى 'رفضه' مطالبات على 'الفيس بوك' حثته على تنظيم مسيرات احتجاجية يوم الجمعة الماضي حيث اكدت وسائل الاعلام الرسمية وشبه الرسمية الهدوء التام في شوارع المدن الرئيسية وميادينها، ولكنها لم تقل ان الحكومة دفعت بعشرات الآلاف من رجال الامن لمنع مثل هذه المظاهرات بالقوة اذا تطلب الامر، مثلما حدث في مدن القطيف والهفوف الشيعية التي تحدت امر الحظر ونزل مواطنوها الى الشوارع.

وكالات الانباء الغربية وزعت تقارير اخبارية يوم امس بتظاهر حوالي مئتي شخص امام مبنى وزارة الداخلية للمطالبة بالافراج عن المعتقلين واحتجاجا على السياسات القمعية، والمطالبة باصلاحات، الامر الذي يطرح العديد من علامات الاستفهام حول مصداقية رواية الصحافة الرسمية التي قالت ان متظاهرا واحدا تظاهر في العاصمة السعودية يوم الجمعة.

نريد ان نوجه سؤالا الى الامير نايف: اذا كان الشعب السعودي على هذه الدرجة من الكرم والوفاء، وملتفا فعلا حول الاسرة الحاكمة، الا يستحق هذا الشعب ان يتلقى تقديرا خاصا، او مكافأة لسلوكه هذا في احباط 'مؤامرات' الاشرار في نشر 'الفوضى' في البلاد، وتنظيم مسيرات خالية من الاهداف السامية؟

القيادة السعودية لا تستطيع ان تنكر عدم معرفتها بمطالب الشعب السعودي، فقد تقدمت نخبهم الليبرالية والدينية بعرائض عدة تضمنت مطالبها كاملة، ابتداء من انتخاب مجلس شورى بصلاحيات رقابية وتشريعية كاملة، ومرورا بالتوزيع العادل للثروة، وانتهاء بمحاربة الفساد وتحويل البلاد الى ملكية دستورية.

هيئة كبار العلماء التي انحازت الى الحاكم، ووظفت فتاواها لمصلحته، وبناء على طلبه، بتحريم التظاهر، لم تنتقد مطلقا، اقدام السلطات على اعتقال كل الذين وقفوا خلف هذه العرائض، وابقتهم خلف القضبان لسنوات دون محاكمات عادلة، وعندما جرى الافراج عنهم وتم وضعهم على اللوائح السوداء ومنعوا من السفر، وما زالوا حتى هذه اللحظة، ومن بين هؤلاء محمد سعيد طيب ومتروك الفالح، وعلي الدميني، وعبدالله الحامد، والشيخ سعيد بن زعير والقائمة تطول.

المسؤولون السعوديون يقولون في مجالسهم الخاصة انهم لن يتجاوبوا مطلقا، ولن يقدموا على اصلاحات سياسية تحت ضغط الاحتجاجات، او التهديد بها، وهذه المكابرة نعتقد انها ستؤدي لاحتجاجات اكبر في المستقبل، فلا يعيب الحاكم ان يتنازل لمطالب شعبه المشروعة وبالسرعة المطلوبة، خاصة انه يفعل ذلك لمصلحته بالاساس قبل ان يكون لمصلحة مواطنيه. فالسلطان قابوس بن سعيد سلطان عمان حل مجلس الوزراء، وطرد اثنين من اقرب مستشاريه في ذروة اشتعال شرارة الاحتجاجات في مختلف ارجاء السلطنة.

تخطئ القيادة السعودية اذا اعتقدت انها محصنة من الاحتجاجات، وانها تستطيع ان تشتري صمت الشعب السعودي على الكثير من التجاوزات والازمات الداخلية بتخصيص 37 مليار دولار تعتبر نقطة في بحر، لان ما يطالب به السعوديون هو ما طالب ويطالب به المصريون والتونسيون واليمنيون والبحرانيون، اي الكرامة، ووقف كل اشكال اذلال المواطن، وحرمانه من حقوقه.

الخبراء الامريكان قالوا ان حكم الرئيس حسني مبارك مستقر، واكد نظراؤهم الفرنسيون ان حكم الرئيس التونسي لا يواجه اي اخطار، الآن يكررون الشيء نفسه بالنسبة الى المملكة العربية السعودية.

استقرار المملكة مرهون بالاصلاحات السياسية وبأسرع وقت ممكن، وعليهم ان يتذكروا ان الانتفاضتين في مدينة سيدي بوزيد التونسية وميدان التحرير في القاهرة بدأتا بالعشرات وتطورتا الى مشاركة الملايين.

الشعوب العربية تحررت من عقدة الخوف وثقافته، واصبحت قوات الامن هي التي تخاف المواطن، وليس المواطن الذي يخشى قوات الامن مثلما كان عليه الحال في السابق، وما كان مقبولا قبل ثلاثين او اربعين عاما لم يعد مقبولا الآن. فالصحوة عدوى حميدة، وطالما وصلت الى مصر فانها ستصل حتما الى عواصم عربية اخرى اعتقدت خطأ انها في مأمن.

السد الوحيد الذي يمكن ان يقف في وجه الثورات هو الاصلاح السياسي الحقيقي، اما الفتاوى بتحريم المظاهرات، او اعتقال المدونين، او حتى منع الفيس بوك والتغول في حجب مواقع الانترنت، فقد تعطي نتائج عكسية تماما، ولم تزدد الثورتان التونسية والمصرية اشتعالا وتدخلان مرحلة المليونية الا بعد اقدام الحكومتين في البلدين على اتخاذ هذه الاجراءات.

هل تستوعب السلطات السعودية هذا الدرس؟ لا نعتقد بذلك، فلا توجد اي مؤشرات توحي بعكس ذلك مطلقا.

تفرقة 'اعلامية' بين الثورات

سألت الصحافية البريطانية سو اللويد روبرت التي تعمل في محطة تلفزيون 'بي. بي. سي' مسؤولاً سعودياً كبيراً في السفارة السعودية في لندن عما اذا كانت بلاده ستشهد مظاهرات مثل بقية الدول العربية الاخرى. فأجاب بانه لا يستبعد ذلك ولكنه لا يتوقع ان يكون لها اي تأثير، وعندما استفسرت عن اسباب اطمئنــانه الملحوظ والراسخ، قال لها وابتسامة عريضة على وجهه: السبب بسيط وهو انه لن تجرؤ اي قناة عربية او اجنبية على تغطيتها وبث وقائعها مثلما حدث في مصر وتونس ويحدث حالياً في ليبيا.

تذكرت كلام هذا المسؤول السعودي يوم امس، وانا اقلب معظم المحطات التلفزيونية بحثاً عن تقرير او خبر عن مظاهرات احتجاج دعت اليها جهات سعودية معارضة للنظام، او حتى الاستعدادات الامنية المكثفة للتصدي لها في حال قيامها، ولكن دون جدوى، كل ما عثرت عليه هو اخبار مقتضبة جداً، وغير مصورة، عن مظاهرات وقعت في المنطقة الشرقية حيث تتركز الاقلية الشيعية، واصابة ثلاثة اشخاص بجروح نتيجة اطلاق رجال الامن النار على المتظاهرين.

الصحافية البريطانية المذكورة حصلت على تأشيرة دخول الى المملكة لاجراء سلسلة من التحقيقات عن المرأة السعودية، وبعد انتظار دام اكثر من ستة اشهر، وعندما علمت بانباء مظاهرات الهفوف والقطيف في منطقة الاحساء ذهبت الى هناك وصورت هذه المظاهرات، ولكنها فرحة لم تكتمل، فقد هاجمتها مجموعة من رجال الامن وصادرت جميع الافلام، واقتادتها وزميلها المصور رهن الاعتقال الى مدينة الرياض حيث جرى تسفيرهما على أول طائرة مغادرة الى لندن.

هذه الواقعة تؤكد ان هناك 'تفرقة سياسية' في تغطية الثورات في الوطن العربي تمارسها بعض محطات التلفزة العربية والامر هنا يتوقف على اعتبارات عديدة، بعضها يعود الى عامل النفط، والبعض الآخر 'جغرافي'، وثالث له علاقة بامريكا، ورابع 'طائفي' واحيانا يتداخل اكثر من عامل في هذه المسألة.

بمعنى آخر هناك 'ثورات حميدة' واخرى 'خبيثة' في نظر الفضائيات العربية والاجنبية، الاولى تتطلب الدعم المفتوح على الاصعدة كافة، والثانية يجب ان يتم التعتيم عليها، وتطويق فعالياتها، والامتناع عن تقديم اي دعم اعلامي او سياسي لها بكل الطرق والوسائل.

المتظاهرون في البحرين يشتكون مر الشكوى من اهمال الفضائيات العربية لهم، ويقولون انهم يثورون للاسباب نفسها التي ثارت من اجلها الجماهير المصرية والتونسية والليبية. ويتمسكون بالطابع السلمي والحضاري لاحتجاجاتهم، ويطالبون بالاصلاح السياسي. وليس تغيير الحكم، ومع ذلك يواجهون بالاهمال واللامبالاة، واذا حصل خروج عن هذا الوضع، فعلى استحياء شديد.

الاشقاء في اليمن يولولون، ويقولون انه اذا كانت ضخامة اعداد المتظاهرين هي التي تغري الفضائيات لتكثيف تغطياتها للثورات، فان الملايين يتظاهرون في صنعاء وعدن، واذا كانت المسألة تتعلق بسيل الدماء، فدماء اليمنيين المحتجين تسيل يومياً، ولا احد يهتم، ويتساءلون عما اذا كان الدم اليمني رخيصاً الى هذه الدرجة في اعين اشقائهم العرب؟

ولعل اغرب الانتقادات جاءت من سلطنة عمان، حيث شهدت البلاد سلسلة من المظاهرات الشبابية المطالبة بالاصلاح، مرفوقة بالكثير من العتب بل والغضب، من تجاهل الفضائيات، والاعلام العربي عامة لمثل هذه المطالب، ويصرخون قائلين بانه اذا كان النفط هو عامل الاهتمام فنحن لدينا شيء منه، واذا كان الفقر والبطالة عاملاً آخر فلدينا منهما الكثير ايضا.

المسألة محيرة فعلا، فنحن امام اهتمام عربي وعالمي غير مسبوق بما يجري في ليبيا، قمة اوروبية تعقد، ويسبقها اجتماع لوزراء خارجية حلف الناتو، واليوم ستشهد جامعة الدول العربية في القاهرة اجتماعا لوزراء الخارجية العرب للمطالبة، من دول الخليج والاردن خاصة، بدعم اي توجه لاقامة مناطق حظر جوي فوق ليبيا، بل والتدخل العسكري الكامل اذا تطلب الامر ذلك، بينما لم نر مثل هذا التحرك عندما كانت قوات الامن المصرية تقتل المحتجين بدم بارد وهم المدنيون العزل، ونظيرتها التونسية تفعل الشيء نفسه.

في ليبيا فساد وديكتاتورية قمعية شرسة، وحاكم اطلق العنان لابنائه وافراد اسرته لتحويل البلاد الى مزرعة خاصة بهم يتصرفون بثرواتها وملياراتها كيفما يشاؤون، ولكن هناك فساداً وبطالة وديكتاتورية اكبر في المملكة العربية السعودية واليمن والعراق، وهي دول شهدت وستشهد مظاهرات احتجاجية، فلماذا الاهتمام بثوراتها يتراجع الى الحدود الدنيا سياسيا واعلاميا؟

فاذا كانت ليبيا مهمة بالنسبة الى الغرب لانتاجها مليوناً ونصف مليون برميل من النفط يوميا معظمه من النوع الخفيف الجيد القريب من الاسواق الاوروبية، فان اليمن فيه ما هو اهم من النفط بالنسبة الى العالم الغربي، ونقصد بذلك تواجد تنظيم 'القاعدة' على ارضه، بحيث بات اليمن الفرع القيادي للتنظيم.

الامر المؤكد ان عمليات التعتيم على هذه الثورات الشعبية اليتيمة لن تعطي ثمارها في حجب الحقائق، والحيلولة دون تحقيق جل اهدافها.

نحمد الله ان الثورة المصرية انتصرت، وان عجلة التغيير الديمقراطي تسير فيها بسرعة متصاعدة، وهذا الانتصار سيصب حتما في مصلحة الثورات العربية الاخرى، سواء التي انفجرت فعلا او التي ما زالت تنتظر، ومصر هي نقطة الارتكاز، وهي القاطرة التي ستقود المنطقة الى بر الامان.

الصحوة العربية التي انطلقت من مدينة بوزيد التونسية ووصلت شرارتها الى دول عديدة، تواجه حاليا بصحوة امريكية مضادة، بهدف حرف هذه الثورات عن اهدافها، ومحاولة تدجينها، وهذا ما يفسر الجولة الحالية للسيدة هيلاري كلينتون وزيرة الخارجية الامريكية في المنطقة التي ستبدأ من تونس مرورا ببنغازي وانتهاءً بالقاهرة.

الادارة الامريكية فوجئت بالثورات العربية، وهذا ما يفسر ارتباكها في بادئ الامر، الآن تريد ان تعوض ما فاتها، وتحاول ركوب موجة هذه الثورات، او ما لم ينتصر منها، وتوظيفها في خدمة السياسات الامريكية الداعمة لاسرائيل والمصرة على استمرار تدفق النفط العربي رخيصا الى الغرب.

صحيح انه لا بواكي على شهداء ثورات 'اليتم الاعلامي' في البحرين وسلطنة عمان واليمن والعراق، ولكن الصحيح ايضا، ان عجلة التغيير انطلقت، وارادة الشباب اقوى من ان تتوقف في منتصف الطريق، حتى تحقيق كل مطالبها العادلة.

شبكة النبأ المعلوماتية- السبت 19/آذار/2011 - 13/ربيع الثاني/1432

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1432هـ  /  1999- 2011م