الديكتاتور يصادر أحلامنا

د. احمدراسم النفيس

قبل أكثر من عشرين عاما قامت جحافل الديكتاتور المخلوع باقتحام بيتي للمرة الثالثة بحثا عن فكر كان هذا الجاهل وزبانيته الأكثر جهلا يدرجونه في إطار الممنوع.

في كل مرة كان زبانية الديكتاتور يصادرون كتبي وأوراقي لأراها بعد ذلك بين يدي رئيس النيابة الذي ربما كان يهوى قراءة الكتب المجانية التي جرى مصادرتها من بيوت الكفرة الأعداء.

قام أحد الزبانية بتفتيش أوراقي ورقة ورقة فعثر على وريقات كنت أدون عليها بعض أفكار مبعثرة ومن بينها بعض (الرؤى) كانت تنهال عليّ في زمن الحصار المطبق الخانق من كل حدب وصوب.

أما الأطرف من هذا فهو أن أحد أزلام الزبانية رأى كتاب (الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني) ولعله ظنه أغاني فريد الأطرش فطلب (بأدب جم) الاستيلاء عليه فقلت له لا لن تأخذه!!.

انهالت الضغوط علينا من جهات العالم الأربع ومن فوقنا ومن بين أيدينا ومن تحت أرجلنا ورغم كل هذا القهر والتجبر والإجرام والسلب والنهب لم يقنع الديكتاتور المتأله ولم يكتف بما أوقعه بنا من خسائر إذ أنه لم يكن يرى لنفسه وجودا ولا راحة إلا بعد أن يسمع أن من خاصمهم صاروا في أسوأ حال.

عندما عثر الجلاد على الوريقة أصابته بهجة شيطانية وسأل هذه الورقة تخصك؟ قلت له نعم! ولكن أريد أن أعرف لماذا تأخذها وما هي علاقة هذه الورقة بالتنظيم الذي تزعمون أنكم جئتم للقبض عليه؟ قال: (الأحلام أهم عندنا من التنظيم المزعوم).

كان الديكتاتور وزبانيته ممن (لاَ يُؤْمِنُونَ بَغَيْبٍ وَلاَ يَعِفُّونَ عَنْ عَيْبٍ، يَعْمَلُونَ فِي الشُّبُهَاتِ وَيَسِيرُونَ فِي الشَّهَوَاتِ) ورغم ذلك يصرون ويعملون ويدأبون على مصادرة أحلامنا وأمانينا.

هل كان الديكتاتور وزبانيته يعتقدون أن الرؤى فيض من الفيوضات الإلهية ورحمة من الله يخص بها من يشاء من عباده أم أنهم كانوا يعتقدون جازمين أنها مجرد (أحاديث نفس)، حيث لا بعث ولا حساب ولا نشور؟!.

لو كانوا يعتقدون أن الله تبارك وتعالى يراقبهم ويحاسبهم لما أمعنوا في السلب والنهب وافتعال حوادث السيارات لتحطيم سيقان وأرجل كل امرأة تتأبى على نزواتهم الشيطانية.

فلماذا يصرون إذا على التنصت على أحاديثنا مع النفس؟!.

إنه التأله ومساماة الله في عظمته فهو وحده سبحانه الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور.

أحلامنا وأوهامهم

لو استعاد زبانية الديكتاتور المخلوع تلك الأوراق وأتمنى عليهم أن يفعلوا ذلك لوجدوا أن هذه الأحلام التي تحققت بحمد الله (سواء كانت أحاديث نفس أو مدد إلهي) كانت كلها تدور حول حلم واحد هو الحرية والكرامة والعدالة!!.

أليس يقال أن الجائع يحلم برغيف خبز والمسجون يحلم بالحرية!! فلماذا كانوا يستكثرون علينا هذا النوع من حديث النفس رغم أننا كنا نراه وعدا إلهيا وبشرى يبشر بها الله بها عباده المظلومين المضطهدين حتى ولو كانت موجهة نحو شخص واحد فلا شك أنها أحلام نبيلة إذ أن الحرية لا يمكن أن تكون مشروع شخص بمفرده بل هي حالة لا بد أن تعم الجميع والأمر نفسه يتعلق بالعدالة والكرامة الإنسانية تلك النعمة الإلهية التي استكثرها علينا الديكتاتور وزبانيته حملة السياط وأسلاك الكهرباء التي تفنن هؤلاء في صعقنا بها أو من الموبوئين قادة كتائب الردح النووي الذين يزعمون الآن أنه هو من حال بينهم وبين كتابة سيرة الإمام السجاد ورابعة العدوية وموسوعة الزاهدين!!.

لم يكن حلم التحرر من الاستضعاف وهما ولا وحيا مستجدا ولا مشروعا أصوليا يجري تخويف العالم منه بل هو وعد إلهي قديم قدم حركة النبوات يقرأه الأطفال في كتاتيب القرآن ونسمعه في المساجد (وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ * وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ) القصص 5-6.

أما أوهامهم التي ظلوا يطارودنها كما يطارد المخمور خيط دخان فتتعلق بإمكانية رصد وملاحقة وقمع كل من تسول له نفسه التمرد على منظومة الذل والهوان قبل أن يأتي بأي فعل وقبل أن تباغتهم الصدمة الكبرى وهي أن حلم التحرر لم يكن حلم شخص واحد أو مجموعة بعينها بل هو حلم أمة قررت أن تتخلص من كابوس ثقيل مرهق يجثم على أنفاسها وأن توسيع دائرة القمع كان يعني شيئا واحدا هو توسيع دائرة الحلم الذي جرى تخبئته في ثنايا النفس وحنايا الصدور حيث لا يمكن (لسالم بيك ولا محسن بيك) ولا أي من تلك الطوواويس البلاستيكية المنتفشة أن تعثر عليه أو أن تشن عليه حملاتها الاستباقية وفقا لقانون طوارئ بني أمية القدامى والمحدثين.

لم يكن الأمر أيضا حلم شعب بعينه ورغم ذلك رأينا وزير خارجية النظام يطلق أغبى تصريحات سمعها التاريخ: مصر ليست تونس، ليأتي من بعده مجنون ليبيا ليقول: ليبيا ليست مصر وتونس وها هو شاويش اليمن يقول: اليمن ليست مصر ولا تونس في حين يتوالى تساقط أحجار الدومينو مما يقطع بأنهم لا يفهمون لأنهم لو فهموا فسيتعين عليهم أن يرحلوا الآن وليس غدا.

إنه حلم الحرية والعدالة والكرامة!!.

الكرامة هنا ليست كلمة مضافة لتأكيد وتوثيق المعنى بل هي توصيف لطبيعة مرحلة أتت بالفعل ولا مجال لدفعها إلى الخلف ويكفي أن ننبه وزير الداخلية (الجديد) ومدير المخابرات العتيد أن المدعو (سالم بيك) الذي تولى مهمة التنكيل بالعبد لله وتحطيم سيارتي خلال الأعوام الماضية مستخدما إسمه الكودي كي لا نقوم (باغتيال فخامته؟!) كان يصر في نفس الوقت على تعليق أنواط الاستحقاق التي نالها بسبب براعته في التنكيل والتلفيق في نفس الغرفة مزينة باسمه الحقيقي الذي لا يشرفنا أن نذكره!!.

هل كان هذا الغبي يفترض أننا لا نعرف القراءة لمجرد أن سيده الديكتاتور لم يكن راضيا عنا؟!.

وهل كان من المفترض أن يلتقينا الطاووس الصغير ونحن معصوبو الأعين ليبلغنا بتهديداته وإنذاراته الفارغة كما فعل معنا من قبل وكما كان يفعل بغيرنا حتى اللحظة الأخيرة؟!.

لم يكن حلم التحرر وهما من تصورنا بل هو عمق تاريخنا وديننا التي سطرها وخطها على الأرض إمامنا سيد الشهداء وأبو الأحرار الذي خير بين الذلة والسِلة أي الموت فاختار الشهادة على البقاء في عالم يراه الأنذال ملكا لهم قائلا (ألا إن الدعي ابن الدعي قد خير بين خصلتين إما الذلة والسلة وهيهات منا الذلة يأبى الله لنا ذلك وحجور طابت وأرحام طهرت من أن نؤثر طاعة اللئام على مصارع الكرام).

إنه حلم يرثه من خلقهم الله أحرارا مخبوءا في حنايا صدورهم ونرجو ألا يتوهم أحد أن بوسعه إذلالنا واستمراء تحقيرنا وإهانتنا بعد اليوم.

مضى عهد الذل والاستعباد.

شبكة النبأ المعلوماتية- الثلاثاء 15/آذار/2011 - 9/ربيع الثاني/1432

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1432هـ  /  1999- 2011م