
شبكة النبأ: شهدت مصر اكبر تحول سياسي
في تاريخها، سيما ان صدى ما حدث فيها مؤخرا لا يفوق بأهميتها مختلف
التحولات والتطورات التي شهدها التاريخ المصري الحديث على الصعيد
السياسي والاجتماعي، الا ان ذلك التغيير الزلزالي لن يكون قادرا على
الرغم من جسامته ان يتجاوز بسهولة مرحلة ما سبق 25-يناير.
حيث يرى توماس ديملرهوبر من معهد العلوم السياسية في جامعة إيرلانغن
الألمانية أنه رغم رحيل مبارك، إلا النخب السلطوية في مصر ستتحكم على
المدى المتوسط في الإرث السياسي وتوظفه لصالحها، ما يجعل طريق مصر إلى
الديمقراطية صعبا ومفتوحا على كل الاحتمالات.
فيقول توماس خلال مقاله التحليلي الذي نشره موقع قنطرة، خلال ثمانية
عشر يوما من الاحتجاجات وبعد فشل الأجهزة الأمنية في الحفاظ على
الاستقرار تحول الجيش المصري، وفي شكل متصاعد، إلى مركز اهتمام السياسة
ووسائل الإعلام. إن المجتمع المصري الذي خرج في احتجاجات ضد النظام
القائم، رأى في الجيش شريكا في مطلبه نحو التغيير و الانتهاء من عصر
مبارك. لكن اعتقاد المتظاهرين بحياد الجيش مقارنة بجهاز الشرطة
والأجهزة الأمنية، يبدو عند رؤية دقيقة للتاريخ المصري أمرا لم يتحقق
إلا بشكل جزئي. إن الجيش هو المصدر الرئيس للسلطة. ولقد قام بإنقلاب
على النظام الملكي المدعوم من بريطانيا سنة 1952، ليعطي البلاد أول
رئيس لها: جمال عبد الناصر ، بل وحتى الرؤساء الذين أعقبوه، أنور
السادات وحسني مبارك، فإنهم يستمدون جزءا كبيرا من شرعيتهم من مسيرتهم
العسكرية.
إن الجيش يمثل في البنية المتنوعة للنخبة السياسية الحاكمة في مصر
أحد الأعمدة السياسية للسلطة والشرعية. لكن مع ذلك شهد دور الجيش
المصري خلال العقود الأخيرة تحولا كبيرا في دوره، ففي زمن عبد الناصر
كان الجيش يلعب دورا سياسيا كبيرا، ليتراجع ذلك الدور بدءا من
السبعينيات. وخصوصا مبارك عمل جاهدا على إشراك المدنيين في جهاز السلطة
من أجل التخلص من الأخطار المحدقة بحكمه ـ مثلا وزير الدفاع، الذي كان
يحظى بشعبية كبيرة، أبو غزالة 1989 ـ لكن في المقابل لم يتم المساس
بالامتيازات كلها التي كانت للجيش وخصوصا لكبار قادته وضباطه. وكتعويض
عن حضورهم الضعيف في الحياة السياسية، وخصوصا بعد توقيع معاهدة السلام
مع إسرائيل دعم نظام مبارك الأنشطة الاقتصادية لكبار قادة الجيش، إذ
تحول الجيش المصري منذ الثمانينيات من القرن المنصرم فاعلا اقتصاديا
كبيرا في القطاع العقاري أو في صناعة الأدوات المنزلية وإنتاج الخبز
المدعوم من الدولة أو إعداد مناطق سياحية جديدة على البحر الأحمر، حتى
إن مساهمة الجيش المصري في اقتصاد البلاد أصبحت تقدر بعشرين في المائة
سنويا.
تحولات النخبة في مصر
ويشير توماس، لعب الجيش دورا كبيرا في مصر. وحتى في أيامنا هذه فإن
الجيش من يقود عملية الانتقال السلس للسلطة. هذا "الانبعاث الجديد"
للجيش له وقع المفاجأة، وخصوصا بعد عقدين من اللبرلة الاقتصادية التي
شهدت دورا كبير ا لكبار المقاولين في العملية السياسية في البلاد.
وبفضل علاقاتهم الجيدة مع نظام مبارك تمكن عدد من كبار المقاولين من
بناء إمبراطوريات اقتصادية كبيرة تسيطر على الأسواق، وعبر دخولها إلى
البرلمان أو حصولها على وظائف عليا، تمكنت من ممارسة تأثير كبير على
سياسة البلاد، وقد بدا واضحا أن هذه الأوليغارشية الاقتصادية ستزيح
الجيش في وقت قريب من هرم السلطة.
نهاية الأوليغارشيات
من جهة اخرى يؤكد توماس في مقالعه على ان النخب الاقتصادية لم تكن
منسجمة في وقت من الأوقات، فيقول، شهدت خلافات كثيرة بين الأسر الكبيرة،
تعلقت بممارسة النفوذ والسيطرة على بعض القطاعات. لكن ما جمعها هو
المصلحة المشتركة في خصخصة محسوبة للاقتصاد المصري تعود بالفائدة على
القطاع الخاص الكبير. وقد حاول نظام مبارك لعب دور الحكم في السنوات
الماضية وقام في هذا السياق بتتبع بعض حالات الفساد، وهكذا تمكن النظام
من أن يقدم للغرب صورة عن نفسه، تظهره كنظام قضائي مستقل.
ولا يمثل الانقلاب العسكري الناعم تحولا راديكاليا في النخبة
الحاكمة، لكن مقاولين مثل أحمد عز عن الحزب الوطني الحاكم وصاحب أكبر
شركة للحديد والذي تمكن بفضل منصبه السياسي وصفقات مشبوهة و احتيالات
مصرفية من التحكم من جهة بسوق الحديد في مصر ومن ناحية خرى من جمع ثروة
بالمليارات، هذا الشخص لن يلعب في المستقبل دورا سياسيا، لأنه راكم
أيضا الكثير من العداوات في السنوات الماضية.
لكن بعض أرباب الشركات تصرفوا في مرحلة التحول هذه بذكاء ، وعلى
رأسهم أسرة ساويريس القبطية التي وقفت في وقت مبكر إلى صف الثورة، لقد
كان ذلك نتيجة منطقية لاستراتيجية الأسرة والتي قام أبناءها الثلاثة في
السنوات الأخيرة، عبر الاستثمار في وسائل الإعلام ، مثلا شراء جريدة
المصري اليوم النقدية اتجاه النظام، من تسويق أنفسهم كقوة تقف إلى صف
التغيير، كما عمدوا لتحصين أنفسهم ومصالحهم عبر القيام باستثمارات على
مستوى عالمي.
"تحول الجيش المصري منذ الثمانينيات من القرن المنصرم فاعلا
اقتصاديا كبيرا"
إن الزواج الواضح بين القطاع الخاص والسلطة السياسية عبر حصول
المقاولين الكبار على مقاعد برلمانية أو مناصب وزراية منذ عام 2004
والذي تجلى أيضا في الدور الكبير الذي كان يلعبه ابن مبارك، جمال، أصبح
اليوم جزءا من الماضي. لكن لن يطرأ تغيير كبير على الأسر المسيطرة على
السوق، على الأقل لأسباب ماكرواقتصادية.
فالثورة في مصر ستقود إلى إعادة ترتيب للنخبة وليس إلى تهميش كامل
لبعض مجموعاتها. وسيقوم الجيش أو سياسيون ينحدرون من الجيش بسد ثغرات
التحول السياسي الحالي، خصوصا وأن حوافزا اقتصادية مماثلة تحركهم أيضا.
النظام الزبوني بعد مبارك
ويعتقد توماس، إن الهدف الرئيس للجيش يكمن في الحفاظ على دوره
الرئيسي في البلاد. وإلى ذلك الدور ينتمي أولا الحفاظ على الدعم
العسكري الأمريكي والذي يقدر بالمليارات سنويا ويمثل ما يقرب من نصف
ميزانية الجيش المصري. وثانيا، المحافظة على الدور المربح في الاقتصاد
المصري. وثالثا، نقل سلطات الحكومة في سرعة إلى فاعلين مدنيينن. لكن
يبقى السؤال عن شكل هذه السلطة المدنية. شخصية مبارك أمكن استبدالها،
لكن ليس من الواضح أي تاثير لرحيله على النظام الزبوني الذي يقف على
قمة هرمه. فالمفارقة في نظام مبارك، أنه حتى دون مبارك فإنه سيظل
مرتبطا بالنظام السياسي المصري. أجل، لقد حل خريف الديكتاتوريين العرب
في الشرق الأوسط، لكن النخب السلطوية التي ستظل بعد سقوط الرموز
الديكاتاتورية، ستتحكم على المدى المتوسط في الإرث السياسي وتوظفه
لصالحها، حتى إنه يمكن القول بأن طريق مصر إلى الديمقراطية سيكون صعبا
ومفتوحا على كل الاحتمالات.
هل من الممكن أن تتحول مصر إلى دولة
ديمقراطية؟
على الصعيد ذاته، يتساءل مايكل ماندلبوم أستاذ السياسة الخارجية
الأميركية في كلية جونز هوبكنز للدراسات الدولية المتقدمة في واشنطن
العاصمة فيما إذا كان التحول السياسي في مصر بعد سقوط نظام مبارك سيقود
في النهاية إلى ديموقراطية حقيقية.
فيرى مايكل في مقاله المنشور في موقع بروجيكت سنديكيت، إن استقالة
حسني مبارك من منصبه كرئيس لمصر لتُعَد بمثابة بداية مرحلة بالغة
الأهمية في انتقال هذا البلد إلى نظام سياسي جديد. ولكن هل يقود هذا
التحول السياسي مصر إلى الديمقراطية في نهاية المطاف؟ لا أحد يستطيع أن
يجزم على وجه اليقين، ولكن إذا رجعنا إلى تاريخ الحكم الديمقراطي،
وتجارب بلدان أخرى ـ وهو الموضوع الذي أناقشه في كتابي "اسم
الديمقراطية الطيب: صعود الشكل الحكومي الأكثر شهرة على مستوى العالم
والمخاطر المحيطة به" ـ فسوف يكون بوسعنا أن نتعرف على العقبات التي
تواجهها مصر، فضلاً عن المزايا التي تتمتع بها فيما يتصل ببناء
الديمقراطية السياسية. إن فهم الاحتمالات الديمقراطية في أي بلد لابد
وأن يبدأ بتعريف الديمقراطية ذاتها، والتي تُعَد شكلاً هجيناً من الحكم،
التحاماً بين تقليدين سياسيين مختلفين. الأول يتلخص في السيادة الشعبية،
وحكم الشعب، وهو التقليد الذي يمارَس من خلال الانتخابات. والتقليد
الثاني، وهو الأقدم والذي لا يقل أهمية، فهو تقليد الحرية.
والحرية تأتي في ثلاثة أشكال: الحرية السياسية، التي تتخذ هيئة
الحقوق الفردية في حرية التعبير وتأسيس الجمعيات؛ والحريات الدينية،
التي تعني ضمناً كفالة حرية العبادة لكافة أتباع الديانات والعقائد
الإيمانية المختلفة؛ والحرية الاقتصادية، التي تتجسد في حق الملكية
الخاصة. إن الانتخابات من دون الحرية لا تشكل ديمقراطية حقيقية، وهنا
تواجه مصر تحدياً خطيرا: ذلك أن الفريق الأكثر تنظيماً في مصر هم
الأخوان المسلمون، ويرفض هذا الفريق حرية الأديان والحقوق الفردية،
وخاصة حقوق المرأة. والواقع أن أحد أفرع الأخوان المسلمين، أو حركة
حماس الفلسطينية، عمل في قطاع غزة على تأسيس دكتاتورية وحشية غير
متسامحة.
إشكاليات ومعضلات
فيما يؤكد مايكل ان، في ظل ظروف من الفوضى، كتلك التي قد تواجهها
مصر، فإن الفريق الأفضل تنظيماً والأكثر صلابة هو الذي يتمكن عادة من
السيطرة على الحكومة. وكان هذا هو مصير روسيا بعد ثورة 1917، التي رفعت
بلاشفة لينين إلى سدة السلطة وحكمت على البلاد بنحو 75 عاماً من الحكم
الشمولي. وقد يتمكن الأخوان المسلمون على نفس النحو من الاستيلاء على
السلطة في مصر وفرض نظام أشد قمعية من نظام مبارك. وحتى لو نجحت مصر في
تجنب سيطرة المتطرفين الدينيين، فإن الطبيعة التشريحية المزدوجة
للديمقراطية تجعل من التقدم السريع والسلس في اتجاه إنشاء نظام
ديمقراطي أمراً معضلا. ففي حين نستطيع أن نعتبر تنظيم الانتخابات أمراً
سهلاً نسبيا، فإن تأسيس الحرية ودعمها أمر أكثر صعوبة، وذلك لأنه يتطلب
وجود مؤسسات ـ مثل النظام القضائي الذي يتمتع بمحاكم محايدة ـ وهذا ما
تفتقر إليه مصر الآن، والذي يحتاج بناؤه سنوات.
ويشير، في بلدان أخرى تحولت إلى الديمقراطية، كانت المؤسسات
وممارسات الحرية تنشأ في كثير من الأحيان من رحم اقتصاد السوق الحرة.
إن التجارة تعزز عادات الثقة والتعاون التي تعتمد عليها الديمقراطية
المستقرة. وليس من قبيل المصادفة أن اقتصاد السوق الحرة يسبق السياسات
سبق السياسة الديمقراطية في العديد من بلدان أميركا اللاتينية وآسيا في
النصف الثاني من القرن العشرين. وهنا أيضاً سنجد أن مصر في وضع غير
موات. ذلك أن اقتصادها عبارة عن شكل من أشكال رأسمالية المحسوبية، حيث
يعتمد النجاح الاقتصادي على مدى قوة العلاقات السياسية التي يتمتع بها
المرء، وليس على منافسة السوق الحرة القائمة على الجدارة والتي تنشأ
الحرية في كنفها.
وينوه مايكل، تعاني مصر من عائق سياسي آخر: فهي دولة عربية، ولا
توجد من حولها أنظمة عربية ديمقراطية. وهذا يشكل أهمية كبرى وذلك لأن
البلدان، مثلها في ذلك كمثل الأفراد، تميل إلى محاكاة الدول الأخرى
التي تشبهها وتثير إعجابها. فبعد الإطاحة بالشيوعية في عام 1989،
انجذبت شعوب وسط أوروبا إلى الديمقراطية لأنها كانت الشكل السائد للحكم
في بلدان أوروبا الغربية، وهو الشكل الذي انجذبت إليه بقوة. أما مصر
فليس لديها مثل هذا النموذج الديمقراطي. ولكن مصر في وضع أفضل من غيره
من البلدان العربية فيما يتصل بتبني الديمقراطية، وذلك لأن العقبات
التي تعترض طريق الديمقراطية في العالم العربي أقل ترويعاً في مصر
مقارنة بأي مكان آخر في العالم العربي. فالعديد من البلدان العربية ـ
مثل العراق وسوريا ولبنان ـ تعاني من انقسام حاد على طول خطوط قَبَلية
وعرقية ودينية.
هل النفط عائق أمام الديمقراطية؟
ويذهب مايكل في رأيه الى كون المجتمعات المنقسمة لا يبدي الفريق
الأقوى غالباً أي استعداد لتقاسم السلطة مع الفرق الأخرى، الأمر الذي
يؤدي إلى الدكتاتورية لا محالة. أما مصر فهي على النقيض من ذلك متجانسة
نسبيا. والمسيحيون الذين يشكلون 10% من السكان، يمثلون الأقلية الوحيدة
الكبيرة في مصر. كما يعمل النفط الذي تتمتع بلدان الخليج العربية بوفرة
منه أيضاً ضد الديمقراطية، وذلك لأنه يساعد في خلق الحافز لدى الحكام
للاحتفاظ بالسلطة إلى ما لا نهاية. وتمكنهم عائدات النفط من رشوة
السكان واسترضائهم لدفعهم إلى تبني السلبية السياسية، في حين تعمل على
تثبيط أي اتجاه لخلق ذلك النوع من نظام السوق الحرة الذي يساعد في
توليد الديمقراطية. ومن حسن الحظ فيما يتصل بآفاق الديمقراطية في مصر
فإن أرضها تحتوي على قدر متواضع للغاية من احتياطيات الغاز الطبيعي
والنفط. فضلاً عن ذلك فإن حركة الاحتجاج الحاشدة التي اجتاحت مصر فجأة
كانت حتى الآن سلمية، وهذا أيضاً يصب في صالح قدرتها على بناء
الديمقراطية. فعندما تسقط الحكومات بسبب أعمال عنف فإن النظام الجديد
يحكم عادة بقبضة من حديد، وليس في ظل إجراءات ديمقراطية، ولو لم يكن
ذلك إلا بدافع من رغبته في حصار الفريق الذي ألحق به الهزيمة.
وتتمتع قضية الديمقراطية في مصر بأصل آخر بالغ الأهمية، ولعله
الأكثر أهمية على الإطلاق. إن الديمقراطية تحتاج إلى ديمقراطيين ـ
مواطنين مقتنعين بقيم الحرية والسيادة الشعبية وملتزمين بترسيخ هذه
القيم والحفاظ عليها. ومن الواضح أن المشاعر السياسية التي أبداها
العديد من مئات الآلاف من المصريين الذين احتشدوا في ميدان التحرير في
القاهرة طيلة الأسابيع الثلاثة الماضية تؤكد بما لا يدع أي مجال للشك
أنهم يريدون الديمقراطية، وأنهم مستعدون للعمل بل والتضحية بأرواحهم من
أجلها. ولكن هل هم كُـثُر بالدرجة الكافية، وهل يتمتعون بالقدر الكافي
من الحيلة والصبر والحكمة والشجاعة ـ والحظ؟ هذا سؤال لا يستطيع أحد
غير شعب مصر أن يجيب عليه. |