حكمة القائد السياسي والحريات العامة

قبسات من فكر المرجع الشيرازي

 

شبكة النبأ: الحرية كما نتفق، هي الشرط الذي يحقق حالات التوازن، والقبول، والتراضي، والتكافل، بين عموم شرائح المجتمع، وهي التي تضبط العلاقة بين القائد السياسي وشعبه، وكلما كان هذا القائد ذا حكمة ورويّة، في معالجة الامور وادارة شؤون الشعب، كلما كان ناجحا في وظيفته القيادية.

أما في حالة فقدان شرط الحرية، وإهماله او التجاوز عليه، فإن الارباك لابد أن يتسلل الى العلاقة بين القائد وشعبه، ومع مرور الوقت سوف يتحول القائد، الى كفة القمع والتضخيم الذاتي لشخصه، ونوازعه ومنافعه، على حساب الشعب الذي سيبتعد عن القائد، ويجعل منه ندّا يحاول أن يطيح به، ويتحين الفرص للقيام بذلك، كما حدث في هذه الايام في دول عدة، منها تونس ومصر وليبيا، والقائمة ستطول جميع الحكام الذين يهملون شرط الحرية، ويتجاوزون على حريات الشعب.

وكان لنا في شخصية الامام علي عليه السلام، كقائد سياسي، مثالا فذّا للتعامل الحكيم مع الحريات كافة، فكان (ع) يميل على نفسه وحقوقه لصالح الشعب، وكانت جميع الحريات المشروعة مكفولة تماما، في عهده عليه السلام.

في هذا الصدد، يقول سماحة المرجع الديني، آية الله العظمى السيد صادق الحسيني الشيرازي (دام ظله)، في كتابه الثمين الموسوم بـ (السياسة من واقع الاسلام):

(الحرية الإسلامية التي فسح لها المجال الإمام أمير المؤمنين عليه السلام كانت أشبه شيء بالحريات التي منحها رسول الله صلی الله عليه و آله للناس في صدر الإسلام، فكما كان يعيش في المدينة المنورة وحواليها حتى وفاة النبي صلی الله عليه و آله بجنب المسلمين، المشركون واليهود والنصارى والمنافقون، مختلطين في دورهم وأسواقهم، يتعاملون ويمارسون حرّياتهم المتبادلة في ظلّ الإسلام العظيم. كذلك كان المسلمون، واليهود، والنصارى، والمجوس، والمشركون، بل كل البشر يعيشون في ظلّ الإسلام عيشة محترمة هانئة، في عزّة ورفاه في عصر أمير المؤمنين علي عليه السلام).

وهكذا حتى غير المسلمين، تُحترم حرياتهم، من لدن القائد السياسي، فيؤدي ذلك الى حالة استقرار كبيرة، يصنعها القائد الحكيم العادل، من خلال تعامله السليم مع عموم افراد وجماعات الشعب، فهو الحامي لحرياتهم، بدلا من أن يكون هو المتجاوز عليها، كما يحدث اليوم في العديد من الدول العربية والاسلامية، حيث تضطرب العلاقات بين الشعوب وقادتهم، بسبب فقدان هؤلاء القادة، للحكمة وسعة الصدر وبعد الآفاق، والايمان بحرية الشعوب والافراد معا، بغض النظر عن الشكل او اللون او الجنس او الانتماء العرقي أو القبلي وما شابه، إذ يقول سماحة المرجع الشيرازي، بهذا الخصوص، في كتابه نفسه عن الامام علي عليه السلام:

(وقد أثر عنه عليه السلام في هذا المجال: «فإنهم ــ أي الناس ــ صنفان إمّا أخ لك في الدين، وإمّا نظير لك في الخلق». هذه الكلمة الفذّة العظيمة الخالدة التي تفسح المجال لاحترام البشر بما هو بشر، لكي ينظر إليه الناس من هذا المنظار فتجمعهم جميعاً كلمة العدل وحق الإنسانية).

ولذلك وكما يضيف سماحة المرجع الشيرازي قائلا:

(كان علي عليه السلام هو أول من طبق هذه الأقوال على حياته العملية وأسس حكومة إسلامية عادلة حرة، الناس فيها أحرار، على وتيرة دولة رسول الله صلی الله عليه و آله تماماً).

إن القائد السياسي لابد أن يتحلى بصفات مهمة، تجعله يستحق مكانته في قيادة الشعب، ومن اهم هذه الصفات، أن يبتعد عن القرارات المتسرعة في معالجة الامور، وأن لايجعل من تحديد الحريات، والتجاوز عليها، إسلوبا لحماية الحكم، او كرسي العرش، إنما ينبغي أن يدعم العلاقات السليمة، ويبني المشتركات الحقيقية، التي تجمع بين اهداف القائد، واهداف الشعب، وأن يحرص على عدم التقاطع في المسارات، والتوجهات، لكي لايحصل نوع من العداء الذي قد يصل الى حد الاحتراب بين الطرفين الحاكم والمحكوم، ومع ذلك لاينبغي للقائد أن يتعامل بمنطق القوة مع من يتقاطع معه، كما هو الحال مع القذافي الذي أباح واستباح دماء شعبه.

لقد كان للامام علي عليه السلام، مواقفه الخالدة في التأريخ حتى مع أعدائه، إذ يقول سماحة المرجع الشيرازي بهذا الصدد:

(الخوارج حاربوا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام . وشهروا السيوف عليه وعلى أصحابه. وقتلوا الألوف من المؤمنين والمؤمنات من أصحاب علي عليه السلام وشيعته. وأقاموا على علي عليه السلام حرباً عظيمة. ومع ذلك كله حفظ التاريخ لأمير المؤمنين عليه السلام: «أنه لم يقطع عطاء الخوارج من بيت المال». فأية حرية هذه وفي أي بعد؟).

تُرى هل يتعامل قادة اليوم مع المنتفضين عليهم، او الخارجين على حكمهم، بمثل الاسلوب الذي تعامل به قائد الدولة الاسلامية آنذاك، الامام علي عليه السلام مع الخارجين عليه؟.

فأية دروس هذه التي ينبغي على قادة اليوم أن يتخذوا منها مناهج لسلطاتهم وقيادتهم لشعوبهم !!.

لقد وقف الامام علي عليه السلام ضد نفسه، والى جانب من يكون ضده، ليس لأنه يعترف بصحة الموقف المضاد له، بل لكونه القائد السياسي الاعلى، فلابد أن يكون المدافع الاول والاشد، عن حرية الرأي والموقف، حتى لو كان مضادا له. هكذا هم قادتنا العظام في الحلقات المشرقة من تأريخنا الاسلامي.

يقول سماحة المرجع الشيرازي بهذا الصدد: (الإمام عليه السلام بسياسته الرشيدة وحكمته السياسية، ترك الناس وما يقولون، لعلّه يكون صمام أمان يتنفس به أصحاب الأمراض النفسية، كي لا تصل النوبة إلى حدّ السيف، وقيام حرب ولو صغيرة داخل الكوفة. وليس معنى ذلك أنّ الإسلام يجوّز لهذا الخارجي في أن يتفوّه بمثل هذه الجملة، كلا، فهذا الذي تكلّم به الخارجي من أبشع الحرام، وأشنع الآثام، ولكن المقصود هو بيان ما للحاكم الإسلامي الأعلى من سعة في منح الحرّيات للناس حتى لمثل هذا المنكر الفظيع).

هذه هي الدروس الخالدة، التي ينبغي على قادة اليوم، أن يأخذوا بها، من اجل مصالح شعوبهم وأنفسهم في الوقت عينه.

شبكة النبأ المعلوماتية- الخميس 10/آذار/2011 - 4/ربيع الثاني/1432

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1432هـ  /  1999- 2011م