أثر الازدحام على التصرفات السلوكية

عبد الكريم العامري

 

شبكة النبأ: مدى تأثير وطأة الازدحام على الإنسان الذي أجبر على العيش في محيط ضيق مزدحم؟ هذا السؤال يجعلنا نتحدث عن الازدحام الذي يساهم مساهمة فعالة بالغة في أسباب الإهمال والقصور الذي نكابد منها يوميا في حياتنا الحاضرة. كما يساهم أيضا في زيادة وبلورة موجة الانحراف الخلقي والجنسي النازلة ضيفا ثقيلا بيننا هذه الأيام، يساهم الازدحام في تنشيط العنف والجريمة في المجتمع. الأكثر من ذلك انه يقودنا الى هاوية الاعتلال والمرض. أما أعراض ذلك فهي الإدمان على المخدرات والإصابة بالأمراض النفسية والعقلية المتزايدة، والعلل العصبية المرتبطة بالتوتر العصبي، ضغط الدم المفرط، البدانة.

من المسلم به إن المجتمع الذي يسيطر عليه الانحلال والمرض يتأرجح على حافة الهاوية والدمار. ان حيز المكان يعتبر من ضرورات الحياة بالنسبة الى الكائنات الحية إطلاقا، فهو كالطعام والماء والأوكسجين لا يمكن لأي كائن حي الاستغناء عن أي منها، فإذا ما سلب منه ذلك أدى به الى أشكال متعددة من الانحطاط.

إن الازدحام الشديد بين المجموعة البشرية يخلف آثارا مذهلة ونتائج بالغة الخطورة، فمن ذلك الانحراف أو الشذوذ الجنسي، تحطم وانحلال الحياة العائلية، أما العادات والتقاليد العامة والرادع الديني اللذان يتحكمان في ضبط النفس والسيطرة على عدم استعمال العنف، فتطرحان جانبا دون اكتراث أو مبالاة.

ان غزو المدن من قبل المهاجرين الجدد ؛ سكان القرى والأرياف بدون شروط يسبب انحطاطا خلقيا، هو أكثر ضراوة وخطر من الانحرافات الأخرى. فإن لم تستنبط له الحلول السريعة، فلعله يجعل من المدن الصاخبة الكبيرة مقبرة وليس دارا صالحة للسكن والعمل. لكن، كيف يمكن للازدحام الشديد أن ينزل بالمجتمع الى درجة الانحطاط الخلقي؟

أولا ـ عن طريق الضغط، لأن الكائن الاجتماعي الحي يستفز بعنف بفضل التطفل المتعدد الألوان والأشكال، فيفقد حريته ومساحته المعتادة، ويؤول عيشه الى رعب مزمن وقلق دائم.

ثانياـ أما من الناحية الفسيحية فالواقع أن الازدحام يولد حافزا مثيرا لزيادة افرازات الغدد الكظرية لنوع معين من الهورمونات من حيويته الاحتياطية كي تهيء الجسم وتجعله في حالة تعبئة عامة فتزيد من توتره زيادة كبيرة.

ان افراز الغدد الكظرية، في حالة اضطرارية، قد ينقذ حياة إنسان مشرف على الموت، لكن إذا ما استمرت هذه الحالة الاضطرارية الى أجل غير معلوم ـ كما هو الحال في الازدحام ـ فان افرازاتها تلك تشكل وبالا قاتلا على جسم الإنسان والكائن الحي، يترتب على ذلك اختلاطا واضطرابا في عمليات البدن وفعاليته الكيمياوية، وقد تؤدي به الى الموت من شدة افراط عمل هذه الغدد.

ثالثا ـ الإنسان في التأثر من شدة التوتر المترتب عن الازدحام، فقد يمكن له الانفجار على شكل ثورة عنف جامحة عندما يضيق به المكان، ويلاحظ ان السخط واعتلال المزاج وسرعة التهيج والنرفزة هي من علامات تلك الثورة في المدينة، وأبسط مثل على ذلك اطلاق أبواق التنبيه من قبل سواقي السيارات احتجاجا وتذمرا من توقف السير، وإلقاء سيل من الشتائم على السواقين الآخرين في الطريق.

رابعاـ ليس هناك ما هو أشد إثارة للإنسان من وجود مزاحمين ينافسونه عنوة، بيد ان البعض عندما يجد نفسه في وطيس المعركة فانه يقاسي من ضغط وتوتر حسي وعلى ذلك فهو بكل بساطة يدخل في دور اللامبالاة، وهذا أمر طبيعي إذ أن المخرج الوحيد لدى هؤلاء هو (الهروب).

الهروب أنواع متعددة، فالمخدرات من أبرز وأشنع أنواعه خاصة بين أبناء الأحياء الفقيرة المزدحمة، غير ان المخدرات أخذت طريقها مؤخرا الى أبناء الطبقة المتوسطة ليجد المدمن عليها في هذيانه شعورا بالتحرر وخيالا يوحي له برحابة المكان بعكس ما أنكره عليه المجتمع وسلبه إياه.

اننا في الطريق الى الأسوأ.. الى بناء مدن أكبر أكثر زحمة، ان الأمل الوحيد هو العمل على خلق اجراءات مناسبة وخطوات نحو التحرر من كابوس خلقناه بأيدينا. ينبغي علينا أن نتعلم ونفهم ان حدود الفرد لا تبدأ أو تنتهي عند جلده، فإذا ما استوعبنا هذه الحقيقة وأدركنا أن لا مفر لنا سوى القضاء على الازدحام، فقد يحتمل لنا إدراك النجاح. ليس علينا إلا ان نفهم من أن ما يحيط بالإنسان من فراغات ومساحات تباعدت أو تقاربت انما هي نتيجة لاحساساته من لمس، شم، شعور، رؤيا، ان هذه الفراغات هي ليست مجرد حيز من الفراغ أو الهواء فحسب، بل هي وسيلة الإنسان لاتصاله بالعالم الخارجي وما يحيط به وهي في عين الوقت تحميه منه. أما زيادة الضغط على هذه الفراغات الحيوية والضرورية لبقاء الإنسان على نحو يرضيه فقد تسبب له متاعب وأمراضا لا حصر لها ولا دواء.

تتباين أبعاد الفراغات تبعا لثقافة الإنسان وبيئته السابقة.

إن السبب الجوهري للازدحام ليس مرده نقص أو ضآلة في المكان أحيانا، بل سوء التصرف به وعدم الحكمة في استغلاله واستثماره. يقترح البعض من الباحثين ما يلي :

1ـ مساهمة ذوي العلاقة من الناس في تخطيط برامج الإسكان والتعمير.

2ـ تضييق الخناق على السيارات، أي تقليل المساحات المخصصة للسيارات، وقد ذهبت بعض البلدان الى عدم السماح للسيارات دخول قلب المدن، مراكز العمل، المنتزهات، المدارس.

3ـ اجتناب العزلة خاصة الدوائر بدلا من الغرف الضيقة تكون قاعات. فقد دأب مهندسو الديكور والبناء على خلق أجواء ومناظر وأضواء داخل الأبنية والغرف الحديثة والفنادق كي يعوضوا عن نقص الشبابيك والشرفات.. ان الإنسان أقل ما يحتاجه الى غرفة تشرف على منظر!

شبكة النبأ المعلوماتية- الأربعائ 9/آذار/2011 - 3/ربيع الثاني/1432

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1432هـ  /  1999- 2011م