صحافة الارتزاق وبؤس الثقافة الأمنية!

مهند حبيب السماوي

في سياق تدارك الأخطاء "غير المقبولة" التي قامت بها بعض عناصر القوات الأمنية في تعاملها مع بعض الصحفيين العراقيين، قدّم المتحدث باسم قيادة عمليات بغداد اللواء قاسم عطا، وفي حديث لـ"السومرية نيوز"، الأحد 27-2-2010، ونيابة عن قيادة عمليات بغداد، اعتذاراً لجميع الصحافيين الذين تعرضوا للاعتقال أو الاعتداء بالضرب من قبل القوات الأمنية أثناء تغطية تظاهرة الجمعة التي أطلقت عليها بعض وسائل الإعلام المحلية بــ" جمعة الغضب".

هذا الاعتذار، الذي رافقه تعهد بعدم تكرار ما تعرض له الصحافيون في ساحة التحرير مستقبلا، فضلا عن إعادة افتتاح قناة الديار الفضائية التي أغلقتها على خلفية التظاهرات، جاء أثر النقد الذي تعرضت له الحكومة العراقية والقوات الأمنية من قبل المثقفين والسياسيين والصحفيين بالإضافة الى المجتمع الدولي والولايات المتحدة الأمريكية التي ابدى بيتها الأبيض" انزعاجه العميق" لأسلوب القوات الامنية العراقية وإجراءاتها "غير الديمقراطية والحضارية" مع المتظاهرين والصحفيين في يوم الجمعة.

وقد اصدرت لجنة حماية الصحفيين The Committee to Protect Journalists CPJ وعلى موقعها الرسمي على الشبكة العنكبوتية هذا الأسبوع بيانا بعنوان" نقابة الصحفيين في اليمن تحت الهجوم.. بغداد تعتذر" حول التضييق الذي تتعرض له الصحافة في الشرق الاوسط قالت فيها" ان لجنة حماية الصحفيين قلقة من المحاولات المستمرة للحكومات في الشرق الاوسط لمراقبة تغطية الاحتجاجات، في اليمن هاجم مسلحون بملابس مدنية السبت نقابة الصحفيين، وفي العراق.. طالب فيه الصحفيون تقديم اعتذار على ما تعرضوا له من اعتداءات يوم الجمعة".

الأمر المحزن في هذا البيان الذي لم يشعر به احد ولم ينتبه له انه انتقد ما تتعرض له حرية الصحافة في الشرق الأوسط وضرب مثالا على ذلك ما يحدث في اليمن والعراق ! وهو ما يبعث على الأسى، اذ أن جمع العراق مع اليمن في كفة واحدة بعد كل التحولات الجذرية التي حدثت في العراق بعد 2003 في مقابل ما تعيشه اليمن من حالة ركود وتخلف سياسي تمثل في سيطرة الديكتاتورية عليه، يُشعرنا بأننا مازلنا، في عيون الغرب ومنظماته، في مرحلة ليست متقدمة في مجال احترام حقوق الإنسان.

فالأخطاء في العراق، وعلى النقيض من نظيراتها في اليمن وليبيا وغيرها من الدول الديكتاتورية، فردية وغير مُمنهجة وتعود في أهم أسبابها الى غياب ثقافة احترام حقوق الإنسان لدى العنصر الأمني العراقي الذي يغرق" كثير منهم" في ظلمات الجهل ويجر معه ثقافة مجتمع عاش في ظل ماضي ذاق العنف والتدمير الحقيقي للشخصية العراقية التي استشرى فيها هذا النوع من الثقافة حتى أصبحت تلازمها وجزء لا ينفك منها.

اعتذار عطا الصريح وتأسف رئيس الوزراء نوري المالكي واعتذاره لأحد الصحفيين في مؤتمره الصحفي الأخير وإبداءه الاستعداد لمعاقبة من اعتدى عليه وتعويض الخسارة المادية التي لحقت به لم يمنعا نائب مدير لجنة حماية الصحفيين السيد روبرت ماهوني من التعقيب بالقول بان " هذه بداية... لكن على الحكومة العراقية ان تفعل أكثر من الاعتذار، حيث يجب ان تضمن الحكومة للصحفيين إمكانية تغطية أي تظاهرة من غير أي تدخل او إزعاج من قبل الأجهزة الأمنية ".

وقد حاول عطا، وبسبب ما شاع في الأوساط المحلية والدولية من اعتبار ما تعرض له الصحفيين العراقيين من تضييق وتقييد هو في صميمه يعتبر مخالفا للدستور والأنظمة الديمقراطية التي من المفترض أنها تعمل حكوماتها على عدم تقييد حرية الصحافة، نفي ذلك بشدة قائلا أن "ما تعرض له الصحافيين من اعتقالات واعتداءات بالضرب خلال تظاهرات الجمعة لم يكن مقصودا"، مؤكدا أن "الأخطاء التي ترتكبها القوات الأمنية بسبب الظروف الأمنية لا تعتبر تقييداً لحرية الصحافة".

لكن يبدو أن التأكيدات والتصريحات والوعود التي يُدلي بها القادة الامنيون وحتى رئيس الوزراء حول عدم التعرض للصحفيين بهذا الأسلوب الفج لا يكفي لوحده لعدم تكرار ما حدث، فالأمر لا يتعلق برئيس الوزراء أو بالقادة العسكريين، بل يرتبط بشكل مباشر بسلوك جندي يحمل ثقافة معينة يمارسها على ارض المظاهرة وهو يتصرف آنذاك وفقا لموقفه الآني في تلك اللحظة، نعم هنالك شيء واحد يمكن إن يردعه وهو إفهامه بشكل مباشر من قبل قادته الأمنيين على ضرورة عدم التعرض وإهانة الصحفيين والمحتجين على حد سواء.

فما حدث للصحفيين وما تعرضوا له يوم الـ25 من شباط الماضي يمكن أن يتكرر، وقد تكرر فعلا في يوم الجمعة 4-3-2011 في البصرة، على عكس ما قاله مدير مرصد الحريات زياد العجيلي، الذي استند إلى تعهدات عمليات بغداد والجهات الأمنية والعسكرية لان القضية اكبر من تعهد او تصريح بسبب ارتباطها بسلوك رجل الأمن والآليات التي تتحكم في تفكيره فضلا عن المعطيات التي تتواجد على ارض الواقع التي تُحرك سلوك رجال الأمن في العراق.

ان نقد تصرف سلوك رجال الأمن في العراق فيما يتعلق بتعاملهم الفظ مع الصحفيين لا ينبغي ابدا، وتحت أي ظرف، ان يُعمينا عن رؤية الجانب الأخر من الحقيقة المتعلق بسلوك الصحفيين أنفسهم الذي يظن " بعض " منهم انه كيان مُقدس وان سلطته المعنوية أعلى من أي سلطة أخرى وان مهنتهم تسمو على بقية المهن والوظائف مع العلم أن الكثير منهم بلا مبادئ ثابتة ويرتبطون بأجندات خارجية وتحركهم دوافع ونوازع ابعد ما تكون عن الوطنية وان زعموا غير ذلك.

فقطرة الدم التي تسقط من رجل أمن عراقي وهو يدافع عن ارض العراق تعدل عشرات الصحفيين ممن يجلسون وراء المكاتب أمام الحواسيب وتحت أجهزة التكييف ويقضون أوقاتهم في الدردشة وغرف الشات والارتزاق والتسوّل على أبواب السياسيين عبر اسلوب الضغط عليهم من اجل إغراضهم الشخصية، فضلا عن استثمار ما يمكن استثماره لخدمة مصالحهم الذاتية البعيدة عن هموم المواطن وحاجاته الطبيعية.

المواطن العراقي ضحية صحافة مرتزقة من جهة ورجال امن بلا ثقافة احترام من جهة اخرى، فالأولى تعيش على هموم المواطن وتعتاش على احتياجاته وتتحرك وفق أجندة الممول الذي يقف وراء هذا الصحفي أو ذاك الذي بدوره يعمل داخل مؤسسة صحفية تخضع لشروط مالية معينة تتغير بوصلات توجهاتها وفقا للاتفاقات والصفقات التي تحدث بينهم وبين الطرف الأخر الذي يتعرض لسيل من الانتقادات.

اما الثانية فهم لكل أسف يؤثرون على بقية زملائهم من رجال الأمن الذين وقفوا ضد الارهاب في العراق وقدموا أنفسهم قربانا من اجل بناء العراق واستقراره، وهؤلاء النماذج السيئة الذين لا يحسنون التعامل مع الصحفيين والمتظاهرين على حد سواء يجب ان يُردعوا ويقفوا عند حدودهم بدلا من ان يؤثروا لا على سمعة القوات الأمنية والعسكرية في العراق بل على مجمل النظام السياسي فيه كما لاحظنا في البيانات التي صدرت من منظمة هيومن رايتس ووش والاتحاد الأوربي منددة بالاعتداء على الصحفيين.

alsemawee@gmail.com

شبكة النبأ المعلوماتية- الثلاثاء 8/آذار/2011 - 2/ربيع الثاني/1432

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1432هـ  /  1999- 2011م