ظل الحكم في الحضارات القديمة نتاج نظرية التفويض الإلهي، حيث تكون
الآلهة في السماء وتحكم الأرض من خلال التفويض الى بعض المصطفين من
البشر ليحكموا نيابة عن الالهة وبنظرة فاحصة الى مدونات ووثائق تلك
الحضارات نجد تعدد من أنيطت به مهمة الحكم نيابة عن السماء مما يؤسس
لفكرة نفهمها اليوم على انها فكرة النخبة.
فالمدونات التاريخية تؤكد ان السلطة العليا في اقدم مجتمع سومري
كانت بيد مجموعة منتقاة تضم شيوخا وشبابا يشكلون مجلساً عاماً يصدر
القرار النهائي فيما يتعلق بالقضايا الهامة وسمي هذا المجلس بمشرعي
القانون، وذات الامر نجده في طروحات الفلسفة الإغريقية من خلال ما
تبناه افلاطون بتأكيده على أهمية الدور الذي تؤديه ما أسماها بالجماعة
النابهة ودورها في ادارة المجتمع.
وتجلى مفهوم النخبة عند العرب قبل الإسلام في الهيئة القبلية ودور
ما عرف بمجلس الملأ الذي هو بمثابة مجلس أعيان القبيلة ومن خلاله كانت
تتخذ القرارات التي تنظم حكم القبيلة وتضبط مسارات علاقة افرادها بعضهم
ببعض وأيضا علاقتها مع باقي القبائل.
وامتد مفهوم النخبة في الحكم الى اليمن من خلال ما عرف بمجلس
الأقيال أو مجلس الكبار الذي يتألف من النخبة الممثلة لقبائل اليمن
ولفظة (الأقيال) جمع لمفردة (القيل) والتي تعني شيوخ القبائل اليمنية
الذين هم بمثابة أهل الحل والعقد الذين يعتمد عليهم الملك باتخاذ
القرارات في السلم والحرب.
من هنا يتضح أن مفهوم النخبة لم يكن وليد العصور المتأخرة، ويجانب
الحقيقة من يرى أن مفهوم النخبة السياسية من المفاهيم المستحدثة والتي
لا يزيد عمرها عن الخمسين عاما كما نجد في كتابات الكثيرين، فكلمة
النخبة (Elite) ظهرت استخداماتها الأولى في القرن السابع عشر وكانت
تطلق على الجماعات الاجتماعية المهيمنة في مجتمعاتها و قد أستقر تأريخ
استعمال كلمة النخبة بمعناها الاصطلاحي المستعمل حاليا الى بدايات
القرن التاسع عشر ومع نهاية القرن التاسع عشر اخذ المصطلح مداه الواسع
في الأدبيات السياسية والكتابات الاجتماعية لاسيما الأوربية منها.
ومع أن عمر تبلور هذه النظرية قد زاد على القرن، إلا أن اللبس
والغموض يصاحبها من جوانب كثيرة ومهمة، منها علاقتها مع النظم الشمولية
والديمقراطية، آليات اختيار وعمل هذه النخبة، العلاقة ما بين النخبة
السياسية والاجتماعية وهكذا. اذ أشارت المعاجم الحديثة الى أن المراد
بمفهوم النخبة هو الأقلية المنتقاة في مجموعة اجتماعية (مجتمع أو دولة
أو أحزاب سياسية) والتي تمارس نفوذا متفوقا في تلك المجموعات بفضل
مؤهلاتها الفعلية أو الخاصة ومن هنا تسمى النخبة القادرة على أن تمارس
عملا أو نفوذا سياسيا فاعلا بالنخبة الحاكمة او النخبة السياسية،
واشارت الكثير من الدراسات الاجتماعية الى دور النخبة وأكدت أهمية
دورها وأثرها في الوسط الاجتماعي فموضوع النخبة السياسية يعد أهم
موضوعات علم الاجتماع السياسي.
فنظرية النخبة السياسية التي يذهب أنصارها إلى أنها حقيقة موضوعية،
لأن الشواهد التاريخية وواقع المجتمعات السابقة والمعاصرة، تتميز بوجود
أقلية حاكمة، محتكرة لأهم المناصب السياسية والاجتماعية، ودها مقاليد
الأمور، وأغلبية محكومة منقادة وليس لها صلة بصنع القرار السياسي.
بشكل عام فقد نال هذا الموضوع اهتماما كبيرا في الوقت الحاضر خصوصا
عند مناقشة مشكلات وإمكانيات البلدان النامية حيث يعتقد الكثير من
علماء الاجتماع السياسي أن النخبة تؤدي دورا مهما في مسيرة تلك
البلدان، ويذهب بوتومور الى وجود ارتباط وثيق بين المتغيرات في البنية
الاجتماعية وظهور النخبة فالمتغيرات المستجدة في البنية الاجتماعية
غالبا ما تمنح الفرصة لأعضاء جدد للانضمام الى مجموع النخب من خلال
عوامل مختلفة بحسب طبيعة المجتمع وحسب طبيعة تفاعل تلك العوامل مع
معطيات الواقع السياسي للمجتمع، فالبيئة والقدرة المهنية والتحصيل
الأكاديمي والخلفية الثقافية والثروة والحظوة الاجتماعية كلها عوامل
رئيسية لترحيل مجاميع اجتماعية الى عالم النخبة.
من هنا تتضح أهمية نظرية النخبة في دراسة النظم السياسية وتحليلها
كون طبيعة المجتمعات السياسية لا يمكن فيها ممارسة السلطة من قبل
الجميع مما يحتم وجود نخبة تتولى أدارة المجتمع وهذه سيرة المجتمعات
حتى البدائية منها وعبر مراحلها التاريخية بدء من مجتمعات السلطة
الابوية مرورا بسلطة زعيم القبيلة التي كان فيها زعيم القبيلة حاكما
تلتف حوله مجموعة أعيان القبيلة ممن يملكون قدرات وصفات لا تتوفر
للغالبية مما يجعل من هؤلاء نخبة المجتمع القبلي.
والحقيقة التي لايمكن اغفالها هي أن النخبة السياسية لا يقتصر دورها
على الجانب السياسي بل يتعداها الى الجوانب الاجتماعية الاخرى كالجوانب
الثقافية والعسكرية والفنية. فتاريخ البشرية يكشف عن حقيقة مفادها ان
التاريخ تصنعه جماعات محددة تقود أممها نحو مجدها وتحدد مستقبلها هذه
الجماعات هي النخبة سواء كانت هذه النخبة ممثلة للأقلية او للأكثرية.
وهنا يبرز جليا التداخل بين مفهومي النخبة السياسية والطبقة
الحاكمة مما أوجد اختلافا منطقيا بين علماء الاجتماع في التمييز بين
مفهومي الطبقة الحاكمة والنخبة الحاكمة اذ ان المفهوم الأخير يتألف من
أولئك الذين يتصدون الى الأوضاع السياسية المهمة في المجتمع بوصفهم
يشكلون وحدة متماسكة الا أن المفهومين قد استخدما لوصف الأحداث
السياسية وتفسيرها لذلك فان القيمة الحقيقية لها تتحدد وفق ما يملكان
من قدرة على تقديم اجابات واقعية عن التساؤلات المهمة المتعلقة بالنظم
السياسية.
وأبرز التساؤلات التي تواجه هذين المفهومين في هذا الجانب هو هل
يشكل حكام المجتمع طبقة اجتماعية ؟
تأتي الاجابة من عالم الاجتماع بتومور بان المفهومين يتفقان على
تأكيد التفرقة بين الحكام والمحكومين بوصفها تفرقة تعبر عن أهم جوانب
البناء الاجتماعي غير انهما يقران هذه التفرقة بطريقة مختلفة، فمفهوم
النخبة الحاكمة يقابل الأقلية المنظمة الحاكمة من جهة والأغلبية غير
المنظمة أو عامة الجماهير من جهة أخرى، اما مفهوم الطبقة فيقابل بين
الطبقة المتسلطة والطبقات الخاضعة والتي قد تكون على درجة من التنظيم
أو أنها متحفزة لإقامة تنظيمات فاعلة.
من خلال هذه التصورات المتباينة نشا الاختلاف في النظرة الى العلاقة
بين الحكام والمحكومين. لذا أطلقت كلمة النخبة للإشارة الى تلك
المجاميع السياسية والاجتماعية والعسكرية ذات المراكز العليا القادرة
على ديمومة التمايز بينها وبين باقي الأفراد ضمن البينة الاجتماعية في
عناوينها المختلفة. وربما يكون عالم الاجتماع موسكا أوضح من حدد مفهوم
النخبة برأيه الذي يذهب الى أن النخبة تحاول أثبات حقيقية وجود طبقتين
متميزتين من الناس طبقة تحكم وطبقة لا تحكم وهذا يشمل كل المجتمعات
المتقدم منها وغير المتقدم، فالطبقة الحاكمة تكون اقل عددا وأقوى سيطرة
على الوظائف السياسية وأشد احتكارا للقوة أما الطبقة المحكومة فهي أكثر
عددا لكنها خاضعة لتوجيه الطبقة الحاكمة ويبدو من هذا أن وظيفة النخبة
هي تشكيل الطليعة السياسية.
ومن كل ماسبق يمكن ان نخلص الى ملاحظتين جوهريتين الأولى – ان النخب
هي التي تشكل الرأي العام في المجالات المختلفة وهم من يصنع السياسات
العامة ولا تصنعها الجماهير, بل ان هذه النخب تتلاعب غالبا بعواطف
الجماهير ومشاعرها وبالتالي تحديد مواقفها اكثر من تأثر النخبة
بالجماهير. والثانية – ان المنطلقات الفكرية والسياسية وجوهر برامجهم
وسياساتهم العامة ماهي الا انعكاس للقيم السائدة في أوساط تلك النخب أو
انعكاس لحاجاتها وتطلعاتها السياسية.
من يرى أن حصر مفهوم النخبة بالطبقة الحاكمة فيه ظلم لتلك القوى
الفاعلة في أوساط مجتمعاتها وان لم تحكم كما في المعارضات الموجودة في
ساحات العمل السياسي فجوابه أن المعارضة اذا خرجت من أطارها فأنها
ستكون حاكمة وبالتالي ينطبق عليها الواقع الذي حددته نظرية النخبة.
* كاتب عراقي |