خولقة السياسة وحتمية صناعة نظام عالمي جديد

لطيف القصاب/مركز المستقبل للدراسات والبحوث

ثمة شبه اجماع في عالمنا العربي والاسلامي على الاقل بان مفردتي السياسة والاخلاق هما ضدان لا يجتمعان وبحسب هذه الفرضية المتداولة في العديد من الاوساط لاسيما الشعبية منها فان الأولى بالإنسان الصادق والنزيه ان لا يقترب من اسيجة السياسة كثيرا وإلا فان المصير الذي ينتظره لن يكون غير الهاوية التي سترمي به في مستنقع الرذيلة والفجور.

 ان ما يشجع على التسليم بهذه الفرضية على الرغم مما يعتريها من اشكاليات وشكوك هو السلوك المخادع الذي يظهر به السياسي عادة وما ينطوي عليه من غموض ومراوغة ناهيك بالجرائم المالية والفضائح الاخلاقية المستمرة التي تطال العديد من الرموز السياسية لدينا بين الحين والحين.

الحقيقة ان الايمان بمبدأ فصل الاخلاق عن السياسة هو من جملة التعاليم المستقاة من الفلسفات السياسية الغربية القديمة نسبيا، فعندما كتب نيكولاي ميكافيلي اطاريحه في السياسة قبل قرون وقرر في بعضها حتمية ايقاع الطلاق النهائي بين السياسيين (الناجحين) والاخلاق الحميدة لقيت هذه الفكرة رواجا كبيرا في البيئة السياسية الاوربية اول الامر بل اصبحت منهجا سياسيا عمليا طيلة حقب طويلة، لكن الناس هناك حتى السياسيين منهم اخذوا بالتخلي التدريجي عن جزء كبير من متطلبات هذه الاطروحة لاسيما في اطار السياسات الداخلية للبلدان الاوربية، وشيئا فشيئا بدأت الصورة النمطية للسياسي الاوربي تأخذ شكلا اخلاقيا الى حدما تفرض عليه الانصياع مرغما الى لائحة معايير انسانية يتصدرها التعهد بالتزام الصدق والنزاهة في التعامل مع المواطنين والا فان مصير السقوط المروع سيكون هو النتيجة التي لا مفر منها امام كل سياسي مخادع.

 غير ان هذا الهامش الاخلاقي لم يتعد حدود ملفات السياسة الداخلية الى السياسة الخارجية عاجلا فقد بقيت معادلة البقاء للاكثر مكرا وغدرا هي الحاكمة في واقع سياسات الدول الاوربية بعضها مع البعض الاخر الى وقت ليس بالقصير، لكن الفترة التي اعقبت سقوط الاتحاد السوفيتي السابق اتاحت وجود جو من الثقة فيما بين غالبية هذه الدول، الامر الذي قاد الى صياغة اعراف تحد من ممارسة الكثير من الخطايا السياسية الخارجية (المغتفرة سابقا) ومع ائتلاف اكثر الدول الاوربية تحت راية الاتحاد الاوربي وعقد شراكة استراتيجية اقتصادية مع الولايات المتحدة الامريكية بدا غرب العالم اكثر تماسكا من الناحية الانسانية، وتضاءلت الى حد بعيد الصراعات البينية بين الدول الغربية، وانتفى تقريبا منطق الغالب والمغلوب بين هذه الدول، هذا المنطق الذي ساد المجتمع السياسي الغربي في علاقات الطرف المنتصر مع الطرف الخاسر.

 وكما يبدو فان العقد السياسي الانساني المبرم بين هذه الدول كان بتوقيع مزدوج بين كبار الساسة وكبار الرأسماليين اي لم يكن بارادة سياسية منفردة، بل قد يكون العامل الاقتصادي هو صاحب الامضاء الاول والاخير، ولما لا يكون الامر كذلك وقد ادرك التاجر قبل السياسي منذ الازمن الغابرة بان الصدق والنزاهة ادعى لحفظ ونمو راس المال وان الثقة المتبادلة هي الكفيلة بادامة نسغ التجارة وتطورها ورقيها، وان التجارة بغياب الصدق والنزاهة والثقة محكومة سلفا بالموت والفناء، بل حتى الفلسفة الاقتصادية الرأسمالية نفسها اقتنعت ذات يوم بان الجشع الفاحش واستغلال الطبقة العاملة هي سلبيات لابد من تجاوزها إلى الأبد.

بيد ان خط علاقات الغرب مع دول العالم الثالث ومنه عالمنا العربي والاسلامي ما يزال يتبع ذات الاسلوب اللاانساني المبني على شره الاستعمار وسوء الاستغلال ونظرة الاستعلاء التي تقسم البشر الى صنف يستحق الاحترام واخر ليس كذلك.

 تُرى هل حان الوقت للعالم الغربي لكي يكون فيه عامل مساعد حقيقي لاشاعة حقوق الانسان والديمقراطية في البيئات المتخلفة التي ما تزال ترزح تحت الجور والفساد وغياب العدالة الاجتماعية والسياسية، ام ان ذلك الامر لما يزل امنية بعيدة المنال؟

قد يكون الامر مستبعدا، وقد يكون هذا الامر اقرب للحدوث مما نتصوره ان لم يكن حدث بالفعل، فالمتأمل في صورة الاحداث السياسية المتسارعة التي تشهدها منطقتنا العربية والاقليمية يلاحظ بوضوح طابعا جديدا في السياسة الغربية الخارجية تجاه هذه المنطقة تلوح من بين ثناياه الاستجابة الى رغبات الشعوب الطامحة الى الديمقراطية والحرية والانعتاق من ربقة الاستبداد حتى لو كلفتها هذه الاستجابة الاطاحة ببعض الماركات السياسية المصنعة اوربيا وامريكيا، فما آل اليه مصير زين العابدين بن علي في تونس ومحمد حسني مبارك يمنح مبررا معقولا لتبني مثل هذه الفرضية.

بقي سؤال لابد من الاجابة عليه بشكل حاسم ترى هل ان الارادة السياسية الغربية هي التي دفعت بهذا الاتجاه ام ان راس المال (العالمي) والشركات الكبرى متعددة الجنسيات هي من كان وراء السماح لهذا التغيير السياسي في نطاق عالمنا العربي ؟، الحقيقة ان العامل الاقتصادي يبدو انه الاكثر تأثيرا في هذه القضية ان لم يكن هو العامل الاوحد لاسيما ان الولايات المتحدة الامريكية وهي قائدة القطار السياسي الغربي شهدت تخبطا ملحوظا في التعاطي مع احداث الثورات الشعبية العربية في تونس ومصر وبدت كانها المراقب لما يحدث لا الصانع له.

كما ان البعض من المتابعين والمحللين ينظرون لهذه التغيرات من زاوية اخرى ويرون ان جهات اخرى تعمل في الخفاء تقودها النخبة العالمية الرأسمالية وقد يكون منتدى دافوس احد هذه الجهات، حيث تستفيد من القوة الناعمة المخملية لإدارة الاحداث بجدارة، ويرى هؤلاء المحللين ان ما يمنح شيئا من الواقعية لهذا الافتراض الاخير ان الثورة في البلدان العربية كانت قد اعدت خططها واديرت سناريوهاتها بواسطة (الفيس بوك) هذا المنتج التقني الغربي الخطير الذي فشلت بعض الجهات السياسية حتى الان في شرائه او شراء ذمته على اقل تقدير.

من هنا فأن العولمة والسياسة والاخلاق والاقتصاد قد تشكل مربعا يؤطر العالم بنظام عالمي جديد اكثر امنا واستقرار يسمح لرؤوس الاموال بالحفاظ على حرية مداولتها عالميا، واستعادة الغرب لدوره القيادي المتماسك الذي اصبح هشا بعد الازمة المالية العالمية الاخيرة، بعيدا عن عصابات الارهاب والمافيا والفساد والجريمة والاتجار بالبشر التي تشكل ثقوبا سوداء تنشر الفوضى وتلتهم مكاسب العولمة خصوصا الاقتصادية منها، لصالح انظمة متطرفة مستبدة ومتمردة على النظام العالمي.

* مركز المستقبل للدراسات والبحوث

http://mcsr.net

شبكة النبأ المعلوماتية- الأحد 6/آذار/2011 - 30/ربيع الأول/1432

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1432هـ  /  1999- 2011م