يعتبر أن أول من تعرض لحرب اللاعنف وأشار إلى فكرتها هو الكاتب
الأمريكي (هنري دايفيد ثوراو) في مقاله الشهير " العصيان المدني "
المنشور في سنة 1849م.
والعصيان المدني هو نشاط شعبي متحضر يعتمد أساسا على مبدأ اللاعنف
فكلمة مدني Civil والحضارة Civilization وهو عكس ما يتبادر إلى الذهن
أن المدني فقط يعني أنه عكس العسكري.. والعصيان المدني هو أحد وسائل
حرب اللاعنف.
ومن أهم أسس (حرب اللاعنف) هو الالتزام السلمي و اللاعنفي وعدم
اللجوء إلى البدائل العنيفة والقهرية لعدة أسباب أهمها :
أن المنتج النهائي لحرب اللاعنف يصعب تحقيقه من خلال اتباع وسائل
القوة والقهر والغلبة التي تمارسه (القلة) المتمكنة من السيطرة على
الحكم.. فالشعوب الحرة صاحبة الرسالة الحضارية هي الوحيدة القادرة على
إعادة توزيع القوة في المجتمع.
العنف لا يأتي بحكم ديمقراطي بل يزيد الدكتاتورية والاستبداد حيث أن
العنف يعتمد على استبدال مولد الطاقة في المجتمع بآخر.. وقلما نجحت
التجارب العنيفة في إقامة حكم ديمقراطي بينما اللاعنف يعتمد على إعادة
تعريف القوة وردها إلى الشعب.
الذي يستخدم العنف لا تتعاطف معه الجماهير ففي قضايا الاستبداد
الداخلي لا تتجاوب الجماهير مع فكرة العنف.
الذي يستخدم العنف لا يقابل بدعم معنوي أو مادي دولي بل يتم
محاربته كإرهاب وهو ما يعطي الحكومة شرعية محاربة ومواجهة الحركات
العنيفة وانطلاقا من نظرية تعدد مصادر القوة فإن الدعم الخارجي
للديكتاتوريات يعد شريان حياة أساسي لتغذية النظام واستخدام العنف يضمن
ديمومة تدفق هذا الشريان بينما حركات اللاعنف تسعى جاهدة لأن تخفف أو
تعزل الدعم الخارجي عن النظام لذلك تهتم بأن تبدو متحضرة.
فهناك أمثلة كثيرة و عديدة لاستخدام هذا النوع من الحروب بعضها ترجع
للعصر الروماني.. ففي عام 494 قبل الميلاد ثارت الجماهير في الدولة
الرومانية القديمة على ظلم القناصلة الذين كانوا يحكمونها.. ولم تلجأ
الجماهير إلى قتل القناصلة بهدف رد المظالم بل انسحبوا من المدينة إلى
تل سمي بعد ذلك " الجبل المقدس " وظلوا هناك عدة أيام رافضين المشاركة
في الحياة المدنية حتى تم إصلاح الأوضاع والموافقة على مطالبهم.
وفي حادثة مشابهة عاد الجيش الروماني عام 258 قبل الميلاد بقيادة "
ثيودور مومسن " من ميدان المعركة ليجد أن الاقتراحات التي قدمت من أجل
إجراء العديد من الإصلاحات قد تم عرقلتها في مجلس الشيوخ وبدلا من
استخدام الحرب العسكرية تقدم الجيش واحتل " الجبل المقدس " وهدد بإقامة
مدينة رومانية جديدة وعلى إثر هذه الحادثة تراجع مجلس الشيوخ ووافق على
الإصلاحات.. ولقد تمكن المؤرخون أيضا من رصد بعض حركات اللاعنف ما بين
العصور الرومانية وحتى القرن الثامن عشر مثل : " المقاومة الهولندية
للحكم الأسباني في الفترة مابين عامي 1565 و1576 - ومقاومة المستوطنين
الأمريكيين للحكم البريطاني في الفترة السابقة لعام 1775 – ومقاومة
المجريين للحكم النمساوي في الفترة ما بين عامي 1850 و1867 ".
وهناك أيضا بعض نماذج حركات اللاعنف في القرن العشرين حيث اهتزت
الخارطة العالمية اهتزازا وشهدت القارات موجات تغييرية عارمة وظهرت
تيارات وحركات ترفع ألوية حرب اللاعنف. معلنة إمكانية الفعل والإحساس
بعظمة الذات صارخة بالرغبة في التحدي والرفض والعصيان والمواجهة
السلمية.. على سبيل الأمثلة المذكورة في هذا المجال :
استخدمت الثورة الروسية هذا الأسلوب في أوائل القرن العشرين في عام
1905 م.
كما استخدمت النقابات العمالية في البلدان المختلفة الإضرابات
والمقاطعات الاقتصادية حيث قاطع الصينيون المنتجات اليابانية في أعوام
1908 و 1915 و 1919 م.
وفي العشرينات والثلاثينات من القرن العشرين استخدم المواطنون
الهنود حرب اللاعنف في كفاحهم ضد الحكم البريطاني تحت قيادة غاندي ونجح
هذا الكفاح المعروف في حصول الهند على استقلالها عام 1947 م.
وفي السبعينات خاضت الثورة الإيرانية ملحمة من ملاحم اللاعنف
انتهت بسقوط نظام الشاه الديكتاتوري عام 1979 م.
وفشلت محاولة المتشددين عام 1991 م بالإطاحة بالنظام في موسكو
نتيجة عدم التعاون والتمرد.
كما أسقطت ديكتاتورية ماركوس في الفلبين بواسطة التمرد اللاعنف
عام 1986 م.
وتمكنت الجماهير التشيلية من هزيمة الديكتاتوري اغوستو بينوشيه عام
1987 م.
وفي شهري يوليو وأغسطس من عام 1988م احتج البورميون الديمقراطيون
على الديكتاتورية العسكرية باستخدام المسيرات والعصيان مما أدى إسقاط
ثلاث حكومات وانتهى هذا الكفاح اللاعنف بقيام انقلاب عسكري جديد
وبمذبحة شعبية.
وفي عام 1989 م قاد الطلاب الصينيون الاحتجاجات الرمزية ضد الفساد
والقمع الحكوميين في أكثر من ثلاثمائة مدينة شملت بكين (مساحة
تيانانمن) وهي الاحتجاجات التي انتهت بالتدخل العسكري وقتل الكثير من
المحتجين.
وفي ابريل من عام 1961 م أدى رفض الجنود الفرنسيين للتعاون مع
سلطات الانقلاب العسكري في الجزائر وما واكبه من مظاهرات حاشدة في
باريس ومن رفض لحكومة ديجول لهذا الانقلاب أدى كل هذا إلى إحباط
الانقلاب العسكري في الجزائر والذي كان من المخطط في حال نجاحه أن يليه
انقلاب آخر في باريس.
كما لعبت الاحتجاجات اللاعنفية والمقاومة الجماهيرية دورا مهما في
تقويض سياسات التمييز العنصري والهيمنة الأوروبية في جنوب أفريقيا خاصة
في الفترة ما بين عامي 1950 و 1990 م.
استخدم الألمان أعمال اللاعنف في مواجهة العصيان المسلح الذي حدث
في عام 1920 م.
وفي الفترة من عام 1940 م وحتى 1945 م استخدمت جماهير العديد من
الدول الأوروبية خاصة النرويج والدانمارك وهولندا الكفاح اللاعنف
لمقاومة الاحتلال والحكم النازي وهو الكفاح الذي تمكن من إضعاف قبضة
الحكم النازي وتعد التجربة النرويجية من أكثر تلك التجارب نجاحا.
وفي عام 1968 و 1969 م تمكن التشيك والسلوفاك عقب اجتياح حلف وارسو
لأراضيهم من إيقاف السيطرة السوفيتية الكاملة لمدة ثمانية أشهر عبر
استخدامهم للكفاح اللاعنف ورفض التعاون.
وشهدت الفترة ما بين عامي 1953 وحتى 1990 م الاستخدام المتكرر
للكفاح اللاعنف من أجل مزيد من الحرية من قبل المعارضين للأنظمة
الشيوعية في أوروبا الشرقية وخاصة في كل من ألمانيا الشرقية وبولندا
والمجر ودول البلطيق.
في بولندا بدأ كفاح حركة التضامن عام 1981 م باستخدام الإضرابات
لدعم مطالب العمال بنقابات عمالية شرعية وحرة وهو الكفاح الذي انتهى
بسقوط النظام الشيوعي البولندي في عام 1989 م.
كما وقف الكفاح اللاعنف وراء سقوط الديكتاتوريات الشيوعية في
تشيكوسلوفاكيا عام 1989م وفي ألمانيا الشرقية واستونيا ولاتفيا
وليتوانيا عام 1991م.
في كوسوفو فقد شن المواطنون الألبان في الفترة ما بين عامي 1990
و1999 م حملة لا تعاون ضد الحكم الصربي القمعي وعندما عجزت الحكومة
القائمة في كوسوفو عن وضع استراتيجية لاعنفية من أجل الحصول على
الشرعية والاستقلال لجأ جيش تحرير كوسوفو إلى خيار العنف مستخدما أسلوب
حرب العصابات وهو ما أعقبه حملة قمع صربية وحشية ومذابح جماعية – سياسة
التطهير العرقي – تلك السياسة التي أدت إلى تدخل حلف الناتو (حلف شمال
الأطلسي) وإلى القصف الجوي.
وبدءا من نوفمبر من عام 1996م قام الصرب بمسيرات واحتجاجات يومية
في بلجراد ومدن صربية أخرى ضد الحكم المطلق والمستبد للرئيس الصربي
سلوبودان ميلوسوفيتش واستطاعوا إيقاف التلاعب بنتيجة الانتخابات التي
جرت في منتصف شهر يناير من عام 1997م ومع ذلك فقد فشل الصربيون
المنادون بالديمقراطية في وضع استراتيجية تمكنهم من الاستمرار في
الكفاح كما فشلوا في إطلاق حملة للإطاحة بديكتاتورية ميلوسوفيتش.
ولكن في بدايات شهر أكتوبر من عام 2000م تمكنت حركة أوتبور وهي
كلمة تعني المقاومة باللغة الصربية والمجموعات الأخرى المنادية
بالديمقراطية من الوقوف مرة أخرى في وجه ميلوسوفيتش عبر خوض الكفاح اللاعنف
ولكن بأسلوب مخطط ومتأن ومدروس هذه المرة وهو الكفاح الذي انتهى بإسقاط
الديكتاتورية.
وفي ربيع عام 1944 م تم الإطاحة بالنظامين العسكريين الديكتاتوريين
في كل من السلفادور وجواتيمالا باستخدام الكفاح اللاعنف.
كما استطاع مناضلو حركات الحقوق المدنية الأمريكية ضد التمييز
العنصري المتطرف تغيير القوانين والسياسات المتبعة منذ وقت طويل في
جنوب الولايات المتحدة الأمريكية باستخدام الكفاح اللاعنف... وغيرها
من الأمثلة الواضحة والمرتبطة بحركات اللاعنف والكفاح السلمي.
في الحقيقة وبصراحة..لقد شهد القرن العشرين الماضي تجليات رائعة
ومواقف عظيمة لكلمة " لا.. للعنف " وشهد كذلك تبلور مفهوم المقاومة
السلمية بشكل أكثر وضوحا ومنهج أكثر عقلانية.. لذلك نلاحظ أن المقاومة
السلمية وحركات اللاعنف لن تتوقف إطلاقا بل سوف نراها ونشاهدها بين
فترة وفترة أخرى في القرن الواحد والعشرين أيضا وخاصة في المناطق
الساخنة والمتوترة من عالمنا العربي والإسلامي والتي بدأت في الحقيقة
تتكشف صورها و ملامحها وعلاماتها واضحة وبارزة.. ويعتبر هذا التحول
الصعب من العنف إلى اللاعنف الذي لا يمكن عبوره إلا على جسر من النار
والدم والألم والدموع ولابد من تضحيات كبيرة جدا في هذا المجال..
فالتحول الصعب من العنف إلى اللاعنف جوهره إعادة ترتيب أولويات النفوذ
بين المؤسسات الثلاث (العسكرية والتمثيلية والحزبية) في المجتمع
الواحد. ويعتبر كذلك تطورا كبيرا ومهما في توفير الثقة وتثبيتها
وتأصيلها بين النخب المتنافسة وهذه الثقة الكبيرة هي التي تلعب دورا
رئيسيا ومهما في استقرار ساحة التبادل السياسي السلمي وهي من أهم ثمار
ما بعد التحول الصعب من العنف إلى اللاعنف. |