تنظيم الجماهير وصناعة التغيير السلمي

محمد علي جواد تقي/مركز الإمام الشيرازي للدراسات والبحوث

لايختلف اثنان على اهمية التنظيم في أية حركة جماهيرية نحو الاصلاح والتغيير، فالاهداف النبيلة والافكار العظيمة وحتى الامكانات الكبيرة لا يمكن ان تستغني عن عامل التنظيم طالما ان الجماهير هي صاحبة الكلمة الفصل عندما تشتد وطأة الازمات والمشاكل على ابناء المجتمع.

وللحقيقة نقول: ان التنظيم كمفردة ومفهوم يدعيه الجميع، لكن لا يطبقه بشكل صحيح إلا القليل، وذلك لحاجته الى عوامل نفسية وأخرى موضوعية في مقدمتها التحلّي بالصفات الاخلاقية اللازمة لبناء الجماعة التنظيمية، كالتواضع والايثار والاخلاص والصدق والامانة، الى جانب الوعي والثقافة والتعقّل المنضوية ضمن العوامل الموضوعية.

 أما الحالة الجماهيرية فهي مسألة صعبة باقرار الجميع لكن بامكانها ان تأتي بنتائج عظيمة، وصعوبتها تكمن في كونها تضم أمزجة وتوجهات متعددة واحياناً متعارضة، لذلك قيل (رضا الناس غاية لا تُدرك)، لكن عندما يكون التنظيم – المفهوم- في خدمة الجماهير – الحالة- فاننا سنوجد تياراً جماهيرياً عارماً بامكانه تحقيق الكثير من الاهداف عبر الطرق السلمية. أما في غير هذه الحالة فاننا سنكون أمام حالة فوضى تكون الجماهير المنتفضة أول ضحاياها، ويكون للدولة مع ظلمها وانحرافها، الشرعية والمبرر لقمع هذه الانتفاضة بحجة القضاء على الفوضى والشغب وحماية المصالح العامة.

وهذا تحديداً ما يحذر منه المصلحون والمفكرون وفي طليعتهم المرجع الديني الراحل الامام السيد محمد الحسيني الشيرازي (رحمه الله) الذي أضاء للطامحين للثورة والتغيير في العراق وسائر بلاد الاسلام، السبيل الى تحقيق التغيير نحو الافضل، وفي كتابه (السبيل الى إنهاض المسلمين) والذي صدر أول مرة في مطلع الثمانينات من القرن الماضي، أشار المرجع الشيرازي الراحل الى جملة من عوامل النهوض وأساليب التحرك وطرق النجاح، منها مسألة التنظيم الذي يتحول عنده من مفهوم الى كيان على الأرض له افراده ومنهجه وايضاً قيادته.

وبما ان المعروف صعوبة صهر التيار الجماهيري الغاضب والثائر في بوتقة التنظيم، فان سماحة المرجع الراحل يؤكد في هذا الكتاب وفي مؤلفاته الاخرى بل وجميع أحاديثه على تقوية أواصر العلاقة بين الجماهير وبين التنظيم في كل الظروف، حتى لا تخرج الامور من عقالها وتتحول الثورة الى فوضى، ويتحول المظلوم الى ظالم، ويقول: (ان تحمل تلبية مطالب الجماهير أسهل من تحمل وجود العدو).

إذن؛ فالقضية في غاية الاهمية والحساسية ولاتحتمل الاختلاف، فلابد من تحديد الهدف من التحرك، وإلا ربما تصاب جوانب في التحرك الجماهيري بنيران وشرارات الجماهير نفسها، كأن يُساء فهم التنظيم في استشاراته او يتم تجاهل قائد التنظيم او حتى تحريف كلامه والتقوّل عليه. وهذا تحديداً ما يريده الطرف الآخر، وهو تعميق الفاصلة بين التنظيم والجماهير لاحتواء الاثنين او قمعهما بسهولة. فلابد من آلية لبقاء التنظيم قوياً ليكون خير داعم للجماهير:

أولاً: استيعاب الحالة الجماهيرية

إن التنظيم الذي يحمل جملة من الافكار والنظريات ويتطلع دائماً نحو المستقبل لتحقيق هذه النظريات، تقع عليه مسؤولية تفهم الجماهير التي لا تفكر إلا بحاضرها وواقعها الذي تعيشه، لنأخذ مثال العراق الذي نعيش أجوائه، فان الناس لا يفكرون – وهم غير ملومين في ذلك- سوى بالخدمات من قبيل الماء والكهرباء والمحروقات والطرق والمواصلات، الى جانب فرص العمل، ومن يعيش الشحّة والازمة في هذا الامور لن يفهم بأي حال من الاحوال نصائح التنظيم بالتطلع نحو المستقبل من خلال افكار ونظريات معينة رغم صحتها. من هنا فان مسألة الاستيعاب والتفهّم تكون ضرورة قصوى في دفع مسيرة التحرك الجماهيري المنظم لتحقيق اهدافه، وهو أمر ليس بالهيّن، لأن الناس ليسوا ادوات صامتة للتغيير إنما هي خليط من المشاعر والقدرات والامكانات.

 والى ذلك يشير المرجع الشيرازي الراحل حيث يستشهد بالانبياء والأئمة الاطهار صلوات الله عليهم وكيف نجحوا في هذه المهمة خلال مسيرتهم الاصلاحية، ومن الامثلة الكثيرة على ذلك قصة أمير المؤمنين عليه السلام مع بائع التمر الذي طلب منه الامام عليه السلام رد الثمن الى تلك الجارية التي كانت تبكي في الطريق خشية من أهلها بعد ان رفضوا التمر وطلبوا منها رد الثمن، فوافق البائع على طلب الامام بعد ان تجاهله بدايةً ثم طلب العفو منه عليه السلام، فقال له أمير المؤمنين: اذهب وأقل الجارية و ردّ دراهمها واجمع تمرك، أما ما طلبت منّي أن أرضى عنك، فما أرضاني عنك إن أصلحت أمرك وأرضيت الناس عن نفسك! ويعبر سماحة الامام الراحل عن هذه الجملة: (ما أرضاني عنك إن أصلحت أمرك وأرضيت الناس عن نفسك)، بانها (سر النجاح، وهو دستور وليس للزعماء وحسب، إنما لكل انسان يريد العيش بسلام ويكون محبوباً عند الجماهير، سواء كان قائداً أو خطيباً أو رئيس دولة أو موظفاً....).

هذا من التاريخ الاسلامي ومن سيرة الأئمة المعصومين، وهناك الكثير من القصص المتعلقة بسيرتهم العطرة وقبلهم طبعاً السيرة المشرقة للرسول الأكرم صلى الله عليه وآله، ولنا في التاريخ الحديث قصة أخرى ربما تكون أقرب الى واقعنا المعاصر وتعود الى أيام ثورة العشرين، فقد كانت الجماهير العراقية في أوج تحركها الثوري ضد الاستعمار البريطاني، وبما ان اللقاءات والزيارات والاعمال متراكمة على المرجع الراحل والقائد الشيخ محمد تقي الشيرازي، فانه لم ينس الشريحة البسيطة من المجتمع وكذلك طلبة العلوم الدينية، وينقل المرجع الراحل عن أحد المراجع الذين عاصروا القائد الشيرازي بانه قال لنا: (أيها الطلبة... اني قبل الثورة كنت اتمكن من قضاء حوائجكم شخصياً، أما بعد الثورة فاني مشغول بالمسؤوليات، ولا أتمكن من قضاء حوائجكم فرداً فرداً، كما انكم لا تتمكنون من الوصول اليّ بسهولة بسبب الازدحام حولي، فاذا كانت لاحدكم حاجة فاني في كل يوم وبعد صلاة الصبح أخرج الى الشوارع الممتدة في أطراف كربلاء المقدسة، فيتمكن كل طالب علم أو أي شخص آخر يريد لقائي على انفراد، أن يأتي في ذلك الوقت لأقضي حاجته)، يروي ذلك العالم الذي كان آنذاك احد طلبة العلوم الدينية، باني شخصياً ذهبت عدة مرات الى هناك، وكنت أرى الامام الشيخ محمد تقي الشيرازي وحده يسير على حافة نهر الحسينية، وأحياناً كنت أرى اشخاصاً من افراد المجتمع او حتى الفقراء يلتقون به وهو يقضي لهم حوائجهم.

هذا السلوك من القائد الشيرازي الراحل هو الذي جعل ثورة العشرين تسجل أعظم نقطة ايجابية في تجربتها وهي العلاقة الوثيقة بين الجماهير والقيادة، وهذا ما جعل أمر التنظيم يكون سهلاً يسيراً بل كانت عملية انسيابية تماماً، رغم تعدد العشائر والقبائل وشرائح المجتمع العراقي المشارك في هذه الثورة، وهذا ما يشهد له جميع من كتب عن ثورة العشرين والذين أرخوا للتاريخ العراقي الحديث، فهم إن أشكلوا على مسار الثورة ودوافعها وظروفها الاجتماعية، لكنهم لم يسجلوا حالة فوضى او انشقاق او تحرك خارج التنظيم الذي كان يقوده الشيخ الشيرازي الراحل.

حتى أفول نجم الثورة، فانه لم يكن باسباب داخلية إنما لاسباب خارجة عن قدرات الشعب العراقي، فقد أوغل البريطانيون في دماء العراقيين ومارسوا ضغوطاً شديدة عليهم قبل ان يرضخوا للأمر الواقع ويقبلوا بحاكم غير بريطاني على العراق.

ثانياً: تضافر الجهود المنظمة

في الساحة الاسلامية هنالك العديد من التنظيمات تعمل لنشر الوعي والثقافة في المجتمع، وهي منتشرة في البلدان الاسلامية، وهي تمتلك دور النشر والمكتبات والمؤلفين والمثقفين والقنوات الفضائية، ولكن مشكلة كل هذه المؤسسات الثقافية والاعلامية أنها تحوم حول نفسها، فهي تتحدث باصوات متعددة وبلغات ثقافية مختلفة، وهم غير جاهلين بالمعترك الحضاري الذي يخوضه العالم، وأهم مميزاته الوحدة وتظافر الجهود، لنلاحظ مثلاً حالات الاندماج بين المؤسسات الاعلامية في الغرب مثل اندماج مجلات اسبوعية شهيرة مع قنوات فضائية، او وكالات انباء مع صحيفة يومية، و وصل الأمر الى مواقع الانترنت حيث تتعاون مواقع رئيسة وحاكمة مثل (ياهو) مع موقع التواصل الاجتماعي (فيسبوك)، ثم انضمام موقع اجتماعي عربي الى هذا التكتل، وهذا ما يشير اليه الامام السيد محمد الشيرازي الراحل حيث يطرح نظرية شاملة تسع الأمة الاسلامية، ويقول مؤكداً: من الضروري على التنظيم الاسلامي الواعي الذي يريد إقامة حكم الله تعالى في الارض، أن يعمل جاداً لأجل ان يصبّ كل المؤسسات الاسلامية في تيار واحد، حتى تكون حركة الامة واحدة، وتكون الامة كالبنينان المرصوص. ويقدم سماحته طريقة عملية لتحقيق ذلك باتباع الخطوات التالية:

الخطوة الأولى: إعداد مسودة التعاون، تتوحد على اساسها كل القوى الاسلامية من منظمات وحركات.

الخطوة الثانية: انتخاب جماعة من المثقفين ممن يحملون الفكر الاسلامي ويلتزمون بالاسلام منهجاً وسلوكاً في حياتهم، وتكون مهمتهم صبّ طاقات التنظيمات المتعددة ومؤسساتها في تيار واحد.

الخطوة الثالثة: التحرك لتشكيل قيادة واحدة، يتم تشكيلها بانتخاب الأكثرية، وتكون مهمتها اتخاذ القرارات المناسبة في مسيرة الحركة الاسلامية.

ويؤكد الامام الشيرازي ان تحقيق ذلك سهل ويسير اذا توفرت حركة عاقلة وحازمة ومفكرة ومخلصة ومضحية قادرة على توحيد الجهود. ويستشهد سماحته بما قام به الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله في بداية دعوته الى الاسلام، وكيف انه جمع القبائل العربية المتناحرة وجعلها في خدمة الاسلام لينتشر بسهولة في ارجاء العالم.

فاذا كانت هذه التجربة ناجحة على صعيد الأمة الاسلامية الكبيرة ورائدها الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله، فاننا الآن وفي هذه البرهة الزمنية وفي هذه الظروف التي نعيشها، يمكننا ايضاً ان ننجح في هذه التجربة على صعيد البلد الواحد، وليكون هذا البلد نموذجاً لسائر البلاد الاسلامية، ففي البلد الواحد مثل العراق هنالك العديد من التنظيمات والمؤسسات الثقافية التي تجتمع على هدف واحد وهو نشر الثقافة الاسلامية للجماهير، وفي طرح مبدع من الامام الشيرازي يقول: (ان الاتساع البشري الذي تحقق للنبي الأكرم في بداية تأسيسه الدولة الاسلامية، يعطينا دليلاً على امكانية تصعيد التجمعات الاسلامية في العصر الحاضر).

 وبالإمكان قراءة ما بين سطور الكتاب، وكيف ان الامام الراحل يتمنّى بكل لهفة ان تشهد الامة الاسلامية يوماً ما هكذا تجربة تشكل تياراً اسلامياً واحداً يقول عنها: (تتمكن من التصرف بالبلاد الاسلامية بشكل كامل ويلتف حولها المسلمون، وبعد ذلك فالويل للمستعمر الشرقي او الغربي إن اراد مواجهة هذا التيار...)!!

حقاً إن التنظيمات والمؤسسات الثقافية والسياسية ايضاً مدعوة اليوم لأن تتضافر في جهودها وطاقاتها لتشكيل تيار اسلامي واحد يكون مدعاة لأحياء الامل في نفوس الجماهير بتحقيق التغيير المطلوب، إن كان في اطار الاصلاح والترميم، وإن كان في اطار التغيير الشامل.

لنلاحظ ما يحصل في البلاد العربية من مواجهات عنيفة بين الشعوب وحكامها، صحيح إن الغلبة دائماً تكون للشعوب، وان عاقبة الطغاة والمفسدين معروفة سلفاً، لكن هؤلاء الطغاة قاموا اضافة الى النهب والسلب والقمع، بعمل صامت خلال فترة تواجدهم في الحكم والتي امتدت على عقود من الزمن، ألا وهو اعداد جيل من الطفيليين وزرعهم داخل المجتمع، فمنهم من يكتب في الاعلام ومنهم من يمارس مهام دينية ومنهم في سلك القوات المسلحة ومنهم في التجارة بل وحتى في المؤسسات الاكاديمية، وهؤلاء مع ضلالهم وافتقادهم للمنطق السليم إلا ان الذي كان يجمعهم هو التنظيم المحكم، لذا وجدنا طيلة السنوات الماضية كلمة واحدة منهم: (يحيا الزعيم)! وهذا ما جعل اشخاص تافهين من امثال مبارك والقذافي وعلي عبد صالح وغيرهم يستمرون في الحكم طيلة ثلاثين او اربعين سنة، وعندما اراد الشعب اقتلاعهم كان مجبراً على ان يدفع ثمناً باهضاً من دماء ابنائه قبل ان يتمكن من التخلص من هذا السرطان الخبيث.

* مركز الإمام الشيرازي للدراسات والبحوث

http://shrsc.com/index.htm

شبكة النبأ المعلوماتية- الأربعاء 2/آذار/2011 - 26/ربيع الأول/1432

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1432هـ  /  1999- 2011م