المستقبليات.. في فكر الإمام الشيرازي الراحل

محمد الأديب

الاهتمام بالدراسات المستقبلية وجعلها جزء واضحاً من واقع الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والمعرفية وغيرها ما هو إلا تجسيد لحاجة وضرورة إستراتيجية على الصد كافة، فقد أصبح علم المستقبل يمثل أحد العلوم المهمة في دول العالم المتقدم، وتسخر له الإمكانات الكبيرة من الأكاديميين والباحثين في مختلف العلوم، وتؤسس من أجله الكليات ومراكز البحوث والدراسات.

يشير المستقبليون الى إننا لا نفكر في الحاضر، فالحاضر ليس هدفنا فقط، بل الماضي والحاضر هما وسيلتنا، أما هدفنا الأوحد فهو المستقبل، فالماضي قد مضى، والحاضر لحظة عابرة، وكل ما نفكر فيه أو نفعله في الحاضر يمكن أن يؤثر على المستقبل.

وسئل العالم الفيزيائي الكبير آينشتاين لماذا اهتمامك بالمستقبل؟ أجاب: "لأنني ذاهب إلى هنـاك". ويقول تشارلز كيترنج: "اهتمامي منصب على المستقبل لأنني سأمضى بقية حياتي فيه". والأكثر من ذلك، وفي إشارة دقيقة يبين الإمام المجدد السيد محمد الحسيني الشيرازي أهمية علم المستقبليات بدوافع الإنسان الفطرية حيث يقول (قدس سره): "جُبل الناس جبلوا على حب الاطلاع على ما يدور فيما حولهم كما جبلوا على حب الاطلاع على أخبار الماضين".

وفي مقام آخر يخصص (أعلى الله درجاته) أهمية علم المستقبل لجهة المسلمين على إنه "يلزم العمل على استشراف آفاق المستقبل، ورسم صورة مستقبلية لموقع البلدان الإسلامية في المحيط الاقتصادي الإقليمي والدولي، وتحديد مفهوم معين للأمن الإسلامي، وتصوير إمكان قيام السوق الإسلامية المشتركة، وما يرتبط بها من الحرية الاقتصادية، والمنافسة، والحماية، والدعم".

وفي الوقت الذي تطمح شعوبنا الى نشر قيم الحرية والعدالة الاجتماعية والسلام والرفاه، وإذ تسعى مجتمعاتنا – جاهدة - للقضاء على أنظمة الاستبداد وسياسة القمع وسجون التعذيب والفقر والخوف والتخلف والفساد ودين الإرهاب، وتوفير فرص العمل والتفوق، وضمان حق الوجود والكرامة والحياة، وتحقيق السلام الأهلي والعالمي، يعيش معظم العالم الإسلامي تيهاً في ركام أزمات حاضره البائس، حيث يصف الإمام الشيرازي (قدس سره) الواقع الإسلامي قائلاً: "إن ما نراه في بلادنا اليوم من فوضى واضطرابات، هو نتيجة كبت الحريات، وحكم الاستبداد والديكتاتورية، لأن الاستبداد له مردود سلبي على المجتمع، ويوجب الفوضى واللانظام"... وهذا التيه المريع الذي يعيشه العالم الإسلامي منذ عقود أو قرون جعله بعيداً عن استشراف المستقبل والتخطيط الاستراتيجي لمتطلبات المستقبل وتوقعاته، الأمر الذي يضيف أزمة على أزمات حيث يقول الإمام الشيرازي الراحل (أعلى الله درجاته): "انعدام بعد النظر من سمات المجتمع المنحط، وكثيراً ما يقع الإنسان في المسالك الضيقة من انعدام بعد النّظر عنده، كما أن انعدام بعد النظر يسبب للأمم مشاكل لا تعد ولا تحصى، وأحياناً مشكلة تبيد الأمة".

يؤكد المستقبليون قدرتهم على القيام بتحسينات بسيطة للعالم الحاضر فالتغييرات الأساسية تتطلب وقتاً طويلاً عبر دورة حياة تحدد عمرها قيم المجتمع الدينية والفكرية والأخلاقية وحقيقة الالتزام بها، وهو ما يثير التفاؤل بأن للإنسان (الكادح / المبدع) قوة تمكنه من صنع المستقبل البعيد الواعد الذي لا يتحقق إلا عبر حركات تغييرية متتابعة تتجه نحو (الهدف / المستقبل). يقول الإمام الشيرازي الراحل (أعلى الله درجاته): "إذا عرف الإنسان ملابسات المستقبل لا تهوله صدمة الواقعة المؤلمة، التي قد تقع يوماً ما والّتي قد توجب انسحابه من الساحة، وإذا أراد ممارسو التغيير أن يصلوا إلى الهدف المنشود، فالّلازم أن يكونوا واقعي الهدف وبعيدي النّظر، كما أن التهيؤ الصحيح والهمة العالية وبعد النظر هي الّتي تأتي بالنتائج وإلا فليس بالأماني تعطى الثمار".

في إطار تأكيده على تجدد حياة الإنسان وتعدد متطلباته كلما تقدم الزمن يقول الإمام الشيرازي الراحل (أعلى الله مقامه): "مع تعقد الحياة ازدادت حاجات البشر وأصبح من الصعب جداً إشباعها، لأنها في تكاثر مستمر مع تطور وسائل الحياة، وإن نشوء حاجات البشر المتجددة، تعود إلى التقدم المادي في المجتمعات البشرية، وزيادة في سن القوانين وانتشار الحروب". لذلك فإن إدراك المجتمع لديمومة تغير الحياة الإنسانية وتطورها، وإن عموم البشرية تسير وفق قناعات قد تقرر مستقبل البشرية جمعاء في ظل وتيرة تغييرات ومتغيرات متسارعة تمس حياة (الإنسان / الفرد) المعنوية والمادية على حد سواء، حيث ثقافة العولمة (العالم أصبح قرية صغيرة)، وحيث طبيعة هواجس المستقبل الذي سيواجهه (الفرد أو المجتمع) المنعزل! والتساؤل حول ما هو مصير (الفرد / المجتمع) الغارق في أمجاد الماضي وإيجابياته أو العالق بأوحال التاريخ وسلبياته، وبموازاة ذلك، فإن هناك تغافل سقيم عن سقم الحاضر وأخطائه!. يقول الإمـام الشيرازي الراحل (أعلى الله مقامه): "يزداد التمسك بالماضي عادة والنكوص إليه بمقدار شدة الآلام المعنوية الحاضرة، من ناحية، وإغراءات الماضي السعيد من ناحية ثانية، فيريد الإنسان إعادة ذلك الماضي السعيد ويمارس عملية تزيين له من خلال طمس عثراته من جانب، والمبالغة في تضخيم حسناته من جانب آخر، وهكذا يتحول الماضي إلى عالم من السعادة والهناء والمجد والاعتبار، ويتصور الإنسان بهذا التصور الخيالي أنه يضمن من ثنايا هذا الأمر أملاً في التقليل من ألم الحاضر بوصل المستقبل بأمجاد الماضي أو استعادة هذه الأمجاد في مستقبل قريب أو بعيد، وبذلك يزعم أنه يحتفظ بقدرته على مجابهة الحاضر الذي يشكل تحديات لا قبل له بها، لكن يستمر في العيش بحد أدنى من التوازن، وهذا هو حال الإنسان المقهور في أي جانب من جوانب الحياة".

إن إدراك ذلك كله، والاعتراف بأن أزمات الحاضر قد نجمت عن إخفاقات الماضي، كل ذلك من المفترض أن يعمل على تحفيز العقول والهمم نحو بناء (المستقبل الأفضل)، وتحصين وضبط رؤية أن ما نفعله اليوم سيقرر طبيعة حياتنا ويرسم العالم الذي سيكون لا العكس، وهو ما يبدو واضحاً في مفاصل مجتمعاتنا الإسلامية حيث يدب التقاعس، والاتكالية، والـ لا تخصص، والسطحية، وحب الذات، وثقافة التبرير، والانزلاق الى ترف الحياة، والتمسك بمظاهر الأمور دون سبر أغوارها، بينما يقول المصلح الكبير الإمام الشيرازي الراحل: "على الفرد تحمل الحاضر المؤلم لمستقبل يحفه اليسر والهناء، فإن المستقبل المشرق لا يكون إلا بشد الأحزمة وتحمل الصعوبة". مبيناً (قس سره) أنه "يلزم على القادة الإسلاميين أن تكون لهم رؤية كاملة للمستقبل، فإن المستقبل له موازين خاصة، إذا عرفها الإنسان، عرف المستقبل، وإذا لم يعرفها، لم يعرف المستقبل، فإذا عرف الإنسان المستقبل، تمكن من أن يضع الخطوط العريضة له، لكي يأمن من النكسة والتجمد والسقوط".

لضرورة وأهمية وضع آليات تنظيم إيقاعات الارتقاء الإنساني الشامل الذي ينطلق من نقد الذات، وتحديد الأزمات، والتطلع الى حياة حرة وكريمة، ينبغي لأمة الإسلام أن تدرك أنها لن تصل الى مستقبل أفضل ما لم تع الأبعاد الإنسانية والحياتية لدينها، وأن تعيد قراءتها للإسلام بآلية تجمع بين الأصالة والحداثة وتنظر الى المستقبل نظرة إستراتيجية مسؤولة بعد أن تتحرر من قيود الاستبداد والإلغاء والتكفير الذي ملأ الأرض ظلماً وإرهاباً ودماءً وقمعاً وخراباً وفساداً وفقراً وخوفاً وبطالة ويتماً وتخلفاً ومرضاً، وكل ذلك يجري باسم الإسلام، والإسلام منه براء!. وفي نفس الوقت، فإن أمة الإسلام تملك دوافع التغيير وأدوات، وإمكانيات الإصلاح وآلياته، وأسس النجاح وعوامله، لكن التغيير – كما يقول الإمام الشيرازي الراحل – يحتاج الى منهج وناهج.

* موقع الإمــام الشيرازي

www.alshirazi.com

شبكة النبأ المعلوماتية- الأحد 27/شباط/2011 - 23/ربيع الأول/1432

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1432هـ  /  1999- 2011م