تنشط التحليلات السياسية ويدلي الكل بدلوه، في حوار غير مسبوق، بعد
أن انطلق تسونامي الثورة والتغيير بشكل جارف لم تنفع معه كل سدود
العالم القديم التي لا تصمد كثيرا حتى تبدأ بالانهيار، ليجتاح النظام
الرسمي العربي، حيث ابتدأ العقل الجماهيري الجمعي يتشكل بممارسة عملية
نقدية اتجاه النظام القديم المتآكل والمتقيح. وحتما انه سيجد تعبيراته
الفكرية والقيمية والتنظيمية مع الحراك السريع المتجدد كما هو منطق
التاريخ.
ابتدءا علينا أن نؤكد أن الآم الولادة والمخاض ليست سهلة بل عسيرة،
في حالة التغييرات الكبرى، وأن قوى المجتمع القديم لن تخلي الساحة
بسهولة. كما ان الكثير من جهات الهيمنة الخارجية دولية وإقليمية ستحاول
التسلل لاستثمار ما يجري وحرفه عن أفقه وبذلك نغلق الجدل غير المفيد
الذي يحاول نقل اتجاهات الصراع من وقائعه الحقيقية إلى وهم حقائق
افتراضية تحرف الأذهان والأفعال إلى مسارب أخرى.
بعد أن فشلت الأنظمة التقليدية القروسطية، وكذلك أنظمة العسكر
المتداخلة مع أحزاب وأنماط تفكير وسلوك اقرب إلى النمط الفاشستي التي
قادت ما سمي بحركات التحرر الوطني التي فشلت في بناء اقتصاد متطور يخرج
بلداننا من حالة التبعية الاقتصادية –السياسية للمراكز الرأسمالية
المتطورة ليتحول حكامها إلى حكام فاشست يحكمون مدى الحياة.
بعد إن فشلت كل هذه الأنظمة ساد التخلف والفقر ونهبت ثروات هذه
البلدان بين طبقات طفيلية محلية ونهب خارجي منظم، علما إن ثروات هذه
البلدان، الطبيعية والبشرية الهائلة تجعل من هذه الدول في مصاف الدول
الكبرى المتقدمة. لوكان هنالك أنظمة وطنية ديمقراطية حداثوية.
بعد كل هذا الإذلال والجوع والقمع وتحول الكثير من القادة والأحزاب
والحكام إلى أنصاف آلهة وعصابات سياسية مافيوية انتفضت الجماهير لتثأر
ولتكنس أسباب ومسببي بؤسها بعد أن كسر الشعب التونسي حاجز الخوف وكشف
هزال وكارتونية هذه الأنظمة وعجزها لتفوح الرائحة النتنة لفضائحها
لتتحول هذه الانتفاضات إلى ثورات كبرى.(وهذا ما يبدوا جلياً في حالة
ثورة مصر حيث اصطدمت مبكراً برأس النظام لتطيح به ولم تهدأ مطالباتها
بعد ذلك إلا بإسقاط النظام بكل رموزه ومؤسساته).
ومن خلال ثورتي تونس ومصر ترى أن الزمن الجديد قد ابتدأت ملامحه
ترتسم كثورة جماهيرية سلمية متحضرة تربط بين قيم المواطنة والحداثة
والحرية والعدالة الاجتماعية ورفض القائد الضرورة أو الأحزاب الضرورة
لتقطع صلاتها بقيم النظام القديم الزائفة عن الأبطال المنقذين. لقد
استطاعت هاتان الثورتان عزل وتطويق كل أساليب الأنظمة الانحطاطية
وأعمال (البلطجة) والتخريب ليحموا المؤسسات والمدن والأحياء من شرور
تخريب الأنظمة والفئات المنحطة. الطبقة السائدة بكل قيمها التخريبية
تقابلها قيم الثورة بمحافظتها على مصالح وأمن الشعب ولا بأس أن تذكر
حماية المتحف المصري من قبل المحتجين.
الدرس المهم الذي أفرزته الثورتان هو وحده الهدف والشعارات مما وحد
الجماهير ووحد احتجاجاتهم لتثمر وتحقق النصر ولم تسمح للفئويين وأصحاب
الأجندات المختلفة من ركوب موجة الثورة بل حجمتهم وجعلتهم مصدر قوة
للثورة لا مصدر ضعف وبذلك قطعت الطريق على الاختلافات الضارة التي قد
تمزق الثورة.
لقد كانت الشعارات واضحة ومحددة، الحرية والكرامة والعمل والعدالة
الاجتماعية، وبذلك اصطدمت بالجوهر، بأنظمة الطبقات الكومبرادورية
الطفيلية ومشاريع اللبرالية الجديدة التي تسعى إلى إطلاق قوى السوق
العمياء وخلق طبقات حاكمة من سراق المال العام ووكلاء الشركات الأجنبية
الذين يسعون إلى الثراء الفاحش السريع على حساب الشعب الذي يعيش في فقر
مدقع وكبت للحريات وإلغاء لوجود الإنسان وحقوقه مقابل توفير الشروط
اللازمة لنهب ثروات الشعوب وإعادة تدوير رأس المال ليصب في جيوب
الاحتكارات الكبرى للدول المهيمنة.
بعد النجاح الذي حققته ثورتا تونس ومصر واندلاع الثورة في العديد من
دول المنطقة تحاول القوى الحاكمة المحلية وقوى مراكز الهيمنة العالمية
أن تقطع الطريق على انتشار هذه الثورات بمحاولات مشبوهة لدمج أساليب
الفوضى الخلاقة بأساليب الثورة الخلاقة لتخريبها وخلق الأجواء للقوى
الفاشية والظلامية لتصدر هذه الثورات وتخريبها وأقامت حكومات استبدادية
فاشية بتغليب قوى الفوضى الخلاقة على قوى الثورة الخلاقة لخلط الأوراق
من جديد.
يشهد العراق، كغيره من الشعوب المضطهدة، احتجاجات جماهيرية واسعة
حيث يبدو المشهد العراقي أكثر تعقيدا وخطورة لوجود الهيمنة الأجنبية
المباشرة – الاحتلال – إضافة إلى وضع سياسي واجتماعي واقتصادي وامني هش
تخترقه التدخلات الخارجية، وكذلك هيمنة طبقة سياسية فاشلة تتصارع على
النفوذ والمغانم مما يتطلب الانتباه الشديد للأجندات الخارجية
والداخلية المشبوهة التي لا تخدم المصالح العراقية والحذر من استغلال
البعض من أطراف هذه الطبقة السياسية لتجيير هذه الاحتجاجات لمصالحها
الحزبية الضيقة. |