شبكة النبأ: الاوضاع التي تحدث في
منطقة الشرق الاوسط، تستدعي وقوف المثقف عندها وقفة المتفحص، المهتم،
والمعني بالامر، بعيدا عن الجوهر او التوجّه الثقافي الذي يؤمن به،
وينتمي إليه، ويُبدع ويكتب في ضوئه، والعراق جزء من هذه المنطقة التي
باتت تغلي وتتحرك نحو مسارات تحاول أن تصحح الخطأ وتثأر من الغبن الذي
أُلحق بشعوبها من لدن الحكام، ففي غضون أسابيع أخذت عروش راكزة على مدى
عقود، تتهاوى تحت ضربات الغضب الجماهيري، كما حصل في تونس ومصر وليبيا،
وحكومات اخرى مرشحة للمصير نفسه، مثل اليمن والجزائر والاردن وغيرها.
في العراق تصاعدت بوادر المقت الجماهيري للحكومة وفروعها (الحكومات
المحلية)، والسبب واضح تماما، ولا يحتاج الى تعليق او تأشير، هنا يُطرح
تساؤل مفاده: تُرى أين يقف المثقف العراقي مما يدور الآن بوضوح فوق
الارض، وهل يظن المثقف أنه ليس معنيا بما يحدث، كونه الباحث والمعني
والمهتم بالجماليات لا سواها؟.
وثمة تساؤل آخر، هل تثبت الوقائع حيادية المثقف العراقي، وإنشغاله
بمشروعه الجمالي، او انزوائه بعيدا بانتظار النتائج أياً كان فحواها
ومسراها؟
إن الاجابة عن سيل التساؤلات المطروحة وغيرها، تستدعي التأني والنظر
الى الساحة الثقافية، ومساراتها التي تبدو متقاطعة أحيانا، فهناك
مثقفون كانوا منشغلين بذواتهم وجمالياتهم، ويبدو من رصد الواقع، أنهم
يواصلون السير في مسارهم الحيادي الذي لايعنيه ما يحدث على الارض من
بعيد او قريب، فالمهم لدى المثقف الجمالي أن يكتب مقالة فكرية جمالية
لا علاقة لها بما جرى او يجري خارج الفضاء الجمالي، والمهم لدى الشاعر
أن يكتب قصيدته الجديدة التي تقطر عسلا، والمهم لدى التشكيلي أن يرسم
لوحة تسلب اللب بجمالها، أما الغليان الذي يحدث خارج الذات الجمالية،
فهو أمر خارج اختصاصها او اهتماماتها!!.
نعم هناك مثقفون لا يعنيهم ما يدور خارج ذواتهم، إنهم مثقفون
جماليون وليسوا معنيين بالرسالة او الهدف، وهكذا ينظرون الى أنفسهم
وأدوارهم، فمثل هذه الجمل والكلمات والاهداف لاتعني المثقف الجمالي،
ولا الثقافة الجمالية ايضا، إنما يتخصص بذلك مثقفون آخرون، يمكن أن
يُطلق على أحدهم إسم المثقف الرسالي وهو نقيض المثقف الجمالي.
المثقف الرسالي هو الذي يمزج بين المسارين، إنه يقدم ابداعا لا
يخلوا من الجمال ولكنه يحمل همّ الانسان، ومثل هؤلاء لهم القدرة على
التحرك الفعلي فوق الارض، بمعنى أن المثقف الرسالي لايكتفي بالجمال
وحده، ولا بالفكر الهادف وحده، بل يضيف الى هذا كله، الحركة الملموسة
الفاعلة، التي تدلل على أنه مثقف (وإن كان نخبويا) لكنه صالح لقيادة من
يحتاج القيادة الصحيحة من خلال تحوله الى النموذج الشعبي السليم.
وليس بعيدا عنّا ذلك المشهد الذي قدمه بعض المثقفين (شعراء ونقاد
ومفكرين وفنانين وناشطين) حين ظهروا في احدى المظاهرات السلمية، في
منطقة السنك ببغداد، وهم يحملون المكانس اليدوية، وقاموا بحملة تنظيف
رائعة وإن كانت رمزية، لكنها دللّت على وعي المثقف بدوره الصحيح ورؤيته
للتعاطي مع الوقائع الفعلية.
إذن فالعراقيون يحتاجون المثقف الفاعل الناشط المتحرك الرسالي
والجمالي في آن، وهم لايحتاجون قط من يغوص في ذاته ليستخرج كنوزها
ولؤلها ثم ينزوي فرحا بكنوزه التي لايراها أحد سواه، واذا كان الادب
الجمالي قد شكل حضورا في مجتمع ما، فإن ذلك المجتمع لابد أنه غادر عالم
الفقراء الى عالم الرفاهية والبذخ والغنى المتعالي على الجميع، وعند
ذاك ليس غريبا عندما تسمع أن لوحة في اوربا بيعت بعشرات الملايين من
الدولارات، أو أن الملابس الداخلية للفنانة الراحلة كذا ضربت رقما
قياسيا في المزادات، أو أن عجوزا أورثت كلبها مبلغ يفوق (12) مليار
دولار.
هذه الشعوب الغنية المترفهة لم تعد بحاجة الى المثقف الرسالي بل
لايعيش فيها ولا ينسجم معها سوى المثقفين الجماليين، أما نحن في معظم
دول الشرق الاوسط ومنها العراق، فإننا بحاجة الى المثقف الذي يتقدم
الآخرين بفعله وابداعه الرسالي الجمالي في آن. |