بإعلان نائب رئيس جمهورية مصر العربية عمر سليمان، الجمعة
11-2-2010، تخلي مبارك عن السلطة وتنحيه عنها، بدأت صفحة جديدة من حياة
الشعوب العربية تكون فيها الغلبة والصوت العالي لتلك الفئات المهمّشة
والمقموعة من هذه الشعوب التي سحقتها أنظمة الحكم العسكرية وامتصت
وجودها وأذابت مقومات الحياة لديها وسخّرت كل إمكانياتها وألاعيبها
وطرقها اللعينة من اجل سرقة ثروات وطنها المبعثرة الآن بين بنوك الدول
الغربية التي تضحك بملء فيها على عقليات هؤلاء الرؤساء.
إعلان مبارك استقالته وترك تسيير شؤون البلاد للمجلس الأعلى للقوات
المسلحة، أعادت الثقة من جديد للعديد من الشعوب العربية، التي بدأت
زخّات أمطار ثوراتها بعد ثورة الشعب التونسي التي أجبرت دكتاتورهم على
الهرب كالفأر الجبان اثر تظاهراتهم ضده، وهي الثورة التي أعطت للشعوب
العربية دفعة جديدة للتقدم خطوة لتحقيق مطالباها وتفجير ما لديها من
طاقات كامنة متمثلة بقدرتها على إحداث التغيير وإشعال نار الثورة
بالطرق السلمية في البلدان العربية الغارقة حتى رقبتها بالفساد المالي
والإداري والظلم والاضطهاد والتهميش على يد حكّامها الذي بدأت تلوح في
الأفق أيامها الأخيرة.
عدوى هذه الثورات قد بدأت بالانتشار في الدول العربية التي لا تختلف
في الواقع مشاكلها بعضها عن بعض من حيث الوضع الخدماتي المتردي وسيطرة
عائلة الرئيس على مقدرات الشعب وغياب التنمية وتراجع الاقتصاد وتفشي
الفساد بالإضافة إلى ما يعانيه المواطن من تضييق على حرياته ونشاطاته
على يد جلاوزة النظام وأجهزته الأمنية القمعية.
وهكذا بدأت الصحوة في بعض البلدان كالأردن واليمن والجزائر والبحرين
وليبيا متمثلة بالتظاهرات المناوئة لحكوماتها، وهنالك تحضيرات للقيام
بتظاهرات أخرى في بلدان عربية أخرى من اجل المطالبة بحقوق المواطن
المسلوبة من قبل الطغمة الحاكمة في هذه البلدان التي لا تفهم لغة
الحوار والتسامح والديمقراطية.
ولم يضرب إعصار مصر الدول العربية المذكورة اعلاه فحسب، بل ضرب
العراق أيضا على حد تعبير الكاتب جيمس دينسلو في مقالته التي حملت نفس
العنوان في صحيفة هافنتجتون بوست 13-2-2011، حيث تفجرّت تظاهرات، ولو
على نحو مختلف لما هي عليه في الدول العربية، في محافظات بغداد، كربلاء،
النجف، واسط، ميسان، البصرة، نينوى، الديوانية، كركوك، بابل، الأنبار
والمثنى، ومنذ ثلاثة أسابيع وهي ذات مضامين موحدة ومتشابهة تتراوح من
هدف محاربة الفساد والمفسدين في الحكومة مرورا بالمطالبة بتوفير
الخدمات والحصة التموينية واستنكار التردي الحاصل في قطاعات الصحة
والخدمة والتربية وصولا إلى مظاهرات تطالب بإطلاق الحريات العامة
والخاصة والتي تفجرت بعد قرار مجلس محافظة بغداد غلق البارات والنوادي
الليلية غير المرخصة، وان كانت الأخيرة بحجم صغير وتقتصر على فئة معينة
من الشعب.
وهنالك دعوة للتظاهر يوم 25 من هذا الشهر وتحت اسم " اليوم العراقي
للغضب "، والتي يبدو أنها انتشرت وعلى نحو سريع بين المجتمع العراقي،
وقد اتخذت من يوم 25 كرمز ومحاكاة لثورة 25 يناير المصرية التي أسقطت
نظام حسني اثر تنحيه عن السلطة بعد إصرار المتظاهرين على البقاء أكثر
من أسبوعين في ميدان التحرير في القاهرة، وهذه التظاهرة التي يُحضر لها
" انترنيتيا " وبشكل دقيق من قبل شباب عراقيين.
وقد اكتسبت هذه التظاهرة زخما جديدا حينما أعلن زعيم التيار الصدري
مقتدى الصدر صاحب القاعدة الجماهيرية الكبيرة جدا الى " التظاهر بصورة
سلمية وبصورة موحدة وعدم الانجرار الى تسييس تلك التظاهرات"، وقدم
نصائح جوهرية للمتظاهرين منها ان تكون" كل افعالكم، أي المتظاهرين،
ومطالبتكم بحقوقكم سلميين موحدين " وان تسعى لـ" كسب عدد كبير لتكون
مظاهراتكم نافعة غير ضارة " بالإضافة إلى إن يكون موعدها " محدد " وان
تكون " مليونية ولو لفترة معتد بها حتى تكون حافزا للحكومة على تقديم
الخدمات".
الصفة المميزة لهذه التظاهرات أنها لا تهدف إلى إسقاط الحكومة وسلب
الشرعية عنها كما أشار إلى ذلك سكوت بيترسون محرر في الشؤون السياسية
لصحيفة كرستيان ساينس مونيتر الأمريكية في تحليله الأخير للتظاهرات
التي حدثت في العراق، فهي مظاهرات تتحدث عن النقص في الخدمات والفساد
والامتيازات التي يتمتع بها كبار المسؤولين في الحكومة العراقية.
لذلك قال رئيس الوزراء السيد نوري المالكي خلال لقائه الاخير وجهاء
وشيوخ عشائر محافظة بابل " أن التظاهرات حق مشروع والدستور كفل ذلك،
سيما إن التظاهرات حق لجميع الشعوب وبالأخص العراقي بل انه اقترح بان "
يخرج كل وزير، وكل حسب اختصاصه، على سبيل المثل، اذ كانت هناك تظاهرات
حول القضايا الاجتماعية، لابد ان يخرج وزير العمل والشؤون الاجتماعية،
والاستماع إلى مطالبهم، وطرحها على مجلس الوزراء للتنفيذ".
لكننا لا نستطيع، من ناحية أخرى، وعلى الرغم من إقرارنا بالواقع
الأمني والخدماتي المتردي في العراق، تحييد دوافع بعض من هذه التظاهرات
التي تقوم في العراق اذ انه وبالتأكيد تقف وراءها بعض من التيارات
والأحزاب السياسية التي تكن العداء وتحمل الكراهية ضد رئيس الوزراء
نوري المالكي وهي جهات معروفة وقد خاضت ضد المالكي وائتلافه حربا
تسقيطية في فترات سابقة، ولم يستبعد حتى المالكي نفسه هذه الدوافع التي
حذّر منها خلال لقائه مع شيوخ عشائر محافظة بابل السالف الذكر.
وبغض النظر عن وجود أو عدم وجود أسباب سياسية تقف وراء قيام
المظاهرات في العراق فإننا نجد إن الخدمات في العراق بائسة إلى حد كبير
وتكفي لا لقيام تظاهرة لمئات أو الآف الأشخاص بل هي في حد ذاتها قادرة
على إسقاط حكومة وتبديل كل النظام السياسي في العراقي، فلاشيء يمكن ان
يقف بوجه شعب يرزح تحت خط الفقر ويعاني الافا من شبابه من البطالة ونقص
في الخدمات، فضلا عن إحساسه بالتفاوت الطبقي الشاسع بين مسؤولية الذين
انتخبهم واتى بهم للسلطة وبينه.
لذلك على الحكومة أن تتنبه وتتيقّظ لما يمكن أن تصل أليه الأمور هذه
الأيام، خصوصا أذا ارتكب شرطي أو أي رجل أمن أحمق خطأ وأطلق النار على
المتظاهرين كما حدث في الكوت مؤخرا حيث أدى ذلك إلى ردة فعل جنونية
وغير مسؤولة اذ غضب المتظاهرين وقاموا بإحراق مكتب ومنزل المحافظ الذي
يقع على مقربة من مبنى ديوان المحافظة، وهي فوضى انتهت بإصابة وقتل
العشرات من المتظاهرين.
هذه التصرفات " غير الصحيحة" للشباب الذين احرقوا مبنى المحافظة لا
يمكن أن تجابه بإجراءات أمنية رادعة للحكومة من اجل الحد منها ومنع
تكرارها ثانية في المستقبل، بل يجب ان تقوم الحكومة قبل محاولة حلها
سياسيا واقتصاديا واجتماعيا من اجل الوقوف على جذور هذه الاعتداءات
وكيفية وصولها الى هذا المنحى الخطير، تقوم بمعاقبة كل رجل أمن يقوم
بإطلاق النار على المتظاهرين العزّل واضعين في اعتبارهم أن من اسقط
نظام تونس هو حماقات رجال الأمن الذين أهانوا بائع الخضار محمد بو
عزيزي.
ولا يكفي مطلقا أن يتمشدق بعض السياسيين بان الشعب العراقي حصل على
الديمقراطية وحرية التعبير وصحافته الحرة، ولهذا فنظامه السياسي في
مأمن من أي فوضى أو انهيار، فهذا الادعاء غير صحيح ولا يجد له أي سند
تاريخي أو واقعي، فالشعوب لا تعيش "بالديمقراطية "فقط، التي تخدم
السياسيين وتجعلهم يصلون الى سدة الحكم ويتمتعون بامتيازات لم يكن
يحلموا بها، بل لابد أن يعيش الشعب حياة حرة كريمة عادلة تُغذي لدى
مواطنه روح الوطنية وتخلق بينهم وبين وطنه روح من الالفة والتعاون
والمسؤولية بحيث لايتجرأ مهما انفعل ان يحرق أي مؤسسة حكومية تتبع
المال العام.
[email protected] |