ليست هناك قضية شعبية مطلبية بحرانية كبيرة موثقة مثل قضية دوار
الشهيدين.. مئات من الأشرطة التسجيلية الوثائقية المصورة. وآلاف الشهود
المحليون والدوليون، وبيئة قانونية وسياسية داعمة فرديا وجماعيا. وغطاء
شعبي صلب جامع لكل الطوائف، فلن يذهب أي أثر سدى ولو كان صغيرا بقدر
رأس إبرة.
سجل شعبنا بما قدمه من تضحيات وآلام عظيمة وثيقة عظيمة لن تبقي لغير
الشرعية في بلدنا من باقية. فبها مرغت الوثيقة التعاقدية "الميثاق"
سيئة الذكر في وحل آسن فذابت وكأنها لم تكن. وبها ثبت اتهام الجيش لأول
مرة بالتدخل المباشر لتنفيذ مجزرة في حق المواطنين بقيادة مركزية مشكلة
من أبناء عائلة آل خليفة ولا من مواطن غيرهم مشارك في هذا المجلس لا
سني ولا شيعي. وبها ثبت أن قرار ارتكاب الجريمة كان خليفيا خالصا.
هذه ليست شعارات تمر في جزيرتنا بوهج سياسي حتى إذا مر الزمان انطفأ
ضياؤها في مزايدات بن فلان وعلان. لقد اقفل باب المزايدات والمراهنات..
فهذه طامة كبرى عصفت أولا بكل من رآهن على التغيير من خلال الاستجداء
النيابي أو السياسي البسيط بحسن نية على عتبة الديوان الملكي.. ثم أنها
قيامة على من كل من خطط وشارك وأمر بتنفيذ هذه الجريمة.. ولذلك لن نقبل
بمطلب إقالة الملك لحكومته أو تسريح رئيس وزرائه عن منصبه. فهذان
المطلبان تافهان سفيهان أمام حجم الجريمة وجاهلية مرتكبيها.
الجميع يعلم أن مرتكبي جريمة دوار الشهيدين فيهم الكثير من الكبر
المعزز باستعدادات دعائية كبيرة لتبرير دوافع ارتكاب هذه الجريمة للرأي
العام المحلي والدولي.. لن يفلح أحد منهم في ذلك مطلقا. فالشاهد أكبر
من أن ينال منه. والله تعالى مع الحق وهو أعظم الشاهدين.
فهذا وزير الخارجية قد صرح في مؤتمر مجلس التعاون الخليجي بأمور
خطيرة من حيث لا يعلم، ولا يملك أن يعلم، وما كان له، فأربك مرتكبي
الجريمة وكشف بتهافت ألفاظه حجم الجريمة وما كانت السلطات الملكية
تضمره للتآمر على قتل شعب جزيرتنا، منها: أن الجيش قاد ونفذ الجريمة،
أن عدد المواطنين المعتصمين عند الساعة الثالثة صباحا كان كبيرا، أن
مدينتي الرفاع والمحرق كانتا جاهزتين لتشكيل تظاهرة طائفية مضادة مؤلفة
من جنود الجيش والشرطة والأمن الوطني بلباس مدني وباسم السنة!
ومع ذلك. لا تهمنا كثيرا تصريحاته التي مثلت صوت الديوان الملكي
والجيش بقدر ما يهمنا حجم وثيقة دوار الشهيدين التي صنعتها ملاحم
شبابنا الحسيني بموقف لم يسجل تاريخ المنطقة مثله. فأصبح الدوار رمزا
وشاهدا مسفها لكل خيار بتهوين حجم الجريمة أو المناورة للتستر على
مرتكبيها وإن قدم لحماية نفسه كبش فداء.
صحيح أن شعبنا لم يجن حتى الآن ثمرة سياسية على مستوى الحريات وقد
أُظهر الأمر إعلاميا وكأنه طائفيا صرفا، لأن الثمرة لا تنمو وتنضج في
حياة نضال الشعوب بين ليلة وضحها إذا ما كان النظام المهيمن مازال
متمسكا بطور الجاهلية والقبلية السياسية.. وبكل الحسابات السياسية – إن
شاء البعض التعويل عليها- أن ما حدث حتى الآن في الدوار وفي خارجه سيفك
القيود وسيلين الحديد وسيفرض الكثير من أحوال الانفراج التي لن يستطع
النظام التنصل من الالتزام بها أمام الرأي العام المحلي والدولي، ولكن
سيظل حق تقديم مقرر ومنفذ جريمة الدوار إلى المحاكمة الدولية حقا فرديا
لأهالي الشهداء والجرحى والمروعين. وعاما للشعب بكافة عناصره.
وفي خارج أطر الحسابات السياسية، أثبت شعبنا أنه كان ومازال ذاك
الشعب المتمسك بقيمه ومبادئه في أصعب الأحوال وأكثرها خطورة ولن يرض
بغيرها بديلا ولن يساوم عليها في مقابل تنازلات شكلية زهيدة الثمن.
فقد كانت الشعائر الدينية ومنها الحسينية هي المحرك والدافع والمحفز
على الحركة نحو التغيير.. وكان من بين المشاهدات التي ارتسمت في أذهان
المشاركين في انتفاضة دوار الشهيدين صورة فرار النساء والأطفال تحت
وابل مكثف من الرصاص والغاز المسيل للدموع وضربات الهراوات الخشبية
والحديدية والقنابل الصوتية المرعبة..
هذه المشاهدات حرضت الذاكرة البحرانية على تهوين آلام هذه التضحيات
وتقديم المزيد منها حتى يتحقق مراده تأسيا بما جرى في خيام الإمام
الحسين عليه السلام في يوم عاشوراء. |