كانت غرفة صغيرة، طولها ثلاثة أمتار وعرضها متران، قد بنيت من
الطابوق الطيني (اللبن) بناءاً سيئا. لقد بناها جنود وحدتنا العسكرية
لتكون سجناً يودع فيه المعاقبون لفترة زمنية قصيرة لمخالفتهم للأوامر
والقوانين العسكرية، أومن أصحاب المجالس التحقيقية الذين ينتظرون
محاكمتهم. كانت الغرفة أشبه بصندوق عتاد رباعية (الشلكا) المضادة
للطائرات، وإن اختلفت معه في الإبعاد، وكذلك وجود فتحة صغيرة للتهوية
لا يستطيع النفاذ منها سوى حيوان صغير بحجم القط.
على الرغم من هشاشة هذا البناء، حيث يخيل إليك أنك تستطيع هدمه
بركلة قوية، إلا أنك تشعر، نفسيا، بجدرانه وكأنها " جدار برلين " في
إحكامه والحراسة المشددة عليه، رغم إن حارس السجن هو جندي يمسك ببندقية
(كلاشنكوف)، يقضي واجبه الممل وهو ينظر في ساعته اليدوية بضيق من حين
لآخر في انتظار بديله ولا يقل تأزما وحنقا وسخطا عن المحبوسين، وقد
يكون واحدا منهم في يوم من الأيام.
نحن الآن في حالة حرب طويلة ضروس حيث يدخل الجيش فيها ما يسمى
بالحركات الفعلية وتنتشر الوحدات العسكرية خارج معسكراتها الثابتة. كان
معسكرنا واحدا من تلك المعسكرات المتناثرة في منطقة (النشوة) حيث بدت
تلك المعسكرات كجزر متناثرة في هذه البيداء الواسعة الأطراف، إضافة إلى
وجود بعض المزارع والقرى الصغيرة التي بقي فيها ساكنوها غير عابئين
بالخطر الشديد الذي تسببه المعارك الشرسة لهم على جانبي الحدود، حيث
الأصوات المزمجرة للطائرات الحربية والقصف المدفعي، وكذلك هدير
الدبابات والعجلات العسكرية الذي يكاد أن يكون طقسا يوميا حيث رائحة
الموت هي الرائحة السائدة.
كانت غرفة السجن تغص بالسجناء تارة، وتخلو منهم تارة أخرى، فيما بقي
هو الساكن الوحيد الثابت في انتظار ترحيله إلى (محكمة الثورة) في بغداد
بتهمة سياسية قد تؤدي به إلى الإعدام. لم يكن يؤنسه في وحدته هذه سوى
وريقات وقلم يبثها همومه وشجونه.
لقد كنا صديقين، ولدنا في شهر واحد وترعرعنا معاً. قلت له: لا
أستطيع أن أتصل بك مباشرة فأنت تعرف أن حاسة الشم عندهم عالية. وكان
بعض المتعاطفين معه ينقلون لي رسائله التي يبعث بها إلى أهله وأصدقائه
حيث احملها لهم في إجازاتي الدورية.
كان آخر ما أرسله إلي خواطره التي دونها قبل ترحيله إلى المحكمة،
وقد ارتأيت نقلها، بعد تردد مني، كما هي بدون تدخل.
أحلامي الأخيرة
مضت علي شهور طويلة ثقيلة، كليل بهيم حالك لا يبدوا أنه سينجلي،
وأنا قابع في هذه الغرفة الطينية المعلبة بانتظار موعد المحاكمة
المعروفة النتائج سلفاً بالنسبة للقضايا السياسة. إن القضايا "السياسية"
عندنا متنوعة وغريبة قد تبدأ بتجريمك إذا ما لففت حذائك الجديد أو
بقايا طعامك بجريدة، بدون انتباه منك، فيها صورة القائد أو شعاراً
حزبياً. أو تذمرت من شيء كانقطاع الكهرباء أو اختفاء بعض المواد
الغذائية. أما قيام مجهول بكتابة شعار ينتقد الحكومة على جدار بيتك
ليلاً فهو النهاية لك ولعائلتك.
لازلت اذكر أحد الطلبة الذي شاهد مناماً فيه انقلاب عسكري على السيد
الرئيس وباح به إلى عدد من أصدقائه ومن ثم اختفى بعدها ولم يعرف عنه
شيئاً. إما قراءتك لمنشور سري أو انتمائك إلى تنظيم سياسي فهو الطامة
الكبرى لك ولعائلتك.
أمسكت قلمي بعد أن تلاشت أصوات المدافع وانفجارات القذائف المختلفة
التي مزقت سكون الليل. لقد قضيت الليلة منزويا في زاوية ضيقة من زوايا
غرفة السجن الطينية، طلبا للاحتماء من القصف ! قد يبدو ذلك مضحكا، فما
الذي تستطيع فعله، هذه الجدران الطينية، تجاه أبواب جهنم التي فتحت على
مصراعيها وألقت بحممها؟! إن الغريق قد يتعلق بقشة، كما يقال، رغم أنها
لا تنفع ولا تضر، ولكنها غريزة التعلق بالحياة. أليست لعبة الحرب هي
لعبة الموت؟
الآن، بعد أن بلغت بموعد محاكمتي، أحسست برغبة جارفة في تدوين
مشاعري الأخيرة على الورق. قد تستغربون كثيرا من " سياسي " التحدث بما
سأتحدث عنه في أيامي الأخيرة. عادةً ما يتحدث السياسيون، في مناسبات
مثل هذه عن ذكريات النضال ومصاعبه، وحكمتهم الأخيرة وتوصياتهم، إلا أني
لم احلم ولم أفكر سوى بحبيبتي !
أرجوكم ألا تشجبوا أو تستنكروا واسمحوا لي أن اعرض وجهة نظري. لقد
فكرت كثيرا قبل أن اكتب اعترافي هذا، ولكن بدا لي إن اللحظات الأخيرة
هي لحظة الحقيقة والصدق "فمن يوقف نزيف الدم في ذاكرة المحكوم بالإعدام؟!
" قد تجدون ألأمر غريبا وقد تقولون عني: يا له من حسي فاسق، حيث أني قد
أمضيت هذه الشهور وأنا احلم بأحضان حبيبتي، ولكنني سأصدم فضيلتكم
الزائفة بكلمات (لوركا) لحبيبته:(كيف أهبك قلبي إذا لم أكن حرا؟) وأنا
أقول لكم كيف أكون حرا وأدافع عن قضية ما وأنا اخجل من احتضان حبيبتي؟!
رؤى وأحلام عديدة قد راودتني طيلة هذه الشهور الثقيلة ولكنني
سأدونها برمزية، حتى لا افرح جلادي إذا ما عثر على هذه الوريقات،
فالجلاد لا يفهم الرمز لأنه غبي دائما ومتبلد الذهن، وحتى لا تصادر هذه
الوريقات كما صودرت أحلامي !
* كليل متلفع بالسواد، ينتظر ضوء القمر.. انتظرتك
وعندما أغتسل الليل بضياء فضي..
انزوت روحي في ظلال عميقة.
* اقتاد روحي، ذات مرة في ليلة حالكة، ملاك لم أرى له مثيلاً.
وحين شاهد عذاباتي، غاب كشهاب سطع لوهلة.
لقد تركني وحيداً أجتر ألمي.
* عجيب أنا..
يضنيني التوق إلى الارتواء.
وعندما أقترب من حافات روحك..
ينهار في داخلي رجل شجاع.
* ذات يوم قررت أحلامي أن تغادر إلى بر متشح بلون أخضر.
امتدت أمامها صحراء قاحلة ليس لها نهاية.. ولكن بلا واحات.
رؤى كثيرة، كوساطات عقيمة، لم تصالحني مع ذاتي المتمردة. لقد كان
هنالك الكثير مما أردت قوله ولكنني لن أمنحهم نشوة معرفة كل شيء عني.
سأدع الفضول يقتلهم. لقد راودتني أسئلة شتى لم تجد الإجابة بعد وقد
لفها الليل بذأباته المشعثة، وحيث أني ذاهب إلى (درب الصد ما رد) كما
تحكي أحدى الحكايات الشعبية، فأن رجائي الأخير، والذي أتمنى ألا يصادر
أيضاً، رجائي لمن يعثر على هذه الوريقات أن يرسلها إلى حبيبتي، وإن
تعذر عليه ذلك أرجوا اتلافها مع شكري مقدماً... وداعاً.
النشوة 1985م
لم أستطع العثور على حبيبته حيث إنها اختفت فجأة، وهو أمر كثير
الحدوث في بلدي، مما اضطرني إلى إخفاء هذه الوريقات كما أخفي دليلاً
جرمياً خطيراً. مرت عقود ثقيلة وتبدل الحاكمون. وحيث إننا لم نعرف
مصيره قط حتى أستأذنه في نشر أحلامه الأخيرة لجأت إلى استئذان والدته
العجوز.
- أماه.. لقد تغيرت الأمور وصارت عندنا فسحة من التعبير. هل تأذنين
لي بنشر أحلامه؟
ردت العجوز بقرف ولا مبالاة.
- ما الذي تغير ياولدي، فما زالوا يمنعونه من احتضان حبيبته؟!
أطرقت برأسها هنيئة ثم قالت: تيتي تيتي.. مثل ما رحتي أجيتي.
أغضبني يأس ومرارة الكلمات التي فاهت بها الامرأة العجوز ومن أجلها
وأجلنا جميعاً صممت على نشر أحلامه علها تساعدنا على احتضان حبيباتنا
قبل أن يطبق الظلام تماماً علينا من جديد. |