الجدعان وثورتهم... المهمشون يصنعون التاريخ

حيدر الجراح

شبكة النبأ: عبر التاريخ الممتد الى الاف السنين كان الفقراء ولازالوا وقود الثورات وحطبها وكذلك الانتفاضات والحروب.

كلها تقوم باسمهم وترفع شعاراتهم ومطالبهم الى مصاف التقديس لكنها بعد نجاحها تنقلب عليهم.. واذا فشلت القيت تبعات الفشل عليهم واصبحوا مثيرين للفتن والخراب.

يرى عبد السلام بنعبد العالي، (ان الهامش هو الحركة التي تشهد أنّ كلّ داخل ينطوي على خارجه، وأنّ المنظومة تنطوي على ما يفضحها. إنّه القوى المتنافرة والتوتّرات التي تصدّع المركز وتفجّره و"تجعله يخرج عن أطواره"، و"يفقد صوابه" ويخرق قواعد لعبته).

ويرى الباحث المغربي عبد الواحد المكني، ان مصطلح التهميش يعني معجميا كلّ من يعيش بعيدا عن المركز، والكائن اللا اجتماعيّ، وغير المندمج في تنظيمات المجتمع.

ومصطلح التهميش مستعمل بكثرة خاصة في الدّراسات السوسيولوجية، وحداثة الاستعمال في القواميس واللغات لا علاقة لها بقدم الظاهرة تاريخيا؛ فالمصادر العربية تتحدّث عن (السوقة والأغفال والدهماء والرعاع والسفهاء والمنبوذين والبؤساء والأوباش)، وكلّها نعوت للطبقات الاجتماعية الدنيا التي تتموقع في هامش تنظيمات المجتمع والتي تكون دوما عرضة للإقصاء والتغييب.

 فمصطلح الإقصاء أو التغييب مرتبطان أيما ارتباط بظاهرة التهميش، بل هما نتاج مباشر لها في غالب الأحيان. والمقصود بالإقصاء أوّلا هو الظاهرة التاريخية التي شملت الشرائح التي أبعدت وغيّبت عن النسق العاديّ وعن التنظيمات الاجتماعية السائدة، فكانت شرائح متميّزة باللاندماج واللا تأهيل الاجتماعي، وثانيا الممارسة التدوينية التي ارتبطت بالتاريخ الرسمي وما والاه والتي أسقطت تاريخ المهمّشين والبائسين من دائرة اهتمامها.

فالتهميش، أو الإقصاء الناتج عنه، هو ظاهرة تاريخية مادّية اقتصادية، ولكنها أيضا ظاهرة نفسية ومعنوية ولا يخلو أيّ مجتمع أو عصر من التهميش، وحداثة المصطلح لا تحجب قدم الظاهرة.

هناك حدّان فاصلان بين المهمّش وغير المهمّش : حدّ فاصل جغرافيّ مكانيّ، وحدّ فاصل آخر يعرّف معياريّا. إذا قررّ المجتمع معايير معيّنة، فإنّ كلّ من لا يطبّقها يوصمون بأنّ ممارساتهم غير عاديّة.

وهناك حدّ فاصل ثالث يرتبط بالأصل، الأصل الفضائيّ أو القبليّ أو الدّينيّ أو الإثنيّ… المثال الأكثر شهرة هو حالة "المنبوذين" في الهند. هذه الهامشيّة لا تتعلّق في حدّ ذاتها بالفقر أو الغنى، لكنّها قد تكون منتجة لفقر جماعيّ.

أحد الرّؤساء السّابقين في الهند مثلا كان ينتمي إلى صنف المنبوذين. مثال هذا الرّئيس الهنديّ ومثال الرّئيس الأمريكيّ أوباما، يبيّنان أنّ التّهميش الجماعيّ المرتبط بعدم الوصول إلى الموارد لا يستثني وصول بعض الأفراد من المجموعات المهمّشة إلى وضعيّات مميّزة، رغم أنّ هؤلاء الأفراد ينحدرون من المجموعات المهمّشة.
فالهامشيّة يمكن أن توفّر لبعض الأفراد فرص نجاح قد لا تتحقّق لهم خارج هذه المجموعة المهمّشة. وهذا ما يجعل المفهوم أكثر تعقّدا.

الحدّ الفاصل الرّابع هو التّهميش على أساس اجتماعيّ اقتصاديّ. وهذا الحدّ مرتبط مباشرة بوصول أو عدم وصول الأفراد أو المجموعات إلى الموارد الاقتصاديّة، وهنا تظهر فئات العاطلين عن العمل، وكلّ من لا يصلون إلى الموارد : أي التّعليم والصّحّة والسّكن، والأرض للفلاّحين ومياه الشّرب إلخ. وهذه هي الفئة الهامشيّة الوحيدة التي يمكن إخضاعها إلى مقولة الكمّ، وقيسها، مع هامش خطأ محدود نسبيّا.

اما الباحث الحبيب العايب فيرى ان الفقر من أكثر الهامشيّات خطورة. إنّه يتمثّل في منع شريحة من المجتمع من الوصول إلى الموارد أو إلى موارد حياتيّة معيّنة. وهذا التّهميش متعمّد.

أوّل صيغة من صيغ الإقصاء هو الوصمة. إنّها تنبع من حكم القيمة المسلّط على المهمّشين : لا آكل مع فلان لأنّه فقير، ابنتي لا تتزوّج فلان لأنّه أسود، أو لأنّه يهوديّ، ابني لا يتزوّج من مومس… نحن إذن إزاء حكم يؤدّي إلى إقصاء أفراد لأنهم جزء من مجموعات معيّنة، ولأنّ هذه الفئات تعتبر قاصرة عن الرّقيّ إلى مستوى المسلّط للحكم المعياريّ وللوصمة. وهناك طبعا اختزال للفرد في الجماعيّ. فمجموعة السّود تمثّل حسب هذا التّصوّر كتلة واحدة. يمكن أن يكون أوباما رئيسا، لكنّه أسود. وهنا يمكن أن نتحدّث عن عنصريّة، أو طبقية.

الممارسة الثّانية المتعلّقة بالإقصاء هي مسارات التّهميش. ومن المهمّ بالنّسبة إلى الفاعلين معرفة كيفيّة اشتغال مسارات التهميش : كيف نصبح فقراء، أو مدمنين، أو بلا مسكن قارّ، أو عاملين جنسيين، أو امرأة عزباء بلا سكن قارّ، وكيف يمكن أن ندخل السّجن..؟

ويرى الباحث خالد غزال، ان الهامشية الأساس التي تغلب على المجتمعات العربية، تلك المتصلة بتغييب غالبية الشعوب العربية عن المشاركة في الحياة السياسية واختيار الحاكم ومحاسبته، والقدرة على توظيف الثروات العربية بما يخدم مصالح المجموع العام. خلافا لوعود أنظمة الاستقلال لشعوبها إثر تحررها من الاستعمار، أو بوعود الانقلابات العسكرية في الأيام الأولى من حصولها وإطلاقها البلاغ الأوّل، الذي يضع في رأس الشعارات العودة إلى الشعب وحقّه في إدارة البلاد والانطلاق من أمانيه في الديمقراطية والتقدم. خلافاً لكل ذلك، وعلى امتداد العقود الماضية، كرست أنظمة الاستبداد السياسي والاقتصادي والاجتماعي، كلّ ما يؤدّي إلى تغييب هذا الشعب عن المشاركة في الحياة السياسية، واختزلته بمجموعة من نخبها ورموزها الذين تحولوا طبقة مهيمنة، تحتكر السلطة والثروة وتوظفهما في خدمة مصالحها الخاصة ومصلحة زبائنها. هكذا تسبّب الاستبداد، ليس بوجود فئات هامشية معينة، بل بتهميش أوسع وغربة أشمل بكل معنى الكلمة.

لم تعد الفئات المهمّشة تقتصر على الفقراء والعاطلين عن العمل أو سكان المخيمات وأحزمة البؤس وأحياء الصفيح.. بل باتت طبقات اجتماعية ومثقّفون وعاملون في القطاعات الثقافية والاجتماعية يشعرون أنهم حقاً يحيون على الهامش في مجتمعاتهم. هذا جانب أوّل.

جانب آخر يزيد من تفاقم التهميش والهامشية في المجتمعات العربية، ذلك الانفكاك في البنى الاجتماعية وانبعاث العصبيات العشائرية والطائفية والإثنية.. واحتلالها الساحة السياسية والاجتماعية والسعي الحثيث لإلحاق المواطن بمنظومتها. في ظل هيمنة الدولة وسيادة قوانينها، يشعر الفرد المواطن أنّ هناك مشتركاً يطال العامّ من المجتمع، في السياسة والاقتصاد والاجتماع، وأنّه رغم الهامشية التي يعيش فيها، يبقى لديه شيء من الأمل في تحوّل السياسة العامّة للدولة نحو الأفضل، وبما يؤدّي إلى تحسين ما في أوضاعه أو تدخله في الشؤون العامة.

أما في زمن انبعاث بنى ما قبل الدولة، وعلى حساب الدولة نفسها، فإن الهامشية ستجد تجلّياتها في الالتحاق بأكثر البنى تخلّفاً، والخضوع لمنطق هذه البنية، وقوانينها وعاداتها وتقاليدها، وهو أمر يضع الرافض لهذه الهيمنة في موقع النبذ والتهميش بما لا يقاس عن التهميش الذي يعانيه في ظل سلطة الدولة.

وقد تناول الدكتور محمود اسماعيل في كتاب حمل عنوان (المهمشون في التاريخ المصري) ثورات هؤلاء الفقراء الذين كانوا وقودها بحثا عن غد افضل لهم ولابنائهم.

في مصر الفرعونية كان البناء الطبقي للمجتمع يتكون من طبقة ارستقراطية لافرادها ممتلكات وثروات خاصة يديرونها لحسابهم ويسخرون الفلاحين لزراعتها ويستعينون باعداد من الموظفين لادارتها فضلا عن رجال الحرس الخاص وافراد الحاشية والارقاء.

كما تكونت طبقة وسطى من كبار التجار ورؤساء الحرف وبعض المستنيرين من رجال الدين والحكمة (اي المثقفين)الذين كانوا يضرمون نيران الانتفاضات الشعبية ضد الغزاة واحيانا ضد الفراعنة الطغاة...

اما طبقة العامة فتكونت من المهمشين سواء اكانوا فلاحين او عمالا او رعاة او من الاحرار او العبيد ولم يتملك افرادها الا قوة عملهم وفي الغالب جرى تسخيرهم في الاعمال العامة الشاقة.

شهدت فترة حكم الدولة القديمة انتفاضات شتى للمهمشين لكن لم يكشف عن معظمها لان ما يدون من معلومات كان معظمها نقوشا ملكية بالدرجة الاولى وما تعلق بالعوام ورد مبهما وان تميز بالتحامل والنقمة على الرعاع الذين اثاروا الفوضى وسببوا الاضطراب واخلوا بالنظام العام.

من هذه الوثائق ما تحدث عما يمكن ان نسميه انتفاضة عمالية نظمها رؤساء الحرف حيث كان لكل حرفة تنظيمها.. وقعت تلك الانتفاضة قرب العاصمة (منف) حيث احرق الثوار قصور الاغنياء من كبار الموظفين بعد نهبها واستولوا على ضياعهم وممتلكاتهم.. لقد كانت ثورة جياع حيث ورد في احدى البرديات ماينم عن الشكوى من الجوع والفقر (لقد عانينا الجوع والعطش وليست لنا ثياب وليس عندنا زيت او طعام). لقد كفر الجائعون بالحكومة وحتى بالالهة اذ ورد في بردية اخرى قول احد الثوار (لو كنت اعلم اين يوجد الاله لقدمت له قربانا).

شبكة النبأ المعلوماتية- الأربعاء 16/شباط/2011 - 12/ربيع الأول/1432

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1432هـ  /  1999- 2011م