
شبكة النبأ: التصور العام هو خاطئ
تماما حول العلاقات الامريكية العربية خلال العقد الماضي. فعندما نقيس
السلوك بمعايير موضوعية نجد أن العلاقات مع كل الحكومات العربية –
وغالب الجماهير العربية – قد تحسنت باستمرار وقوة بعد السنة الأولى من
حرب العراق.
وفي كثير من الحالات تظهر هذه الأرقام أن الجوانب الرئيسة من
العلاقات الثنائية كانت جيدة أو على الأقل أفضل – على المستويين الرسمي
والشعبي – في عام 2006-2008 في ظل حكم الرئيس بوش منها تحت حكم كلينتون
في عام 2000. وهذا صحيح رغم أن استطلاعات الرأي العربية تؤكد تدني
الصورة الأمريكية بشكل حاد لدى الشعوب العرب خلال ذلك العقد. بحسب معهد
واشنطن لسياسة الشرق الأدنى.
كما أن السنة الأولى من حكم الرئيس أوباما قد أظهرت استمرارا – وليس
تغيرا- لهذا الاتجاه. وعلاوة على ذلك فإن القياسات السلوكية تظهر أن
الإصلاحات العربية الداخلية سواء السياسية منها أو الاقتصادية قد حققت
المزيد من التقدم عندما كانت تدعمها إدارة بوش في 2003-2005 وتحديدا
عندما كانت الصورة الأمريكية في الدول العربية عند أدنى مستوياتها.
فالاستطلاعات والإعلام كلاهما يخبرنا أن العرب قد أحبوا بيل كلينتون
وكرهوا جورج بوش وأنهم يعلقون أو على الأقل كانوا يعلقون آمالا عريضة
على باراك أوباما. وبالمثل بالنسبة للولايات المتحدة نفسها اعتبارا من
2008 حيث واصلت وجهات النظر الإيجابية عن أمريكا الهبوط لدى من هم في
العشرينيات أو المراهقين أو حتى من هم أدنى منهم عمراً وكذلك في مجموعة
الدول العربية القليلة التي أجريت فيها الاستطلاعات. وفي تناقض حاد في
عام 2009 وجدنا أن الرئيس الجديد قد تمتع بمعدلات ترحيب أغلب العرب مما
جعله يزيد على جورج بوش بفارق 40 أو 50 نقطة بينما تحسنت أيضا الصورة
الأمريكية في هذه الدول بصورة ملحوظة. فقد توقع الإعلام الأمريكي
والعربي والخطاب الرسمي على كلا الجانبين بداية عهد جديد في العلاقات
الأمريكية العربية.
لكن هذا المشروع البحثي ليس عن استطلاعات الرأي أو النقاد أو الرأي
العام وإنما هو يبدأ بسؤال بسيط: خلال العقد الماضي منذ كلينتون ومرورا
ببوش وحتى أوباما ما هو سجل السلوك العربي الفعلي تجاه الولايات
المتحدة؟
هذا السؤال الأولي يمكن أن تتفرع منه بعض الأسئلة الثانوية والقابلة
للقياس المرتبط بالبحث. على سبيل المثال:
• بسبب المواقف العربية العكرة تجاه الولايات المتحدة، هل قطعت
الدول العربية إجمالا علاقاتها التجارية مع الولايات المتحدة أو
صفقاتها من الأسلحة الأمريكية؟
• هل لم يعد العرب يهتمون بالسفر أو الدراسة في الولايات المتحدة أو
شراء الماركات الأمريكية؟
• هل انفجرت المظاهرات المعادية لأمريكا في الشوارع العربية؟
• هل تراجعت الدول العربية عن الإصلاح السياسي أو الاقتصادي عندما
كلن هذا الإصلاح بدعم من واشنطن؟
• واليوم، هل تُرجمت معدلات الترحيب العربية الكبيرة بأوباما
والدولة ككل إلى تحسن ملموس في التفاعل العربي مع أمريكا؟
تثبت الأدلة التي يقدمها هذا التقرير أن الإجابة على كل هذه الأسئلة
هي "لا". ويشكل تحليل البيانات الدامغة وراء هذه النتائج التي تنافي
الحدس الجزء الأكبر من هذا التقرير. وفي الحقيقة تؤكد هذه النتائج أننا
نحتاج إلى نموذج جديد نفهم من خلاله العلاقات الأمريكية العربية وهو
النموذج الذي من شأنه أن يركز على الأفعال أكثر من المواقف.
وما يزال العمل جاريا لإكمال هذا النموذج كما أنه عرضة للتصحيح
والتحديث والتنقيح المستمر ولن يُقدم باعتباره الحقيقة المطلقة. لكنه
يطمح إلى أن يضيف بعداً هاماً – الذي هو مع الأسف مهمل – لفهمنا بحيث
يُكمل المناهج النوعية الأخرى أو تلك التي تركز بشكل أكبر أو بصفة
حصرية على البيانات السلوكية.
ويجيب هذا الملخص على أربعة أسئلة وهي: ما هو هذا النموذج الجديد؟
ما الجديد الذي يقدمه عن العلاقات الأمريكية العربية؟ كيف يمكننا شرح
هذه النتائج المفاجئة؟ وأخيرا، ما الذي يعنيه كل هذا للسياسة الأمريكية
عموما وللرئيس أوباما خصوصا؟
النموذج الجديد:
الفكرة الرئيسة وراء النموذج الجديد بسيطة. أولاً: دع عنك كل
الاستطلاعات وكل التغطية الإعلامية والتعليقات وكل البيانات الرسمية
والخطاب الدبلوماسي، ثم أوجد طريقة لإحصاء الكثير من الأنواع المختلفة
للسلوك العربي الفعلي وخاصة ذلك المتعلق بالعلاقات الأمريكية العربية
أو باختصار: ما يفعله العرب وليس ما يقولونه. تأكد أنك تفعل ذلك لكل من
السلوك الحكومي والشعبي، فالسلوك الحكومي مثلا يستخدم مدخلات من قبيل
استطلاعات الأمم المتحدة وصفقات الأسلحة والتجارة الثنائية إجمالا؛ لكن
السلوك الشعبي يركز على السفر والدراسة في الولايات المتحدة وشراء
المنتجات الأمريكية. بعد ذلك اجمع كل البيانات المتعلقة بهذه السلوكيات
لعشرين دولة عربية مختلفة خلال العشر سنوات الماضية، وتتبع كل تقرير
مؤكد عن المظاهرات المعادية لأمريكا أيضا. ثم بعد ذلك حدد كيف توثق
وتقيم وتعدل المبالغات والتحريفات الأخرى ، ثم اجمع وحلل وقدم كل
البيانات وفي ذات الوقت قارن العلاقات العربية مع الدول الأخرى بجانب
الولايات المتحدة. وأخيراً حاول الخروج بنتيجة من كل الأدلة مع التركيز
على المواقف عبر الزمن والتي تتعلق بالعالم الواقعي وسمها: "مؤشر
السلوك العربي" .
وبالإضافة إلى "مؤشر السلوك العربي"، ابتكر المؤلفون طريقة جديدة
لإحصاء التغيرات في الإصلاح العربي السياسي والاقتصادي خلال العقد
الماضي تتمثل في: "مؤشر الإصلاح العربي". ومن الواضح أن هذه التغيرات
ما هي إلا قياس غير مباشر للعلاقات الأمريكية العربية. ولكن نظراً لأن
الإصلاح السياسي والاقتصادي كانا هدفين رئيسين أعلنتهما الولايات
المتحدة للمنطقة أثناء هذا العقد، فإن من الأهمية بمكان فحص ما حدث
بالفعل من تقدم أو تراجع في كل دولة ووقته وما إذا كان ذلك مرتبط
بالولايات المتحدة بأية صورة من الصور.
لكن وبالطبع لا يكتمل أي بيان للمنهجية بدون بعض التنبيهات. أولاً،
بعض الجوانب المهمة في العلاقات الأمريكية العربية لا يمكن قياسها، مثل:
التغيرات المناخية والشخصيات وأحداث دبلوماسية أو قضايا أمنية محددة
وغيرها. وثانياً، أي تعميم عن الدول العربية هو محل ارتياب بلا شك
فهناك العديد والعديد من الاختلافات الفردية المهمة. وثالثاً، بينما أن
بياناتنا هي أفضل المتاح إلا إنها ليست تامة كما أن الطرق التي
استخدمناها لتقييمها وتعديلها وجمعها ليست هي الوحيدة التي يمكن
توظيفها بشكل معقول في هذا الميدان، ولذلك فنحن نقبل المقترحات بصدر
رحب لتجويد العمل.
ومع ذلك، فإنه يمكن قياس العديد من الأشياء المهمة بل ويمكن الخروج
ببعض التعميمات المهمة. وبغض النظر عن التفاصيل المنهجية، فثمة درس مهم
واضح من هذا التمرين. فكما هو الحال مع أية مجموعة، يمكن أن تكون
المواقف والأفعال العربية مختلفة جدا. ومن الآن فصاعدا، فإن أي تقييم
جاد لرؤية العرب للولايات المتحدة ينبغي أن يستعلم ليس فقط عن
اتجاهاتهم ولكن أيضا عن أفعالهم. ومن الواجب العثور على دليل قوي
وإيراد بعض التقارير ذات المغزى عما يفعله العرب والحكومات العربية في
الواقع وليس مجرد ما يقولونه.
"مؤشر السلوك العربي"
يشير "مؤشر السلوك العربي" إلى هبوط حاد في العلاقات الأمريكية
العربية تقريبا في كل فئة خلال أول عامين من رئاسة بوش حتى وصل إلى
أدنى نقطة في 2003. وقد هبط معدل الالتحاق الطلابي وانخفضت بصورة كبيرة
معدلات الحصول على تأشيرة السفر، وقل بصورة حادة تصويت الدول العربية
مع الولايات المتحدة في الأمم المتحدة كما انخفضت صفقات الأسلحة
الأمريكية إلى المنطقة بالمعنى النسبي والمطلق للكلمة. وحسب بعض
القياسات فإنه حتى التجارة الثنائية إجمالاً قد عانت بصورة طفيفة في
البداية كما تصاعدت بشدة وتيرة المظاهرات المعادية للولايات المتحدة في
العديد من الدول العربية مع بداية الحرب في العراق.
لكن في أغلب الفئات كان هناك صعود سريع وكبير في كثير من الأحيان،
وكان هذا صحيحا على المستويين الشعبي والرسمي، كما تضاءلت الاحتجاجات
المعادية لأمريكا بصورة كبيرة بعد 2005 حتى بعد وصول المظاهرات
المعادية لإسرائيل إلى ذروتها خلال حربي لبنان وغزة في 2006 وأوائل
2009 فضلا عن المظاهرات المتزايدة حول قضايا محلية في مصر والعراق
ولبنان والبحرين والكويت وغيرها. وعند اندلاع حرب العراق شارك أكثر من
ثلاثة ملايين عربي في المنطقة في مظاهرات ضد أمريكا وهو ما يمثل واحداً
بالمائة من إجمالي سكان العرب. لكن المتوسط لكل عام آخر في العقد
الماضي كان أقرب إلى نصف مليون، لكنه انحدر بشدة في السنوات الأخيرة.
والقصة مشابهة فيما يتعلق بعدد المظاهرات المختلفة. فمن 2000 وحتى
2005 كانت هناك 539 مظاهرة كبيرة ضد أمريكا في أرجاء المنطقة، بما يصل
إلى متوسط ست مظاهرات لكل دولة في كل عام، حيث جاءت العراق في المقدمة
في هذا الصدد. وبالعكس فإنه من 2006 حتى 2009، أفادت التقارير وجود 132
مظاهرة فقط مما يعني في المتوسط مظاهرتين لكل دولة في العام بينما ما
تزال العراق في المقدمة أيضاً.
وفي الفئة الاقتصادية نجد بعد 2003 أن نمو الصادرات الأمريكية إلى
الدول العربية كان مذهلاً حيث ارتفع فجأة من 18.2 مليار دولار في 2000
إلى 46.3 مليار دولار في 2008 بقيمة دولارية ثابتة. وقد كان هذا النمو
مذهلا بشكل خاص بين الماركات والبضائع الأمريكية الاستهلاكية. فقد زادت
مبيعات السيارات الأمريكية خمسة أضعاف في السعودية وعشرة أضعاف في
الإمارات العربية المتحدة ما بين عامي 2003 و2008. كما زادت مبيعات
السلع الاستهلاكية الأخرى بأكثر من خمسين بالمئة في أرجاء المنطقة حتى
بعد التعديل للتضخم. وقد أعلنت بروكتر آند جامبل بفخر أن منتجاتها
تستخدم في كل تسعة من عشرة بيوت مصرية، كما زاد الطلب على منتجات شركة
كرافت فودز في المنطقة كعامل رئيس في نموها العالمي في 2006 و2007.
وحتى عندما يقول العرب إنهم يكرهون الماركات الأمريكية فهم في الواقع
يحبون الماركات الأمريكية!
وبالمثل فإن معدلات التحاق الطلاب العرب في الولايات المتحدة قد
هبطت إلى أدنى المعدلات في 2005 لكنها الآن قفزت متجاوزة أعلى نقطة
سجلتها في بداية العقد، حتى بعد أن أنشأت الكليات الأمريكية فصولاً
دراسية لها عبر الفضائيات في المنطقة. كما ارتفع عدد الزوار العرب
للولايات المتحدة منذ 2003 حتى وصلت زيارات أفراد بعض الدول إلى أعلى
مما كانت عليه قبل أحداث 11 سبتمبر. وبعبارة أخرى فإن العرب من كل دولة
عربية تقريبا كانوا يسافرون ويدرسون بالولايات المتحدة بل، وعلى نطاق
أوسع، كانوا يشترون الماركات والأصناف الأمريكية برغم كرههم العام
للرئيس الأمريكي والسياسات الأمريكية والولايات المتحدة نفسها طبقا
لجميع الاستطلاعات. وهذا لا يعني أن العرب منافقون في مشاعرهم لأن هذه
الأمور من طبائع البشر.
وأما عن الحكومات العربية، فإن غالبها بالفعل قد طور علاقاته
الدبلوماسية والاقتصادية والأمنية مع واشنطن منذ عام 2004 وحتى 2008
قبل أن يأتي أوباما بفترة طويلة. كما أن مبيعات الأسلحة الأمريكية،
التي تعد في الغالب المؤشر الذي يمكن الاعتماد عليه للتعاون الأمني
بوجه إجمالي، زادت بصورة ملحوظة تقريبا مع كل حكومات العرب، وكانت
الاستثناءات الوحيدة هي سوريا والسودان والسلطة الفلسطينية. كما أن
إجمالي التجارة مع غالب الدول العربية قد نما بصورة كبيرة أيضا. وقد
ظلت سوق الأسهم الأمريكية مقارنة بالمصدرين الآخرين بوجه عام ثابتة بل
وتحسنت في بعض الحالات، من بينها تونس وعمان وموريتانيا والعراق وليبيا.
وخلال نفس سنوات بوش، تمتعت الولايات المتحدة كذلك بزيادة التعاون
العسكري وجهود مقاومة الإرهاب مع كل الدول العربية تقريباً باستثناء
سوريا، سواء مع الحلفاء التقليديين مثل مصر والدول الأعضاء في مجلس
التعاون الخليجي والأردن أو الدول الأخرى مثل الجزائر واليمن. وكان
هناك تحول كامل في العلاقات مع ليبيا التي تحولت من منبوذ إلى شريك (كما
فعلت العراق برغم أنها دفعت ثمنا غاليا). وبرغم كل ذلك، إلا أن نماذج
تصويت العرب في الأمم المتحدة قد تراجعت، حيث وصلت نسبة تصويت الدول
العربية مع الولايات المتحدة إلى أقل من 8 % مما كان عليه الحال منذ
2005.
وبعيدا عن هذه الاتجاهات الإقليمية العريضة، فإن الدول الفردية
تستحق فحصا أكثر تدقيقاً. فهناك منطقة جغرافية معينة على قدر كبير من
الأهمية كثيرا ما نتغاضى عنها رغم أهميتها وهي المغرب العربي. فمنذ عام
2003 إلى عام 2008، تحسنت العلاقات الأمريكية الدبلوماسية والأمنية
والاقتصادية بصورة ملحوظة مع كل دولة في هذه المنطقة الفرعية التي تضم
المغرب والجزائر وتونس وليبيا وموريتانيا بل والسودان في بعض النواحي.
ونفس الشيء ينطبق على العلاقات على المستوى الشعبي، بحسب المقاييس
المتعلقة بمعدلات الطلاب العرب والمسافرين والسلوك الاستهلاكي.
وثمة مجموعة أخرى رئيسة من الدول وهي المصدرة للبترول، حيث تشير
البيانات هنا أن الصادرات للولايات المتحدة من معظم المنتجين العرب،
حتى عندما تقاس من حيث الحجم وليس القيمة الدولارية المتغيرة، ظلت
ثابتة بل وتشهد زيادة خلال هذه الفترة بغض النظر عن التوترات السياسية
المتنوعة. ومع ذلك فهناك حالة شاذة وهي اليمن، فصادرات نفطها للولايات
المتحدة قد ضعفت إلى نقطة التلاشي في 2008، مع تدني إجمالي الصادرات
التي تتدفق إلى أنحاء أخرى - حتى برغم تحسن العلاقات الثنائية السياسية
والأمنية بوجه عام.
وباختصار وبغض النظر عن استطلاعات الآراء العربية أو ما يقوله
الإعلام العربي، فإن العلاقات الأمريكية العربية سواء الشعبية منها أو
الرسمية قد تحسنت بوجه عام وبصورة ثابتة في كثير من الجوانب خلال فترة
الرئاسة الثانية لإدارة بوش التي فقدت الشعبية بصورة كبيرة. وطبقا لبعض
المقاييس الموضوعية، فإنه في 2007 أو 2008 قد فاقت هذه العلاقات
المستويات السابقة في ظل حكم كلينتون.
نحن بهذا لا نقول إن سياسات إدارة بوش وخاصة الحرب على العراق لم
يكن لها أثر على العلاقات الأمريكية العربية، فالواقع أن البيانات تظهر
تراجعا كبيرا من أواخر 2001 وحتى 2003، لكنها أيضا تظهر تعافيا سريعا
وثابتا وقويا في كثير من الجوانب المهمة في هذه العلاقات برغم
التصنيفات المنخفضة على نحو قياسي في استطلاعات الرأي والنقد الإعلامي
المتواصل. وكان هناك تناقض واسع ومتنام بين المواقف العربية تجاه
الولايات المتحدة كما تبين من خلال الاستطلاعات أو التغطية الإعلامية
والأفعال العربية تجاه الولايات المتحدة حسب القياس من خلال مؤشرات
السلوك الموضحة في هذه الدراسة.
ووفق هذا المعيار، لا يتضح تماماً السبب وراء دعوة الرئيس أوباما
إلى "بداية جديدة" في العلاقات الأمريكية العربية في أثناء خطابه عام
2009 الذي ألقاه في القاهرة، حيث قال إن العلاقة ينبغي "أن تقوم على
الاحترام والمصلحة المشتركة بين الجانبين"، ومع ذلك فإن الأدلة تشير
إلى أن المصلحة تفوق الاحترام.
"مؤشر الإصلاح العربي"
باختصار وإجمال شديدين، يظهر "مؤشر الإصلاح العربي" نموذجا من
التقدم الضعيف في الإصلاح السياسي في المنطقة والذي تركز في الفترة ما
بين 2003 و2006. أما عن الإصلاح الاقتصادي، فالنموذج غير مستو: حيث نجد
تقدما بسيطا في كثير من الدول يتبعه بعض التراجع ثم النهوض باتجاه
نهاية العقد.
وبالإمعان أكثر في "مؤشر الإصلاح العربي" دولة بدولة وعاما بعام نجد
أنه يدلنا على بعض النتائج المثيرة. أولاً: كانت الإصلاحات الاقتصادية
والإصلاحات السياسية تحديداً هي الأكثر نجاحاً على الأقل نسبيا بين تلك
الدول العربية التي تعتبر صديقة للولايات المتحدة، وثانياً: أن ذروة
الإصلاح العربي في العقد السابق (مرة أخرى ما بين 2003 و2006) كانت
أيضا في الفترة عندما كانت واشنطن تعزز بقوة من هذه الأجندة في المنطقة
على مستوى الخطاب وإلى حد ما على المستوى العملي. وعلى العكس، فعندما
ضعف الإلحاح الأمريكي لأجل هذه الإصلاحات بداية من 2006، تباطأت بل
وتراجعت بالفعل هذه الإصلاحات في كثير من هذه الدول. وينبع هذا
الانكماش فيما يبدو على الأقل جزئيا من إحجام النظام وعناده ضد
الانفتاحات الانتخابية ومبادرات الإصلاح الأخرى التي دعمتها الولايات
المتحدة بقوة من 2003 وحتى 2006.
وثمة نتيجة أخرى غير متوقعة وهي أنه في بعض الحالات بدا أن ثمة
ارتباطا قليلا بين الإصلاح وغيره من القضايا الأخرى على الأجندة
الأمريكية مع دول عربية معينة. خذ مصر مثلاً: ثمة القليل في التجارة
ومبيعات الأسلحة، فقد أكدت بعض الإحصائيات أن تلك الجوانب من العلاقات
الأمريكية المصرية قد عانت من إصرار واشنطن على الإصلاح. وحتى نكون على
يقين على المستوى الدبلوماسي والرمزي، فإن معظم المحللين المستنيرين
يتفقون على أن غضب الرئيس المصري السابق حسني مبارك من هذا الإصرار قد
استمر برفضه لزيارة الولايات المتحدة في الفترة من 2004 حتى 2009، لكن
ثمة القليل من الأدلة على أن هذه المشاعر قد غيرت الديناميكيات الراسخة
للتعاون الأمريكي المصري أو الخلاف حول أية قضية سواء دبلوماسية أو
اقتصادية أو عسكرية.
ولا شيء من هذا يشير ضمناً إلى وجود ارتباط سببي بسيط أو حتى مهم
بين السياسة الأمريكية والإصلاح في المنطقة. ففي بعض الحالات، كما في
الكويت، ثمة إصلاحات سياسية بارزة منذ 2006 ولم تكن لها علاقة
بالسياسات الأمريكية في هذه المسألة. وبوجه عام، فإن النموذج الإقليمي
لا يشير إلى أن الدعم الأمريكي لمثل هذا الإصلاح يمكن في الحقيقة أن
يساعد على تعزيزه، ولو بصورة هامشية على الأقل.
والأمر الذي على نفس القدر من الأهمية بل والأكثر إدهاشا أن ثمة
نتيجة أخرى ترجح الاستنتاج بأن السياسات الأمريكية المثيرة للجدل حول
قضايا أخرى، مثل العراق أو إسرائيل، كان لها تأثير محدود أو منعدم على
تراجع الإصلاح الداخلي العربي على المستويين السياسي والاقتصادي. وفي
الحقيقة، فإن هذه الإصلاحات كانت في غاية النجاح عندما كان السخط
الشعبي والرسمي ضد السياسات الأمريكية في العراق والصراع العربي
الإسرائيلي وسجن جوانتانامو وغيرها من القضايا في أسوأ حالاته، وهذا
يقودنا إلى الغرض الرئيسي التالي للدراسة ألا وهو: بيان الفجوة الكبيرة
الواضحة بين المشاعر والأفعال العربية تجاه الولايات المتحدة.
كيف نفسر هذه النتائج المفاجئة؟
أولاً: على المستوى الرسمي، ثمة أربعة توضيحات معقولة للفجوة
الكبيرة بين المشاعر المعادية لأمريكا التي يفترض أنها على نطاق واسع
وبين السلوك الفعلي للعرب:
1- معظم الحكومات العربية ليست نظما ديمقراطية بحيث تصير مسئولة
مباشرة أمام شعوبها.
2- معظم النخب الحاكمة العربية تريد علاقات جيدة مع الولايات
المتحدة بل وتوافق في السر على بعض السياسات الأمريكية الرئيسة في
المنطقة. ومما يدعو للسخرية، بناء على سجل السلوك الذي تناولناه بالفحص
والتدقيق، أن الرغبة في إقامة علاقات جيدة ربما تدفع النخبة إلى مسايرة
بعض السياسات الأمريكية التي تعارضها فعلياً مثل الإصلاح السياسي
الداخلي. لكن لو ارتأت حكومة عربية أن المزيد من الإصلاح من شأنه أن
يهدد استقرارها، فإنها يقينا سوف تتراجع بغض النظر عن أماني واشنطن.
وفي هذه الحالة، ومرة أخرى بالنظر إلى السجل السلوكي، فإن واشنطن ربما
تتراجع هي الأخرى.
3- بعض الحكومات العربية متمرسة في إخفاء تعاونها الواسع مع
الولايات المتحدة خلف قناع إعلامي مناهض لأمريكا، ومصر وقطر هما
المثالان اللذان يقفزان إلى الذهن هنا.
4- حتى الشعوب العربية التي تكره الولايات المتحدة أو بعض سياساتها
تتقبل قيمة العلاقات الحكومية الجيدة مع أمريكا، بل وهم يقبلون أحيانا
بعض السياسات الأمريكية الحاسمة مثل مواجهة إيران، والحكومات العربية
على وعي بهذه الحقائق.
وفي حزيران/ يونيو وتشرين الثاني/ نوفمبر 2009 اختبرت الاستطلاعات
المخصصة لهذه الدراسة هذا الطرح. ففي الأردن عبر ربع المستجيبين فقط عن
رؤية "إيجابية نوعا ما" نحو الولايات المتحدة لكن أكثر من ضعفي العدد
(53%) قالوا إنه كان من المهم للحكومات العربية الحفاظ على علاقات جيدة
مع واشنطن. وفي مصر كان الرقم الموافق حوالي 40% - وهو ليس بالرقم
الكبير لكنه جيد بما يكفي فيما يتعلق بالعمل الحكومي. وفي نفس الوقت
عبر حوالي 40% من المصريين والأردنيين و57% من السعوديين عن دعمهم
للاقتراح الأمريكي بفرض عقوبات أقوى ضد إيران لو لم تقبل الأخيرة
القيود الجديدة المفروضة على برنامجها النووي.
وتساعد هذه العوامل على توضيح التعاون بين أمريكا والحكومات العربية.
لماذا تحول السلوك الشعبي وأصبح مواتياً نسبيا فيما يتعلق بالسفر
والدراسة والعادات الشرائية والاحتجاجات في الشوارع - رغم أن المشاعر
قد بدا أنها تراجعت بدرجة كبيرة؟
مرة أخرى نقول إن ثمة العديد من العوامل المختلفة التي ربما تكون
فاعلة:
1- بالنسبة لمعظم العرب، نجد في غالب الوقت أن العلاقات السياسية مع
الولايات المتحدة هي ببساطة ليست أولوية مهمة بخلاف الاقتصاد. فنفس
الاستطلاعات التي أظهرت سخطا عارما ضد أمريكا أظهرت كذلك (لو عرفت
المكان الصحيح الذي تبحث فيه) أن السياسة الأمريكية ليست أمرا ذا بال
يشغل عقول الناس.
2- وعلى نحو أكثر تخميناً، وبعبارة الشاب الأردني الباحث وليد التل،
فإن الشارع العربي الآن عليه معارضة "الأريكة العربية". وللمفارقة فإن
المزيد من حرية الإعلام والرفاهية ربما يغري بعض العرب بمشاهدة
السياسات على التليفزيون أو التدوين عنها على الانترنت بدلا من
المبادرة بالفعل.
3- ربما يفرق الجمهور العربي بشكل أكبر بين الولايات المتحدة
وإسرائيل أو بين سياسات أمريكية معينة والتعليم والعمل والفرص
الأمريكية الأخرى. وربما يساعد هذا على تفسير السبب في أن المظاهرات
المعادية لإسرائيل في 2006 أو 2009 لم تتحول إلى مظاهرات معادية
لأمريكا والسبب – في إشارة أكثر إيجابية – وراء استئناف الطلاب العرب
وغيرهم سفرهم وزياراتهم للولايات المتحدة.
4- ربما تكون الليبرالية النسبية لبعض الأنظمة العربية وإحجامها
الكبير عن استخدام وسائل وحشية ضد الإضرابات والمظاهرات المحلية قد
حولت بعض الاحتجاجات إلى الداخل بدلا من الاتجاه المعادي لأمريكا.
وأخيراً، فإننا نذكر بعض الأشياء عن السلوك الاستهلاكي، حيث توجد
العديد من الدعابات حول السبب وراء أن كثيرا من العرب ما يزالون يشربون
قهوة ستاربوكس أو يأكلون وجبات ماكدونالدز حتى عندما يقولون إنهم
يكرهون أمريكا. وعلى نحو أكثر منهجية نجد أن استطلاع حزيران/ يونيو
2009 الأردني في هذه الدراسة قد أظهر أن ثلاثة أرباع المشتركين قد
عبروا عن رؤية سلبية بوجه عام ضد الولايات المتحدة، لكن ربعا واحدا قال
إنه ربما لا يشتري منتجات أمريكية لأسباب سياسية أو دينية. ومن الواضح
أن كفة الرغبة التجارية الاستهلاكية ترجح على كفة المشاعر السياسية
عندما يتعلق الأمر بالسلوك الفعلي.
وقد كان هذا أكثر وضوحاً في مصر، فهي سوق أكبر خمس عشرة مرة، حيث
قال 15% فقط من المصريين إنهم ربما يتجنبون شراء المنتجات الأمريكية
لأسباب سياسية أو دينية. والملاحظ أن ضِعفهم قال إنهم ربما يشترون
المنتج الأمريكي بفضل شكله أو قيمته أو جماله أو لأسباب ترجع إلى
التجربة السابقة أو التوصية الشخصية. وقد كان هذا هو الحال حتى مع وجود
غالبية طفيفة (54%) عبرت أيضا على الأقل عن مشاعر سلبية نوعا ما ضد
الولايات المتحدة.
وعلاوة على ذلك، فإن الأشخاص في الدولتين قد أظهروا تشوشا كبيرا حول
أي منتجات أمريكية وأيها ليس بأمريكي. فقد قال أقل من الثلث في كل دولة
إن زيروكس ماركة أمريكية. وفي الأردن تكرر نفس الشيء بالنسبة لمعجون
الأسنان كريست. والغالبية في مصر(57%)، حيث تشتهر كريست، كانوا يعلمون
أصلها الأمريكي، لكن نسبة كبيرة مماثلة ذكرت أيضاً أن الماركة الزائفة
"ملابس جورج الرياضية" كانت أمريكية. وبالعكس، فإن حوالي الثلث فقط
كانوا يعلمون أن نيسكافيه ليست شركة أمريكية. ومن الواضح أن الرأي
العام في تلك الدول سوف يواجه مصاعب إن هو شاء مقاطعة البضائع
الأمريكية حتى لو أراد ، والحقيقة أن معظمهم لا يريد ذلك.
ماذا يعني كل هذا؟
يعرض هذا التحليل خمسة دروس عامة سريعة:
1- يمكن أن يتناغم سلوك معظم الحكومات العربية مع المصالح الأمريكية
على المدى المتوسط في كثير من المجالات - خاصة العلاقات الاقتصادية
والأمنية - حتى عندما تتصاعد المشاعر الشعبية العدائية.
2- الأمر المفاجئ هو أن هذا ينطبق أيضاً على معظم الجماهير العربية،
حتى عندما يستنكرون بشكل كبير الولايات المتحدة وسياساتها، فإنهم
يميلون إلى الاحتفاظ بعلاقات شخصية واقتصادية ودراسية معها. بل وفي
الغالب فإنهم يمتنعون بصورة متزايدة عن المشاركة في المظاهرات المعادية
لأمريكا ودعم الإرهاب المعادي لأمريكا.
3- يجب على صناع السياسة أن يضعوا هذا الانقسام بين المصالح
والمشاعر في الحسبان عند تقرير الاستراتيجية الأمريكية في الشرق
الأوسط. فالحكومات العربية، شأنها في ذلك شأن معظم الحكومات، سوف تعمل
لتحقيق مصالحها بينما سيظل المواطنون العرب يفعلون نفس الشيء.
4- بخصوص الإصلاح، يجب على مسئولي الولايات المتحدة أن يدركوا أن
الجهود السابقة قد أفرزت بعض النتائج الايجابية حتى عندما وصل التوتر
حول قضايا أخرى إلى أشده. وفي نفس الوقت تظهر مؤشرات السلوك أن الإصلاح
يمكن أن يكون سيفا ذا حدين. فالإصلاح السياسي في بعض الدول قد أطلق
تهديدات متصورة بشأن الاستقرار، مما أسفر عن رد فعل حكومي. كما أن
الإصلاح الاقتصادي قد فتح مجالات جديدة للفساد مثلما فتح مجالات أخرى
للنمو، وليست هناك وصفة سحرية لتجنب هذه المخاطر، ولذا يتطلب الأمر
الحذر.
5- سواء كانت النقاط السابقة صائبة أم لا، فإننا بحاجة إلى المزيد
من البحث، لكن ما هو نوع البحث؟ بحث يقلل التركيز على المشاعر ويزيد
التركيز على الأفعال! فكل مرة ترى تحليلا للمشاعر العربية، يجب عليك أن
تتوقف وتطرح السؤال التالي: لكن ماذا عن أفعالهم؟ ما هو الدليل، إن
وجد، حول سلوكهم؟ وما هو الارتباط، إن وجد، بين هذه المشاعر وتلك
الأفعال؟
وأخيراً، فيما يتعلق بالرئيس أوباما، فإن هذا التقرير يقدم بالفعل
بعض البيانات السلوكية العربية من عامه الأول في السلطة، فمن السابق
لأوانه الحكم على ثقل "أي تأثير لأوباما" على العلاقات الأمريكية
العربية. وبرغم الشعارات، فإن المؤشرات الأولية تميل إلى الاستمرار لا
التغير. ولقد عبر الرئيس عن الوضع خير تعبير عشية خطابه في القاهرة في
9 حزيران/ يونيو بقوله:
أؤمن أننا لو دخلنا مباشرة في حديث مع الشارع العربي واقتنع أننا
نعمل بطريقة مستقيمة، فسيكونون هم وقادتهم، على الهامش، أكثر ميلا
للعمل معنا، وبالتالي ربما يكون هناك احتمال أقل لأن يصيروا عرضة
لاستقطاب الإرهابيين."
ومحل الشاهد في كلامه هو:" على الهامش" و"ربما يكون هناك احتمال
أقل"، مما يجعل أي أمل لمزيد من الربط بين المشاعر والأفعال أملا
طائشاً.
لكن الآن ومع إبداء الإعلام العربي والأمريكي خيبة الأمل بشأن نتائج
منهج أوباما في التعامل مع العرب والجماهير المسلمة الأوسع نطاقاً،
فإنه ربما يكون هناك أساس لأمل من نوع آخر. وعلى كل حال ، فإن السجل
السلوكي للعقد الماضي، بحسب ما كشفته هذه الدراسة، يشير بقوة إلى أن
المصالح الأمريكية العربية المشتركة يرجح أن تسود حتى لو لم يكن إنجاز
أوباما على قدر الطموحات الكبيرة للبداية الجديدة التي أعلن عنها في
خطابه في القاهرة. |