الثورة الخلاقة ضد الفوضى الخلاقة

قراءة في ثورتي تونس ومصر

كامل الجباري

لقد شاع مصطلح "الفوضى الخلاقة " في الأدبيات السياسية باعتباره الإستراتيجية المفضلة لقوى الهيمنة العالمية بقيادة الولايات المتحدة لتفتيت بلدان العالم وتجزئتها، وبالتالي إدامة الهيمنة وضمان أفضل الشروط لتحكم الرأسمالية العالمية بالشعوب ومصائرها وجعل هذه الشعوب واقتصادياتها الزيت اللازم لمحركات النظام العالمي "الجديد" الذي تعصف به الأزمات البنيوية التي لا يستطيع الفكاك منها.

يلعب هذا المصطلح دوره التحريضي في قطع الطريق على أي نشاط ثوري جماهيري للجماهير نتيجة لخلط الأوراق في محاولة لخلق حالة من التماهي بين الاحتجاجات التي تنتجها ماكنة الفوضى الخلاقة، وبين الاحتجاجات الثورية الساعية لتقويض أنظمة اللبرلة الاقتصادية المتطرفة، المفروضة من النظام العالمي الجديد، وما أنتجته من طبقات سائدة من اللصوص والطفيليين، الذين يستغلون السلطة لتكوين ثروات هائلة، أو من أصحاب رؤوس الأموال الذين ينمون ثرواتهم عن طريق الزواج الكاثوليكي بين السلطة والثروة، مكونين حلفاً فاشستياً ضد الشعوب التي تزداد فقراً حيث يواجهون أبسط مطالبها بالقمع الوحشي.

ومن هذا المنطلق تأتي الماكنة الإعلامية الضخمة، سواء الإعلام المصري الرسمي أو سائر الإعلام المشابه، من إشاعة هذا الخلط وتنسيب الثورة المصرية إلى نمط من أنماط الفوضى الخلاقة "لتخريب مصر" باعتبارها القوة الإستراتيجية الأهم في العالم العربي وأفريقيا، بينما تأتي أفكار أخرى من المسكونين بعقلية المؤامرة بمنح أمريكا قدرة الاله الذي يتحكم بكل شيء، فينسبون خروج هذه الملايين في الشوارع إلى العصا السحرية للساحر الأمريكي ؛ ويمكننا أن نشير بين قوسين أن عصى سحرة فرعون التي أخافت الناس وشلت قدراتهم قد أبطلتها عصى موسى في لحظة، وهكذا تفعل الآن الجماهير المحتشدة في ساحة التحرير.

ولمزيد من الوضوح من أجل فك الاشتباك وإنهاء حالة التماهي الزائفة بين الفوضى الخلاقة والثورة الخلاقة لبيان ماهية كل منهما ولنأتي أولاً على آليات عمل الفوضى الخلاقة.

تعتمد الفوضى الخلاقة على أشياء غير واقعية في الصراع فتستلب الإنسان – الإنسان وتحوله إلى الإنسان- العنصر أو الإنسان –الطائفة أو الإنسان – القبيلة وغير ذلك من التوصيفات الإنصهارية وتجعله متصارعا على هذه الأسس، وهذا ماتراه في الصراع " الإسلامي – القبطي" مثلاً، أوما تراه من شعارات مفرغة من المحتوى كحقوق الإنسان والحرية بشكل عائم " وهي اللهجة المفضلة للخطاب الأمريكي، وقد شاهدناه على الأرض بشكل مباشر في العراق وأفغانستان، حيث تسخر هذه الشعارات ضد الأنظمة المعادية لها فيما تصمت صمت القبور إذا ما كانت هذه الشعارات تضر بمصالحها (الحالة التونسية كمثال).

والملاحظ أيضاً ترافق ذلك مع أعمال همجية وصراعات مسلحة غير مفهومة تدرك قوى الهيمنة تفوقها في ذلك وأنها لا تنتج سوى الرعب والخراب وإدامة الصراع لتكون الأوكسجين الذي يسري في عروقها ويمدها بالحياة وكما هو معروف فان البوم تهوى المناطق الخربة.

هنا يأتي السؤال الخطير: ما هو الجديد الذي جاءت به الثورتان التونسية والمصرية ؟

السمة الأولى المهمة هو الانخراط المليوني الواسع للشباب الذي استطاع تنظيم ذاته بشكل غير تقليدي وبحيوية مذهلة، وأثبت كفاءته وكفاحيته وإصراره ووعيه ومدنيته وتحضره، مما أذهل الأنظمة الحاكمة وجعلها تتخبط عاجزةً في محاولاتها التعامل مع الإحداث حيث لجأت إلى أساليب القرون الوسطى وإلى المافيات الإجرامية في مقابل الطابع السلمي الحضاري للثورة.

 ورغم كل الاستفزازات والأعمال الوحشية لحكم أنظمة الطبقات الطفيلية، فقد حافظت ثورتي تونس ومصر على طابعهما السلمي المتحضر وحمايتهما لأمن المرافق الحيوية والمدن والأحياء بينما كان ممثلو الأنظمة يحاولون تخريب كل شيء.

هنا تبرز صورتان: الصورة الأولى، النظام الجديد الكامن في رحم الاحتجاجات الشعبية وهو يبشر بالأمان والحرية والمجتمع المدني والعدالة الاجتماعية. تقابله الأنظمة السائدة المتخلفة بالتعامل مع الجماهير بكل وحشية.

السمة الأخرى هي سيادة مفهوم الإنسان المواطن مقابل الإنسان المنصهر في فئة او جماعة مغلقة، وبالتالي المجتمع المتساوي في الحقوق والواجبات ومن ثمة إلغاء الصراعات الوهمية.(لم تشهد مصر أي صراع طائفي منذ اختفاء السلطة الأمنية في مصر.

السمة الثالثة، إن التحرك الجماهيري الجذري لم يطال النظام فقط وإنما أيدلوجيته السائدة حيث نشاهد رفضاً وواضحا ومراً للأحزاب التقليدية المعارضة للنظام أو التي تشكل ظله، وقد قيمتها الجماهير بأنها بدائل تعيد أنتاج النظام بواجهةً أخرى، أي بتعديلات لا تمس الجوهر.

كخلاصة ختامية، فأن الوعي الجديد ما زال غير متبلور، ويرجع ذلك إلى أن تراكمات الوعي الكمية لم تنتقل بعد إلى القفزة النوعية، حيث تطرح الجماهير الثائرة إنها غير سياسية، وفي الحقيقة هي تمارس نشاطاً سياسياً من نوع جديد ينسجم مع الحقيقة الجديدة في التاريخ.

إن هذا الاعتراض الجماهيري الكبير عمل سياسي من طراز رفيع. أنه مفهوم جديد للسياسة يحتاج إلى بلورة فكرية وأنماط تنظيمية جديدة سيفرزها هذا الحراك الجماهيري.

شبكة النبأ المعلوماتية- الثلاثاء 8/شباط/2011 - 4/ربيع الأول/1432

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1432هـ  /  1999- 2011م