تجتاح مصر منذ الخامس والعشرين من الشهر الماضي ثورة عارمة يقودها
شباب من هذا الجيل المصري الجديد الذي ابتلى بفساد وظلم نظام الرئيس
حسني مبارك الممسك بزمام الحكم في بلاده منذ 14 أكتوبر 1981، والتي
تعتبر فترة قياسية واستثنائية بالنسبة لمصر الذي يُعد مبارك الأطول
حكما فيها بين ملوكهم ورؤساءهم منذ عهد محمد علي باشا، وحتى في الوطن
العربي الذي ينال مبارك فيها المرتبة الرابعة بعد القذافي وقابوس وعبد
الله صالح.
هذه الثورة، التي جاءت في وقت ظن فيه الكثيرون أن الشعوب استسلمت
للعيش تحت حكم أي نظام كما يقول الخبير الباكستاني المتخصص في شؤون
الشرق الأوسط طلعت حسين، لم تزل تزداد جذوة وإصرار كل يوم على الرغم من
إعلان مبارك انه لن يرشح نفسه لولاية جديدة في الانتخابات القادمة التي
ستجري في أيلول المقبل في محاولة منه لتهدئة وطمأن تلك القوى الشعبية
التي يبدو أن رسالتها وصلت الى مُبارك وأدركها بصورة جلية.
المسؤولون في الحكومة المصرية حاولوا، بعد تصريح مبارك وشعورهم أن
المتظاهرين مازالوا يطالبون بتنحي مبارك عن السلطة وتزداد أعدادهم كل
يوم في ساحة في ساحة التحرير، تأكيد ما قاله مبارك حول عدم ترشيحه
للانتخابات القادمة وأضافوا إلى هذا التأكيد إشارة أخرى حول جمال مبارك
الذي حاول الحزب الوطني الحاكم تسويقه وتحضيره لولاية والده قبل حدوث
الثورة الشعبية، فقال في هذا الصدد نائب مبارك المُعين حديثا ورئيس
جهاز المخابرات الأسبق عمرو سليمان، يوم الخميس 3 شباط، بان الرئيس
مبارك قد أكد "عدم نيته الترشح، ومن الطبيعي أن لا يترشح احد من أسرته
كذلك بما فيه ابنه جمال كما يدعي البعض".
ولم تقتصر الحكومة المصرية و نظامها الحاكم على طمأنة الشعب ومحاولة
إخماد ثورته وإبطال نارها المتقدة على إعلان مبارك فقط، بل بدأت
بإجراءات أخرى كتنحية احمد عز القيادي الكبير والأمين العام في حزب
مبارك الحاكم والمتهم بقضايا فساد كبرى، وصدور قرار من النائب العام
المصري عبد المجيد محمود يوم 3 شباط بتجميد أرصدة عدد من رموز النظام
المصري الحاكم السابقين ومنعهم من السفر خارج البلاد. وهو إجراء يخص كل
من احمد عز ووزير السياحة السابق زهير جرانة ووزير الإسكان السابق أحمد
المغربي ووزير الداخلية في الحكومة المصرية السابقة حبيب العادلي، كما
تم إقصاء قيادات الحزب الحاكم كجمال مبارك وصفوت خيرت من الحزب وتعيين
بدلا منهم حسام بدراوي كامين عام ورئيس للجنة السياسات فيه وهناك إخبار
أيضا تقول بان مبارك سيستقيل من رئاسة الحزب.
وقد رافق الضغط الداخلي الذي تعرض له مبارك من الداخل ضغط آخر
اعتبره العديد من المراقبين مفاجئاً أبرزه كان الموقف الأمريكي الذي
طالب بإحداث تغيير فوري في مصر، كما ندد زعماء كل من بريطانيا، فرنسا،
ألمانيا، إيطاليا وإسبانيا بأعمال العنف التي قام بها مناصرو الرئيس
المصري حسني مبارك ضد المحتشدين في ميدان التحرير، ودعوا مبارك الى نبذ
أي عنف ضد المدنيين العُزّل والى الاعتراف بحقوق المحتجين السلمية حيث
قالت كاثرين اشتون مسؤولة السياسة الخارجية بالاتحاد الأوروبي انه
يساورها " قلق عميق" بشأن أعمال العنف التي وقعت اثناء ليل الاربعاء في
القاهرة ودعت الجيش الى السيطرة على الوضع. وهو موقف ادى الى استياء
شديد من الرئيس المصري.
وبرغم ذلك فإننا لا نجد سببا لإصرار المتظاهرين على إقصاء مبارك
بصورة فورية لان ذلك يعني، من الناحية السياسية، وبحسب الدستور المصري،
تولي رئيس البرلمان رئاسة الجمهورية الذي بدوره سيقوم بعملية التحضير
للانتخابات التي يجب ان تجري بعد ستين يوما، مما يؤدي إلى العمل بنفس
هذا الدستور الذي يُطالب المتظاهرون بإعادة صياغته وكتابة دستور جديد.
ولذا تجد، وفي مقابل هذا الإصرار على استقالة مبارك والحكومة وحل
مجلسي الشعب والشورى وتعديل الدستور وتشكيل حكومة انتقالية، سليمان
يتحدث عما اسماه " خطة طريق" وضعها مبارك لتنفيذ مطالب الشباب، مشيرا
إلى أن الانتخابات الرئاسية لن تتأخر عن موعدها في سبتمبر القادم،
مضيفا بأنه لا يمكن النظر في مطلب التعديلات الدستورية أن تم حل مجلسي
الشعب والشورى اذ انها تتطلب 70 يوما على الأقل لإقرارها في البرلمان،
مضيفا بان التعديل الدستوري يمكن أن يطال المواد 67 و 77 و88 وهذا يعني
ان ضيق الوقت يتوجب العمل بالدستور الحالي وترك موضوع الدستور الجديد
الى وقت آخر.
هذا من الناحية السياسية، أما من الناحية الأمنية فان استقالة مبارك
هي بمثابة نداء " للفوضى" كما يقول نائبه، بل ان رئيس الحكومة الجديد
احمد شفيق قد أعلن انه "لا توجد شرطة كافية " في الوقت الحاضر لضبط
الأمن في مصر، بعد أن تشتت عناصر الشرطة و"ذهبوا الى قراهم" بسبب
الإحداث الأخيرة، ولهذا السبب لا نرى سببا لكي يقول مثلا الإعلامي
المصري محمود سعد بان " مبارك يحكمنا منذ 35 عاما.. فلماذا 6 أشهر
أخرى".
فأعمال التخريب والسلب التي حدثت في مصر والنظام لا يزال موجود
وقواه الأمنية على اهبة الاستعداد يدعو بشكل لافت الى النظر بجدية في
مطلب ازاحة مبارك الفورية وما يمكن ان يقود البلاد اليه، خصوصا بعد
التفجير الذي حدث في سيناء والذي على اثره تم تعليق ضخ إمدادات الغاز
المصري إلى إسرائيل والأردن وسوريا، حيث اشارت مصادر أمنية مصرية أن
الخط تعرض لعمل تخريبي من قبل عناصر ارهابية.
فالقاعدة وقوى الإرهاب والتطرف لا تزال تبحث عن بيئات آمنة لتمارس
فيها نشاطاتها وكان بيان القاعدة الذي ذكرته مجموعة "سايت" التي ترصد
المواقع الالكترونية مثال واضح على ذلك اذ ذكر البيان "إن الجهاديين
أقترحوا أن يستغل المسلمون في سيناء حالة الاضطراب في مصر ويضربوا خط
أنابيب الغاز بين العريش وعسقلان". ونقل الموقع عن محرر أحد هذه
المواقع قوله " إلى إخواننا بدو سيناء أبطال الإسلام إضربوا بيد من
حديد فهذه فرصة لوقف الإمدادات لإسرائيل".
كما ان هنالك سبب آخر يضاف الى السببين السياسي والأمني، وهو السبب
الاقتصادي وآثره على ما يحدث في مصر من خلال خسارة ملايين الدولارات
يوميا جراء التظاهرات وقد قرأ الدكتور سليم العوا بيانا على المتظاهرين
في ساحة التحرير قال لهم فيه" ان الناس إمامهم مسؤوليات المعاش والكسب
واستمرار الوضع على ماهو عليه سيؤثر على حياتهم الاقتصادية "، وهو
المطلب الذي وافقت على مضمونه لجنة الحكماء، التي تشكلت من شخصيات
سياسية وإعلامية وفنية وعلمية مستقلة للتفاوض مع الحكومة، وتابع يقول "
اننا تلقينا طلبات من اشخاص عبر الانترنت بضرورة ان يتفرغ البعض الى
امور معاشهم لان مشاركتهم في التظاهرات والاعتصام لنحو 11 يوما يسبب
لهم صعوبة في حياتهم المعاشية ".
ولا يجب أن يخطر في بال القارئ والمتابع للأحداث في مصر باننا نرغب
في بقاء حسني مبارك في السلطة ولو ليوم واحد لكن يجب ان لا تأخذنا
العاطفة والتفكير الانفعالي بعيدا عن إدراك ما يمكن أن ينجم عنه غياب
مبارك فجأة وعن السلطة وسقوط الدولة وانهيارها كليا خصوصا مع دولة
يحكمها نظام شمولي كمصر حيث يربط فيها الرئيس مؤسسات الدولة به حصرياً
لذلك سوف تنهار وتتداعى حالما يسقط او يتنحى عن السلطة كما راينا ذلك
بوضوح في العراق بعد سقوط نظامه الدكتاتوري في 2003.
فلا يوجد سبب مقنع ومنطقي لرفض بيان لجنة الحكماء والتي دعت فيما
دعت إليه إلى أن " يكلف رئيس الجمهورية نائبه بتولى مهام إدارة الفترة
الانتقالية، ويتعهد نائب رئيس الجمهورية بحل مجلسي الشعب والشورى
وتشكيل لجنة قانونية من عدد من الخبراء الدستوريين ورجال القضاء
المستقلين تتولى الإعداد للتعديلات الدستورية المطلوبة، ثم تشكيل حكومة
مكونة من خبراء تنفيذيين وشخصيات مستقلة ومقبولة شعبيا لإدارة مهام
العمل التنفيذي خلال المرحلة الانتقالية، وإنهاء العمل بحالة الطوارئ
وإيجاد آليات محددة لمحاسبة جميع المسئولين عما تعرضت له جماهير الشعب
من اعتداءات على الأرواح والممتلكات العامة والخاصة وترويع المواطنين
على نحو غير مسبوق، ومحاسبة المسئولين في مؤسسات الدولة المختلفة، ممن
ساهموا في تعريض الوطن والمواطنين لآثار هذا الانفلات الأمني غير
المسبوق".
وهي مطالب واقعية ومشروعة ومنطقية أيضا يمكن ان تساهم في حلحلة
الأزمة بل حلها بصورة جذرية بدلا من إزاحة مبارك الفورية عن السلطة
وترك البلاد تواجه الفوضى وظهور عشرون مبارك آخر يتنافسون ويتقاتلون
على السلطة وكيفية أدارتها والوصول إلى سدة الحكم، مع التأكيد على انه
لا يجب إزاحة مبارك عن السلطة بعد هذه الفترة الانتقالية فحسب بل يجب
محاسبته ومحاكمته على سنوات الظلم التي عاشها الشعب المصري فضلا عن فتح
ملفات الفساد المالي لعائلته التي تحدثت عنها مؤخرا الصحف البريطانية.
ان نظام مبارك قد انتهى سياسيا وتم التوقيع على مذكرة إعدامه منذ ان
استيقظ الشعب المصري على صوت تظاهرات الشعب التونسي الذي هز عروش نظام
زين العابدين المستأثر بالسلطة والسارق لخيرات الشعب التونسي، فالأنظمة
العربية الظالمة لا يمكن لها ان تبقى مهما تصورت لها أحلامها وحاشيتها
وكلابها المسعورة أنها سوف تستمر في البقاء على حساب الشعب، وستأتي
العاصفة سريعا لتضرب هذه الأنظمة لترحل بعدها بلا شك من غير ان يذرف او
يسكب عليها احد دمعة حزن... اللهم الا أولئك المنتفعين منها الذين لا
قيمة إنسانية لدموعهم وإحزانهم.
[email protected] |