سيكولوجيا الشعوب والعقل الجمهوري

زهير الخويلدي

كل ما يهز الجماهير هو ما يظهر في شكل صورة لافتة وجلية،لا تشوبها توضيحات اضافية أو لا تصاحبها الا أشياء عجائبية: انتصار كبير، معجزة كبيرة، جريمة كبيرة، وأمل كبير

 

ينعت البعض من السوفسطائيين والمثقفين الزائفين والكتبة الأرستقراطيين الجماهير بأنها حشود قطيعية ورعية جاهلة وكثرة من الرعاع والدهماء القاصرة ومجموعة من الأرهاط العاجزة عن الحركة في الواقع والفعل في التاريخ ويطلقون عليها عبارات مذمومة مثل الأغلبية الصامتة والسوقة والغوغاء ويتهمونهم بالانفعال والشعوبية وسبب الفوضى والهرج وترويج الاشاعات والقلاقل وبث البلبلة والتخريب والنهب.

 زد على ذلك يصف بعض الباحثين المرتبطين بدوائر السلطان الناس بأنهم يميلون بطبعهم الى الاستعباد والاستغلال وتستهويهم الدعاية ويصبغون طابع القداسة على الأشخاص والوثوقية على الأفكار ويعبدون القادة وتسيطر عليهم أخلاق العبيد وخاصة رذائل الخوف من الحرية والطاعة العمياء والخضوع المطلق لمشيئة القدر وقوانين التاريخ والجنوح الى جلد الذات وقبول الهزيمة والعزوف عن رفع لواء التحدي والمغامرة والارتحال الى المجهول وذلك لانتشار واقع الاحباط والفشل وتحولهم الى طابور خامس معرقل لقوى التجديد ومانع لكل تغيير وممانع لكل التجارب الثورية الأممية التي تعمل على تحريك السواكن وتحفيز النفوس وشحذ الهمم نحو المساهمة في التحضر والتمدن والقضاء على الهمجية.

كما تعتبر الثورة في عرف هؤلاء مجرد فعل هستيري وسلوك عدواني تنخرط فيه جماعة من البشر تفجر مكبوتاتها الدفينة وعقدها المرضية التي سببها القمع الأبوي والذكوري والسلطوي وتتميز بالعنف الشديد وممارسة الانقلاب وبث الفوضى التي تسري في النظام مثل النار في الهشيم والتي لا تنتهي الا ببروز القائد الثوري وخضوع الناس لأوامره والشروع في الاقصاء والتمييز ومحاسبة الموالين للعهد السابق.

غير أن مثل هذه الأقوال هي مجرد أراجيف وآراء لا أساس لها من الصحة فقد أثبت الثورة المندلعة الآن في تونس ومصر كذب هذه الدعوى العنصرية وبطلان مثل هذه الأحكام المغشوشة الصادرة عن ذهنية اقصائية وثقافة بائسة والتي تبررها ايديولوجيا مغلقة تتبني نظرة هرمية للمجتمع ومعيار تراتبي للقيم.

 والحق أن الأمور في الواقع على خلاف ذلك تماما،اذ نرى الشعب الكريم هو الذي أنجز الثورة عندما رفض حياة الخنوع وأسلوب التوجيه القسري والاكراه المادي والتطويع القانوني وانتفض في سنفونية مبهرة وبشكل منظم ومتدرج تعجز افضل أشكال السرد وأحسن اللغات عن وصفه والتعبير عنه.

لكن كيف نفهم سلوك الجماهير التي انتقلت فجأة من حالة المسايرة والتأييد الى وضع النهوض والثورة على كل دوائر السلطان والرموز التي تمثل الأنظمة الفاسدة وشرعت في تحطيم الأصنام وكنس الأوثان؟ ألم تنجح الأنظمة الاستبدادية في السيطرة على المجتمع والتلاعب بالعقول وترويض الأجساد وتطويعها لأجندتها التسلطية والشمولية؟ وألم يرض العباد بتلك الحياة الثكن وانشغلت بتوفير لقمة العيش والتزاحم والتكاثر؟ ولماذا تعطي الشعوب رقابها وتدين بالولاء وتصغي الى حكام اتصفوا بالكذب والتملق والدجل؟ هل هناك شعوب وجماهير خانعة وخاملة بطبعها وشعوب وجماهير أخرى ثائرة ومتمردة بطبعها؟

وما الذي حصل للناس حتى يتحولوا من السلبية والوعي الزائف والسكون الى الايجابية والوعي الثاقب والحركية والاجتماع في شكل كتلة تاريخية من أجل الضغط على الحكام ومطالبتهم بالرحيل؟ وكيف تحول العقل الجمهوري الى طاقة فاقت قدرة العقول الفردية وغير سيكولوجيا الشعوب من الاستسلام الى الخروج ومن التنازع الداخلي والفرقة المذهبية الى التوحد الذاتي والتجبيه الموضوعي ضد الفساد والظلم؟

لقد بين غوستاف لوبون أن الجماهير ترفض الأفكار ولا تتحمل مناقشتها ويمكن أن تتبناها كلها وذلك لأنها في حالة من اللاوعي ولا تعقل ولا تفكر وانما تنخفض طاقة الادراك لديها وتعيش دائما حالة مزاجية متقلبة وتغلب عليها العاطفة الجياشة ولا تكاد تنفر من شيء حتى تسارع الى كرهه ولا تكاد تحب شخصا حتى تسارع الى عبادته والخضوع الى مشيئته وترفض الاختلاف والتميز وتميل الى التجانس والتماثل.

لكن على خلاف ما يراه غوستاف لوبون اتضح أن الالتحام بالجماهير والاندماج مع الشعب وتبني خياراته والتعبير عن تطلعاته لا يؤدي بالكاتب الى أن يتخلى عن تعقله وأن ينزل درجات عن سلم الحضارة ويصبح همجيا منفعلا تقوده الغريزة وتسيره الأهواء ويتصرف بعفوية الكائن البدائي وينساق بتلقائية وراء العنف والضراوة ويعمل ضد مصالحه الشخصية ويكون بمثابة حبة من كوم رمل تذريها الرياح كما تشاء، وانما يمكن أن يسجد موقفا مشرفا ويتموقع الى جانب مصالح هويته ويكون بحق مثقفا عضويا ومفكرا ملتزما ومنظرا ثوريا يعبر عن انضواء العقل الفردي في العقل الجمهوري ويلبي نداء الذاكرة النضالية ويحترم واجب الضمير الجمعي ويسجد قيم الاندماج والانصهار والتوحد في أرض الواقع ويعمل على تقوية أواصر القربي وعلى تغذية روابط المحبة والتلاحم بين أعضاء المجتمع.

لقد بينت الجماهير للعالم عبقريتها المدهشة وذكاءها العجيب وقدرتها على التحليل والتركيب والاستقراء والاستنباط والتفسير والفهم والتأويل للأحداث والوقائع والمعطيات، بل زادت على ذلك بأن تمثلت المشروع الآتي وقدمت تصورات مستقبلية ورؤى استشرافية وكتبت مقترحات وبدائل للفترة القادمة.

لكن هذا التجانس بين الجموع وهذه الوحدة المباشرة بين الناس تكذب اسطورة العولمة في تقسيم المقسم وتجزئة المجزأ وفي تفكيك الوجود الاجتماعي وتذرية الأفراد الى كائنات أنانية لا تكترث الا بالمحافظة على بقائها الشخصي وتبرهن على غلبة قيم الألفة والتقارب والجسد الواحد والبنيان المرصوص والعروة الوثقى والمشاركة الجماعية في انجاز فعل واحد وهو الخلاص الشعبي من حراس الاستبداد وتجار الألم.

صحيح أن الجماهير تتميز بالهدوء والتروي والوداعة وتكون سهلة الانقياد الى الشعارات والوعود التي يطلقها الزعماء والقادة وصحيح أيضا أنها تنتقل من الحد الأقصى الى الحد المضاد ومن الرفض التام الى القبول المطلق ولكنها تكره الكذب وتحتقر المفسدين وتنقم على الظالمين وتمتلك هوية وتتحول الى قوة هائلة تدفع عجلة التاريخ وتحدث منعرجات في التاريخ وتنتزع القيادة من حكامها وتصبح هي ماسكة زمام أمورها وتحركها عاطفة جياشة نحو التضحية بالنفس والرغبة في تحقيق كينونتها في نفس الوقت.

ان النفسية الثورية لدى الجماهير الغاضبة التي أطاحت بعروش الاستبداد وقطعت الطريق أمام التمديد والتوريث قد كذبت سلوك القطيع التي توحده انطباعات حدية وتأثيرات مشتركة ومتزامنة وحطمت ثقافة الحشد التي غذتها الدعاية الاعلامية والصورة الاستهلاكية والوسائط الرقمية والتهريج السياسوي وزعمت أن الناس في عصر العولمة هم أناس أخيرين متشابهين ومستنسخين وفاقدين السيطرة على ذواتهم وعلى العالم الذي يعيشون فيه ولا يرجى خير منهم وبينت بالكاشف أن هذا الجيل الشاب يتقد حيوية ونشاط وقادر على فعل المعجزات وأن طاقته الابداعية وتصميمه على التجاوز وحلمه بواقع أفضل لا حدود له.

ان أهم قوة شعبية تدفع الجماهير الى الثورة هم الشباب والطلاب والعاطلين عن العمل وكل القوى المهمشة وغير المنخرطة في علاقات الانتاج والمنتفضة على الفكر السلبي والعالم السياسي المغلق والرقابة الصارمة والرافضة للمجتمع ذي البعد الواحد والطامحة الى القيام بتغيير تاريخي وذلك باستشراف آفاق المستقبل والالتزام بالفكر الايجابي والمجتمع متعدد الأبعاد والانسان المنتج وكما قال هربارت ماركوز: لو تحررت الطاقة من العمليات الضرورية للإبقاء على وتيرة الازدهار التدميري لكان هذا معناه ان عبودية الرفاه التي يئن الأفراد تحت نيرها الخفي هي في سبيلها الى التلاشي والزوال وإن أولئك الأفراد سيصبحون قادرين على تطوير تلك العقلانية الكفيلة بأن تجعل الوجود المهدأ ممكنا.

ان ثورة الجماهير في تونس ومصر وربما في المنطقة العربية بأسرها كانت نتيجة رد فعل على جريمة كبيرة حصلت للشعب وارتكبها نظام الحكم الفاسد ولكن الذي دفعها الى الأمام أكثر هو الرغبة الجماعية في تحقيق انتصار حاسم على قوى الردة وبقايا النظام البائد وصنع ملحة عظيمة هي أشبه بالمعجزة وذلك لعدم تكافؤ الموازين وتمكن الحق من لجم العنف والتوجه نحو أمل كبير في الانعتاق والحلم بواقع أفضل.

هكذا حولت السيكولوجيا الثورية الجماهير من الركون الى التبسيط والاختزال والتكرار الى الاشادة بالثراء والتعقيد والتنوع وتتحقق الوثبة الجدلية من الانتظار والتخوف والتخيل الى المبادرة والجرأة والفاعلية والتقمص ودفعتهم الى أن يكونوا صانعي التاريخ واللاعبين الرئيسيين على مسرح التغيرات.

اللافت أن الارتقاء من الوجود الفردي والعزلة القاتلة الى الوجود الاجتماعي والجماعة الحاضنة يوفر لكل كائن فرصة للتخلص من الانفعالات السلبية والتسلح بالقيم البطولية والانخراط في المشروع المشترك.

صفوة القول أن التحاق الكاتب بالجماهير في الشارع قد مكنه من أن يفقد درجات في سلم الحضارة التي تتميز بالرفاه الاستهلاكي والتخمة المادية والفراغ الروحي وجعله يرتقي درجات في سلم حضارة اقرا التي تتميز بالتضحية وفداء الأمة والالتزام والايثار ويتمتع بالحرية والكرامة والاعتزاز بالوطن.

علاوة على أنه لا توجد شعوب وجماهير خانعة وخاملة بطبعها وأخرى ثائرة ومتمردة بطبعها وانما تخرج الشعوب والجماهير على حكامها وأنظمتها في زمان ومكان معينين اذا توفرت جملة من العوامل والظروف منها ماهو ذاتي مثل الثقافة والهوية والتقاليد ومنها ماهو موضوعي مثل الأزمات والفساد.

على الرغم من أن الجماهير والشعوب تتأثر بعوامل بعيدة مثل العرق والمناخ والتقاليد الثقافية والمخيال السياسي والبعد الديني تجعلها تختار مواقف معينة في لحظات تاريخية معلومة وترفض مواقف أخرى وتتأثر أيضا بعوامل قريبة تجعلها توافق على اختيارات معينة حددتها العوامل البعيدة وخاصة الأحداث العرضية والظروف المستجدة والتحديات الخارجية التي تجعلها مقتنعة بجدوى الثورة ومقاومة الحاضر.

كما أن هذه الثورة الشبابية قد ساعدت العقل الفردي المبني على معايير الحساب والقانون والنظام والحتمية والاقتصاد والتصرف والمنفعة الخاصة والعلاقة على الانخراط في العقل الجمهوري المبني على الفطنة والتعقل والمداولة وجودة الروية وقوة الشكيمة والتمييز والسعادة الدنيوية والنعيم الأخروي.

لكن ألا يعبر هذا العقل الجمهوري عن المحاسن المدنية للإجماع التشاوري الذي قال عنه الرسول الأشرف:لا تجتمع أمتي على ضلالة؟ ألم يقل المعلم الثاني: يُحتاج الى وضع النواميس وتعليم الجمهور ما قد استنبط وفُرغ منه وصُحح بالبراهين من الأمور النظرية وما استُنبط بقوة التعقل من الأمور العملية... واذا وُضعت النواميس... فقد حصلت الملة التي بها عُلم الجمهور وأُدبوا وأُخذوا بكل ما ينالون به السعادة.؟

ثم لماذا لا نعتبر اندلاع الثورة في تونس ومصر دليلا ساطعا على أن الشعوب العربية قادرة فعليا على التخلص من الاستبداد الشرقي وأن نبتة الديمقراطية وحقوق الانسان يمكن زرعها في الأرض التي تتكلم بلغة الضاد؟ هل تؤرخ اندلاع الثورات هنا وهناك الى بداية دخول العرب عصر الحداثة السياسية والتنوير الأصيل؟ وما الضامن الذي يمنع هذه الجماهير من الاصطفاف في طابور خامس مضاد للثورة ومساند للقوى الرجعية والمحافظة التي تريد اعادة انتاج الأنظمة الاستبدادية وتفريخ الشمولية؟ وكيف يمكن الانتقال من الحالة الثورية التي تتميز بالانتصار الى الحق والحرية الى الحالة المدنية التي تتميز بتشييد المؤسسات وقيام التسيير الديمقراطي الشعبي للشأن العام؟

* كاتب فلسفي

.................................................

المراجع:

أبو نصر الفارابي، كتاب الحروف، تحقيق محسن مهدي، دار المشرق، بيروت، لبنان، طبعة ثانية، 1990.

هربارت ماركوز، الانسان ذو البعد الواحد، ترجمة جورج طرابيشي، دار الآداب، بيروت، الطبعة الثالثة، 1988.

غوستاف لوبون، سيكولوجيا الجماهير، ترجمة هاشم صالح، دار الساقي للنشر، بيروت، الطبعة الثانية، 1997.

شبكة النبأ المعلوماتية- الثلاثاء 8/شباط/2011 - 4/ربيع الأول/1432

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1432هـ  /  1999- 2011م