الحرية للأفراد والسيادة للشعوب

زهير الخويلدي

ان الانسان لا يولد مواطنا بل هو يتربى على المواطنة

 

ليس من الصعب أن نلاحظ بأم أعيننا في هذا الخضم أن زمننا هو زمن تشكل حقبة تاريخية مختلفة عن سابقتها في المنطقة العربية، وهو عصر الانتقال الى علاقة جديدة بين أفراد الشعب فيما بينهم من جهة تتميز بالحرية والمقدرة الذاتية وبين الشعب ومن يسيره من جهة ثانية يغلب عليها السيادة والاستقلالية الموضوعية.

لقد تخلى الناس عن العالم الذين كانوا يعيشون فيه ويفعلون ويتألمون وهم عاقدون العزم على السماح له بالغرق والتلاشي والقذف به في مزبلة التاريخ وعداد الماضي ونراهم اليوم منشغلون بالحلم بعالم أفضل ومنخرطون في صناعة المستقبل وتشكيل معالم مجتمع جديد يتحرك باطراد نحو الأمام.

ما يحصل للعالم القديم هو نوع من التفتيت التدريجي والتفكك الذاتي وذلك عن طريق جملة من الأعمال الطائشة التي يقوم بها الأفراد والشعور الجماعي بالضجر وعدم الرضا الشعبي بالحالة الحالية والرغبة الجماعية في التقويض واحداث الطفرة والتخوف من حصول شيء مجهول قادما من بقايا النظام القديم والاستبشار بطلوع النهار وولادة عالم جديد وانقشاع الظلام وبزوغ النور والشروع في التغيير القادم.

ان هذا الطلوع الرائع للشمس هو دليل على بلوغ مرحلة أخيرة من تاريخ الاستبداد في دائرة الضاد وحصول الاعتراف الكامل بالحرية وانعتاق الذات الآدمية من كل أشكال الامتهان والذل والاغتراب والانهاء التام لكل الرؤى الفكرية المضطربة والنزعات المدرسية واقامة الفكر بالقرب من ذاته واعتبار الأخلاقية هي التأسيس القانوني لإرادة الانسان والاطار الذي يستمد منه الشعب مشروعيته في السيادة.

ان المجتمع الجديد الذي هو بصدد التشكل ليس نسقا تراتبيا توجهه جملة من القيم المثالية والمعايير الثقافية وانما هو مفرد جمعي وكلي متعين ونتاج تاريخي للنشاط البشري ومسطح محايثة يتحرك فوقه الأفراد بحرية وأفقية، وان الانسان الجديد ليس الفرد الأناني الذي ينتمي بطريقة قسرية غير واعية مثل غيره الى الحشود المتشابهة ولا السيد البرجوازي الذي يملك وسائل الانتاج ويحرص على زيادة الربح والثروة وانما هو الانسان الاجتماعي والذات الفاعلة والمواطن المسؤول الذي يندفع بالعقل نحو الطبيعة وبالتقدم نحو النظام وبالحق نحو القوة وينتصر الى النقد والحركة والثورة على المصلحة والمناشدة والتأييد.

كما يفضي تدمير النمط القديم من الوجود في العالم الى بلوغ الأفراد درجة عالية من الحرية وامتلاك الشعوب للقدرة الكاملة على التحكم في ذاتها وتقرير مصيرها بنفسها والى نزع القداسة عن الأشخاص الاعتباريين والحكام والرجوع الى فضيلة الحياة بلا هالات التي تتوفر فيها شروط المساواة والتفوق.

ان المطلوب هو أن يماط اللثام عن وضع النخبة المثقفة والاطارات والكوادر في المجتمع وكف الطبقة الحاكمة والمالكة للوسائل الانتاج عن اعتبار رجال القانون والثقافة والعلم والادارة مجرد أجراء يخدمونها وتفكيك هذه العلاقة الهرمية والنزعة الصنمية والتعامل مع الفعل الابداعي كأمر ممكن خارج فلك النسق.

لقد دعتنا كل الثورات المجيدة الى نزع هالة القداسة عن الأشخاص مهما كان المصدر الذين يستمدون منه تعاليهم لأن الزعماء التاريخيين لم ينتجوا الثورة بل الثورة هي التي تنجب من رحمها زعماء تاريخيين.

ان قيام النظام الديمقراطي يساعد الشعب للقضاء على أسباب الفتن وأشكال التمرد ويكفل للأفراد التمتع بحقوق المواطنة والمشاركة الفعلية في الشأن العام وذلك لأن أفضل دولة هي تلك التي يقضي فيها الناس حياتهم في وئام وتبقى فيها القوانين محفوظة من كل تجاوز. فلاشك أن الفتن والحروب والاستهانة بالقوانين أو خرقها انما هي أمور تعزى الى النظام السياسي الفاسد لا الى لؤم الرعية.

تنتفض الشعوب بحثا عن سيادتها الكاملة ضد السلطة الأبوية والأنظمة الاستبدادية وتضحي بالسلامة والسكينة والحياة وتعرض نفسها للحاجة والموت والتراجع من أجل أن تتخلص من العبودية والاهانة والتعسف والظلم وما تجنيه من وراء ذلك هو السؤدد والمجد والحرية ولكي تصنع أنظمة تسير بطريقة ديمقراطية وعن طريق الانتخاب والاختيار.

ان الديمقراطية تسمح بإعطاء السيادة للشعب وتمكينه من حكم نفسه بنفسه ولذلك كانت نظاما استثنائيا ومطلبا من قبل الجميع وربما لكونها مرتبطة بالحقيقة السياسية والقاعدة التشاورية والقوانين المؤسسة للنظام والاستقرار.

 من هذا المنطلق: ان المواطنين يمتلكون في الديمقراطية هذا الامتياز الفريد في انتاج هذا النظام نفسه الذي يسوسهم بشكل واع واراديا عبر التشريع لأنفسهم بأنفسهم، ومن حيث هم أبناء القوانين فهم أيضا آباؤها. انهم ليسوا رعايا الا كأسياد. انهم أسياد خاضعون لسلطتهم.

من جهة أخرى تمثل الحرية في الواقع مجموعة من الحريات وتقتضي تحويل القوة الى فعل والموقف الى التزام حتى لا تكون مطية لتبرير الوحشية، كما ترتفع الحرية من درجة النسبية الى درجة الاطلاق عندما تتنزل في المجال السياسي وترافق الوضع الانساني وتضع نفسها في خدمة مشروع ابداعي يتراوح بين المثال والممكن وتتيح للتفاعل بين الحلم الخيالي والتعين المادي وبين الثقافة الهادفة والسياسة الحيوية.

ان الفضاء السياسي يساعد على انتقال الحرية من مجال الفرد بوصفها قدرة على التعين الذاتي واعادة تملك الذات الى مجال الجماعة بوصفها تموضعات مجسدة لها وافعال ارادية ناتجة عن طاعة القوانين السياسية وتحويل الحرية المجردة الى حريات ملموسة عن طريق تمفصل واقامة توازن بين السلطات.

على هذا النحو يتحول الانسان الى مواطن وإن مقولة المواطن هذه تحقق في الانسان نفسه مركب الدولة. المواطن هو الدولة في الانسان الفرد. لهذا السبب تشغل التربية مكانا هاما في اقتصاد هذا النظام.

ان الغاية من بناء مؤسسات مستقلة تابعة للمجتمع المدني ليس تقويض ركائز الدولة وافشال دعائم حكمها وخرق القوانين واشعال النزاعات وانما بلوغ حالة من السلم الاجتماعية والحياة الآمنة والتمدن المتحضر. كما أن الحرية المطلوبة بالنسبة للأفراد لا تعني حق التسلح والقدرة على ممارسة العنف ولا تتمثل في اقامة حكومة تلائم عداتهم وأهوائهم وانما تحتاج الى حدود وتقوم على القدرة على فعل ما يجب وعلى عدم الاكراه على فعل ما لا يريد وبعبارة أخرى تكون الحرية السياسية هي حق فعل كل ما تبيحه القوانين.

 لكن أليس من المشروع من الآن فصاعدا بالنسبة للأفراد أن ينهضوا الآن وغدا من أجل الكرامة والحرية وأن تهب الشعوب للدفاع عن سيادة أوطانها وتصنع بنفسها نمط وجودها في المعمورة؟

وألم يجانب مونتسكيو صاحب الفصل بين السلط الصواب حينما قال: لا تستفلح البلدان تبعا لخصوبتها بل لحريتها؟

* كاتب فلسفي

................................................................

المراجع:

اسبينوزا، كتاب السياسة، ترجمة جلال الدين سعيد، دار الجنوب للنشر، تونس، الطبعة الأولى، 1999.

مونتسكيو، روح الشرائع، الكتاب الثامن عشر، الفصل الثالث، ترجمة عادل زعيتر، دار المعارف القاهرة، 1953.

لويس ألتوسير، مونتسكيو، السياسة والتاريخ، ترجمة نادر ذكرى، دار التنوير، بيروت، الطبعة الأولى، 2006

شبكة النبأ المعلوماتية- الخميس 3/شباط/2011 - 29/صفر/1432

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1432هـ  /  1999- 2011م