
شبكة النبأ: من ملامح العصر الراهن،
أن الشعوب النامية أخذت تندفع نحو المدنية والتحضّر بقوة، لأنها بدأت
تكتشف، من خلال التجارب التي سبقتها، أن المدنية تشكّل لها خلاصا من
العبودية السياسية، التي تضع مصالحها فوق مصالح الشعب، ممثلة بالحكومات
المستبدة، وذلك بسبب ضعف أو غياب المؤسسات الدستورية القوية، القادرة
على حفظ ميزان الحقوق والواجبات مستقرا بين الحاكم والمحكوم.
وإذا كان الفكر ودوره في تنمية الوعي الشعبي، يتصدر العوامل التي
تدفع الشعوب للانتفاض على حكوماتها الفاشلة، فإن من أهم أدوات التغيير
السياسي في العصر الراهن، هم شريحة الشباب العصري المثقف، الذي بدأ
يمسك بزمام الامور، ويوجّه دفة الاحداث، نحو بناء المجتمع المدني
المتوازن، كما هو الحال في تونس، حيث بدأت إنتفاضة الياسمين بحرق أحد
الشبان لنفسه، لتبدأ مرحلة التغيير نحو نظام ديمقراطي، يمثل بديلا جيدا
لنظام الحكم التونسي المُزاح، بعد أن تسلط على الشعب سنوات طويلة
ومريرة مُلئت بالجور والظلم والطغيان.
وقد انتقلت آثار الانتفاضة التونسية الى مصر، فتنبّه الشباب المصري
الى ما يتعرض له من غبن واستخفاف بكرامته وحياته، بسبب النظام السياسي
الفاشل، فينتفض الشباب بقوة وإصرار مطالبا بالتغيير، والتأسيس لمرحلة
جديدة تتسم باحترام الانسان وخياراته، وتضمن له الحياة التي تليق به،
وقد وعى هؤلاء الشباب، أن هذا المطلب لن يتحقق لهم، في ظل مجتمع غائص
في أوحال التردّي والقهر، يحكمه نظام تسلطي قمعي، تسيّره شلة من رجال
الاعمال، الذين لا همّ لهم سوى الاستحواذ على ثروات الشعب، وتخزين
الاموال في أرصدتهم المالية، على حساب الفقراء والشباب المصري، الذي ظل
يعاني من السلوك السلطوي المتزمت والظالم، على مدى عقود.
وهكذا تجيء اللحظة الحاسمة لدور الشباب، بتعديل المسار السياسي
الخاطئ في مصر، فيكون الوعي الشبابي حاديا للجميع، ويتصدر قيادة
الانتفاضة، ليسحب البساط من تحت الاحزاب والحركات السياسية الضعيفة،
التي فشلت في مقارعة النظام، فهب الشباب الواعي، ليأخذ دوره في التصدي
والتغيير، وظهرت لنا أهمية وسائل الاتصال الحديثة، في بلورة الرأي
العام، وتأجيجه، وتواصله، وتوجيهه نحو المسارات الصحيحة، وهذه هي إحدى
أهم ملامح العصر الراهن، حيث تنتفي الحدود الفاصلة، وتتكسر الحواجز بين
الجميع، فيعجز النظام السياسي عن الحد من تضامن الشباب وتواصلهم فيما
بينهم، مهما توافرت لذلك النظام من قوة بطش عسكرية او أمنية او غيرها.
إننا نتابع اليوم مئات الآلاف من المتظاهرين، في ميدان التحرير وسط
القاهرة، تقودهم جموع الشباب، معلنين مطالبهم المشروعة برحيل النظام،
والبدء بمرحلة جديدة، تأخذ على عاتقها الشروع ببناء المجتمع المدني
المتحضّر، في ظل دولة المؤسسات الدستورية الراسخة، ذات النهج السياسي
الديمقراطي، الذي يضمن للجميع فرصا متكافئة من العيش، تتيح لهم تفجير
طاقاتهم، وإظهار إبداعاتهم في جميع المجالات، حيث ينمو الابداع ويتطور
في ظل الاجواء المتحررة، وهذا ما آمن به الشباب المصري وقبله التونسي،
وحرصوا على تحقيقه وفرضه على حكوماتهم، وهو ما يتطلع إليه الشباب في
الدول العربية الأخرى.
ولعل المراقب لوسائل الاعلام التي لا تزال تغطي الاحداث المصرية،
يلاحظ التحذيرات المتواصلة من المحاولات الملحوظة لسرقة انتفاضة
الشباب، حيث يحاول بعض السياسيين، افرادا او احزابا او حركات، سرقة هذه
الانتفاضة، وركوب الموجة، لتحقيق مصالح فردية او فئوية معروفة مسبقا،
حيث الاستئثار بالمناصب والاموال والسلطة، لتُعاد الكرّة مع نظام مصلحي
منفعيّ جديد، وهو ما يُخشى أن تنزلق فيه مصر، لذا لابد أن تعي القيادات
المخلصة للشباب وغيرهم، هذه المخاطر المحيقة بتجربتهم، من أجل مواصلة
الخطوات الصحيحة، لتحقيق التغيير السياسي السليم، الذي يمكنه أن يقطف
ثمار الانتفاضة الشبابية على النحو الأمثل، ويبني مجتمعا مدنيا عصريا.
وبهذا يتضح للشعوب الباحثة عن الحرية، والتي لا تزال تقبع في
العربات الخلفية من قطار التطور العالمي، أن الشباب هم ذراع التغيير
الصارم والقادر على تصحيح المسارات السياسية المنحرفة، ولا ينبغي النظر
للشباب بعين الاستخفاف، التي تتجاهل دورهم في القدرة على القيادة
والتغيير، وبناء المجتمعات المدنية الناهضة، لاسيما من لدن الحكومات
العربية، حيث لا تزال تتعامل مع قدرات الشباب بطريقة تشي بالتجاهل
والتجهيل والاستخفاف الواضح، وهو ما أوصل حكومتا تونس ومصر، الى لحظة
الاقتصاص الشعبي، بسبب التعامل المهين للشباب من لدن هاتين الحكومتين
وغيرهما، حيث ما تفتأ رياح الانتفاضات الشبابية تهب على دول عربية
اخرى، تروم الإطاحة بأنظمتها السياسية التي لا تزال تغص بالفساد
والأنانية والمنفعية، متناسية مصالح جموع الشعب التي لا تزال تعيش في
صراع مرير ودائم، مع الفقر والقهر والحرمان. |