" الريس فين " هي المقولة الشهيرة التي كان يرددها حسني في اللحظات
الاولى لعملية اغتيال السادات الشهيرة. وكان حسني يبحث بين الجثث
والجرحى عن الريس السادات الذي فارق الحياة. وبعد ثلاث عقود وفي يوم
الجمعة الغاضبة في مصر كان هذه المرة الريس مبارك هو الغائب الاكبر رغم
الاحداث الخطيرة التي أحاطت بمصر البلد!! ورغم ظهوره في ساعات متأخرة
ليلقي خطاب تقليدي لا يقدم ولا يأخر في محاولة يائسة لتشتيت قوى التغير
الجوهري الذي جرى ويجري في مصر، لذلك ورغم ظهوره المتأخر ورغم خطابه
الروتيني فان مبارك كان الاكثر من السادات الميت الملطخ بدمائه وهو
مبارك وليس السادات من يستحق ان ترفع الاصوات عليه صارخة بعد ثلاث عقود
من عملية اغتيال السادات " الريس فين ".
لقد غاب مبارك ليس جسديا فحسب بل غاب فكرا وضميرا عندما عاد وبعد
ايام من المظاهرات الحاشدة والغاضبة والنازفة دما، ومع ذلك عاد ليتحدث
بلغة قد ماتت مفرداتها وتيبست احرفها وتصخرت مفرداتها حتى اصبحت مقيته
الى حد لاتطاق.
اذا كان هناك من كذب على مبارك وقال له " انت محبوب الغلابة والشعب
ياريس " فان ذروة المسيرات الغاضبة في الجمعة دليل لايقبل التأويل على
حجم المقت والازدراء والغضب الي وصل له الشعب المصري. لذلك فان تغير
النظام من الاساس هو الهدف الاكبر وليس تغير موظف يطلق عليه رئيس
الحكومة المصرية ومجلسه من وزراء واعضاء الحزب الحاكم من تجار الدقيق
والحديد والسمنت والقطن وقطاع المواصلات وحتى حليب الاطفال.
جيل من الشباب المصري في العشرينات من العمر ولد اثناء حكم مبارك
ومع ذلك يرفض بشدة وقوة ان يستمر الحال ورموزه وهو جيل غير متحزب لكنه
يحب مصر ويحب الحياة الكريمة ويكره التوريث ويكره الديكتاتورية ويكره
الجوع والعوز الذي أحاط به طيلة حياته.
اما مسالة ان فلان بطل " حرب اكتوبر " فهذه اكذوبة وزيف يجب ان
تنتهي وهي لاتشبع جوعان او تدفئ بردان، فشوارع مصر تحولت كلها رمال
متحركة تحت اقدام الحزب الحاكم ورموز الحكم في مصر وافراد اجهزة الشرطة
والامن الداخلي اختفوا بشكل فاق كل تصور بعد ان هربوا و تركوا مقراتهم
الخاصة والشوارع والدوائر الرسمية والممتلكات الخاصة والعامة دون حراسة!!
فماذا يتنظر مبارك ليخرج ويعلن انسحابه من الحكم وتسليم نفسه
للقضاء المصري الذي سيبث ببرائته او ادانته مع ابنه جمال ورموز حزبه
الحاكم. اما حشر الجيش المصري في مواجهة مع الشعب فهي الخطورة
والمغامرة بعينها فالارث الشعبي للجيش المصري في الاطار المحلي له موقف
واضح من الاحترام والتقدير، ثم في النهاية افراد الجيش هم مصريين
ويعيشون نفس الظروف المعيشية والسياسية والدستورية الصعبة والى حدود
معينة سيلتفت الجيش المصري وقيادته الى الخلف وحينها سيضطر لقول الكلمة
الفصل. خاصة مع استمرار اراقة دماء عشرات من الشباب المصري من قبل
ازلام النظام.
اما الموقف الغربي فهو يعي جيدا موقع مصر الجغرافي والتاريخي، وقد
بذل عقود طويلة ومهمة لترويض وبناء الاسس المصرية من ناحيتي السياسة
والجيش واستطاع الغرب ببراعة مشهودة ان يغير الامور باتجاهات مغايرة
تماما، لذلك الغرب لن يفرط بجهوده التاريخية بسهولة، لكن من الواضح من
خلال تصريحات الادارة الامريكية والحكومات الاوربية بانهم قد " فرطوا "
بنظام مبارك، ورتبوا الامور باتجاه اخر سيحاكي مطالب الشباب في الداخل
وبنفس الوقت سيحافظ على مكاسبهم الغربية التاريخية في رسم سياسة مصر
الخارجية والعسكرية.
لانهم في النهاية يتعاملون بواقعية مع الاحداث على الارض ولانهم
اجادوا القراءة افضل بكثير وباشواط متقدمة على النظام المصري الحاكم،
وهذه مفارقة تؤشر حجم الكارثة في نظام الحكم العربي بصورة عامة والنظام
المصري بصورة خاصة، فمتى يعي الحكام العرب ان البلاد والعباد ليس أرث
او ملك شخصي لهم ولعوائلهم!!؟ وان الغرب لايذوب " بالعيون السود "
للحكام العرب، بل يعشق مصالحه وفقط مصالحه الخاصة.
من الواضح ان فرص النظام المصري بدأت بالتبخر السريع وليس المشكلة
بالنسبة للرئيس المصري كسب يوم او اسبوع او شهر اضافي في الحكم، بل
المشكلة ان المطلب الرئيس للمصريين اصبح واضح جدا باسقاط راس النظام
ورموزه الاخرى وان دبابات ومدرعات الجيش قبلت ان تحمل هذه الشعارات رغم
انها مازالت تأخذ اوامرها من الرئيس نفسه " على الاقل هكذا تبدوا
الامور لحد الان ".
لذلك الواقعية الانسانية والاجتماعية والدستورية والشعبية
والسياسية والعسكرية والمحلية والدولية تقول ان عهد نظام مبارك انتهى،
وان المصريين في طريقهم لاسقاط الصنم العربي الثالث بعد صنمي العراق
وتونس. وحينها لن يجهد نفسه اي شخص لاقتباس مقولة مبارك التاريخية "
الريس فين " بل سيردد الجميع اهلا بمصر وعاشت مصر وهي تسقط احلام
التوريث ورموز الديكتاتورية والاحزاب الانتهازية الحاكمة من ماركة
مصاصي دماء الشعوب.
[email protected] |