شبكة النبأ: يتفق المعنيون، سياسيون
أو محللون او غيرهم، على أن الانتفاضات الشعبية تتطلب ظروفا وعوامل
معينة تساعدها على النضوج، ثم تدفع بها نحو التأجيج والانطلاق، في
هبّةٍ قويةٍ تمثل الشرارة الاولى التي ما تلبث أن تتصاعد بلهيبها،
وتمتد بحرائقها، من حيّ سكني الى آخر، ومن قرية الى أخرى، ومن مدينة
الى ثانية، لتشكل مع مرور الوقت، نقطة العد التنازلي لسقوط النظام
السياسي القائم.
وفي الحديث عن أوجه التشابه والاختلاف، بين الانتفاضتين العراقية
والتونسية (الإنتفاضة الشعبانية1991 في العراق، وانتفاضة الياسيمن 2011
في تونس)، وعلى الرغم من الفارق الزمني بينهما (عشرون عاما)، لكننا
سنجد أوجها للتقارب بينهما، مع اختلاف النتائج التي تحققت عنهما،
وأولها، ذلك التشابه بحدود معينة بين النظامين السياسيين في العراق
وتونس، حيث النهج السلطوي المتفرد في صنع القرار، ورسم المؤسسات
الدستورية الشكلية الداعمة للنظام، وتصاعد نزعة الاستحواذ على ثروات
الشعب، وتكديسها في خزائن رموز السلطة (الرئيس وعائلته وحاشيته)، وبث
الفرقة بين شرائح المجتمع، من خلال تهميش القاعدة الشعبية الاوسع،
وتقريب القلة الداعمة للنظام، ومنحهم الامتيازات الكبيرة والكثيرة،
التي تجعلهم مؤهلين للقيام بدورهم في قمع الشعب، حفاظا على مصالح
النظام، كونها تمثل مصالحهم.
وعندما نتناول الانتفاضة الشعبية العارمة بالعراق في آذار 1199،
فإننا سنجد توافر العناصر والظروف الموضوعية التي دفعت بجموع الشعب
للانتفاض بوجه النظام السلطوي، الذي تفرد كليا باتخاذ القرارات الخطيرة،
وألغى كليا دور المؤسسات الدستورية بسبب تكوينها الصوري، فقاد البلاد
الى حرب أولى طاحنة، استمرت 8 سنوات متواصلة، بدأت بنقطة الخلاف على
اتفاقية الجزائر المعقودة عام 1974 بين العراق وايران، لتنتهي عندها،
ولتذهب جميع الارواح التي أزهقتها هذه الحرب سدى، في الوقت الذي كانت
الهوة بين الفقراء والمتنفذين في السلطة، تتنامى على نحو متصاعد، ولم
يكتف النظام القائم بهذه النتائج المرعبة للحرب الاولى، فغزا الكويت (متناسيا
مبادئه القومية التي اعلن بنودها في ملعب الشعب امام مرأى ومسمع آلاف
وملايين العراقيين والعرب في عام 1980) بحجج واهية لايمكن أن يقرها عقل
سياسي أو ضمير إنساني، ليدخل العراق في حرب هوجاء ثانية، وهكذا تجمعت
العناصر والظروف التي مهدت لانتفاضة آذار، على مدى أكثر من عقدين،
ولتبدأ شرارة هذه الانتفاضة في عام1991 بعد أن قدمّ النظام السابق، شعب
العراق وجيشه قربانا لكبريائه الأجوف، فجعله يخوض بأقسى أصناف المذلة
والمهانة، وهو يواجه الجيوش الامريكية ومن ساندها، بعدتها وتطورها
التقاني الذي أهّلها لتحتل المرتبة الاقوى بين جيوش العالم، وهكذا لم
يكن أمام الشعب سوى الانتفاض والاقتصاص لكرامته، من عبيد السلطة
والنفوذ والمجد الزائف، فاشتعلت الشرارة الاولى في مدينة البصرة، لتنقل
في غضون ساعات الى مدينة العمارة، ثم اشتعل الجنوب كله، فالوسط،
فالشمال، لتسقط في غضون أيام قلائل 14 محافظة من عموم العراق، ولتصبح
خارج قبضة النظام تماما، لكن الخطأ الفادح الذي رافق الانتفاضة، هو
بعدها عن رأس النظام (العاصمة)، وانشغالها بالأطراف وتمركزها في المدن
البعيدة، وهذا ما ساعد على انطفائها، قبل أن تنتهي الى النتائج التي
كان يتطلع إليها الشعب.
أما انتفاضة الياسمين في تونس، فقد مهدت لها سنوات طويلة من التعسف
والاقصاء والانفراد بالسلطة ايضا، وتُرك اقتصاد الدولة بأيدي المفسدين
من عائلة الرئيس المخلوع، وزوجته ليلى الطرابلسي، التي قال عنها
المراقبون، أنها الحاكم الفعلي والخفي لتونس، فمنحت الامتيازات الكبيرة
لأشقائها، وأبنائها، وأقاربها، ومنحت المناصب الحساسة للبعض، وأقصت
البعض الآخر، واستخدمت اسلوب الابتزاز، في سلب الممتلكات الأهلية
والشركات الحكومية وغيرها، فكانت الاموال والثروات تتكدس في خزائن
هؤلاء القلة، في الوقت الذي يزداد فيه الفقراء فقرا، وهو الامر الذي
دفع بأحد الموطنين التونسيين البسطاء (بوعزيزي)، بعد أكثر من عشرين
عاما من التسلط، لحرق نفسه، ولتبدأ شرارة الحرائق الكبيرة، التي تواصلت
وتصاعدت قُدُما، لتصبح في اوجها داخل العاصمة، وهذا تحديدا ما شكل
تهديدا مباشرا للنظام، وهو ما دفع بزين بن علي الى الفرار هربا من موته
المحقق على أيدي المنتفضين ضده وضد نظامه القمعي، وهو ما شكل فارقا
مهما بين الانتفاضتين، مع أوجه التشابه الكثيرة التي تجمع بينهما.
أما الحديث عن الاسباب التي أفشلت أهداف الانتفاضة الشعبية العارمة
في العراق، على خلاف ما حدث مع الانتفاضة التونسية، فإن ثمة أسبابا
عديدة تـقف وراء ذلك، يمكن وصفها بالداخلية وأخرى خارجية، إذ يعرف
العراقيون على وجه الدقة، مدى وحشية النظام السابق، ومدى استعداده
لازهاق مئات الآلاف من ارواح العراقيين، من أجل أن يبقى العرش محفوظا
وبعيدا عن التهديد المباشر، وهو ما حدث فعلا، حيث تم التعامل مع
الانتفاضة بأقسى الطرق وأكثرها وحشية، وقُمع شباب العراق، ورجاله،
وشيوخه، وحتى نسائه، والعاجزين منه، بطرق ووسائل يترفّع القلم عن
ذكرها، فالجميع أصبح عدو النظام الحاكم ورأسه، والجميع يستحق الموت إلا
من ساند النظام، من رموز الحزب الحاكم، والمستفيدين من بقائه على رأس
السلطة، وهكذا توالدت عشرات المقابر الجماعية، بعد أن أقيمت مهرجانات
واسعة للاعدام العشوائي، في عموم ارجاء البلاد، في الوسط والجنوب
والشمال، ناهيك عمّن زُجّوا في سجن الرضوانية المعروف آنذاك بوحشيته
وقسوته، أما الاسباب الخارجية لإطفاء الانتفاضة، فقد تدخلت فيها حسابات
دولية وإقليمية، أوقفت سيناريو إسقاط النظام، لتبدأ مرحلة جديدة من
العذاب، والحرمان، والتآمر الداخلي والخارجي على الشعب العراقي، الذي
وضعته الاحداث آنذاك بين مطرقة الامريكان وسندان النظام المتسلط، فلم
يتوقف الامر عند فشل الانتفاضة، والاستفادة من الدرس الذي تمخض عنها،
وإنما بدأت رحلة جديدة من القمع، والملاحقة لابناء الشعب المنتفض، فيما
تزامنت معها الحرب الاممية على العراقيين، بشروع أقسى وأكبر وأطول حصار
عرفه التأريخ، حيث امتد ذلك الحصار الى اكثر من عقد، عانى فيه
العراقيون من جحافل الجوع، والحرمان، والقمع، والمطاردة، والتجهيل
المتعمّد، بعد أن تمّ عزل الشعب عن العالم أجمع، ليس اقتصاديا فحسب،
وإنما معلوماتيا، واعلاميا، وعلميا، وما الى ذلك من مجالات الحياة
المعاصرة، حيث تآزرت جميع المعطيات والظروف والاجندات الداخلية
والخارجية ضد الشعب العراقي المتطلع الى الحرية، لتقذف به الى العيش في
اتون عزلة بدت آنذاك وكأنها لن تنتهي الى الابد. |