تونس ومحنة تغيير قد لا يكتمل!

ماجد الشّيخ

بين حدّي الثورة والثورة المضادة، التي تترجّح وقد باتت تراوح في ظلها انتفاضة الياسمين الشعبية والجماهيرية، وهي تدخل "مجهول التغيير" الذي قد لا يتم حتى النهاية المنطقية لمآلاته، تزداد يوما بعد يوم مؤشرات التضاد بين الأهداف الشعبية، وتلك التي تحاولها بقايا النظام التي بقيت "صامدة" لإعادة إنتاج النظام ذاته؛ كنظام سلطوي استبدادي، وبمعونة خارج إقليمي ودولي يحاول بكل قوة قطع الطريق على أهداف التغيير، بعد أن فرّ الطاغية، وترك نظامه خلفه "يتدبر أمره"، في مواجهة طموح انتفاض جماهيري للتغيير من أجل كرامة المواطن، وفي مواجهة فضائح رجال السلطة وأمراض تعاليهم واستكبارهم على مواطنيهم.

 وعلى غرار "ثورة الخبز" التي قامت في الثالث من كانون الثاني (يناير) عام 1984، مع الفارق بأن هذه الأخيرة لم تستطع سوى إجبار الحكومة والنظام أنذاك على التراجع عن إجراءات زيادة أسعار الخبز؛ فإن "ثورة التغيير" المؤملة اليوم، ومهما أطلق عليها من تسميات، ربما كانت أمام مرحلة من إمكانية الغدر والانحراف بها، في محاولة لاستعادة النظام لأنفاسه مجددا، وهو النظام الذي تأسّس في أعقاب إلغاء الملكية في 25 تموز (يوليو) عام 1957، حين تم اعتبار الحبيب بورقيبة أول رئيس للجمهورية.

 إن الخشية الأساس على التغيير من الغدر، نابع من محاولة أركان بقايا النظام تفريغ هذا التغيير من مضمونه، وتحويله إلى مجرد تغيير شكلاني، عبر إشراك بعض الأحزاب الموالية التي كانت قريبة من الحزب الحاكم، على ما جرى مؤخرا حين تم تشكيل حكومة جديدة برئاسة الوزير الأول (محمد الغنوشي) في أواخر عهد بن علي، أطلق عليها تسمية "حكومة وحدة وطنية"، جرى إجهاضها في اليوم التالي للإعلان عن تشكيلها بفعل تحركات احتجاجية شعبية وانسحاب بعض أعضائها، بعد أن أثارت حنق المواطنين من جديد، ودفعت بهم إلى الشارع مجددا. في خشية فعلية من أن تفقد كوادر الانتفاضة الشعبية الجماهيرية (التي افتقدت منذ البداية لقيادات منظمة) زمام المبادرة، وعودتها إلى أيدي بعض أزلام النظام المقربين من الطاغية وحزبه، الذي طالما شكّل الغطاء السياسي والدستوري والحزبي لمجموعة المافيا، أو عصابة المافيات السياسية والعائلية، التي أمّنت للنظام استمراريته، واستمرارية نهب أفراده المدللين لاقتصاد وثروة البلاد ومواطنيها الفقراء والمُفقرين.

 لم يكن هدف الانتفاض الشعبي والجماهيري الواسع في تونس إسقاط رأس النظام، للاحتفاظ بنظامه الاستبدادي الذي خبره الشعب التونسي منذ أيام بورقيبة، وحافظ وزاد عليه بن علي وحزبهما (الدستوري)، كي يستمر ويتواصل بعد فرار هذا الأخير من البلاد.

لقد هدف المواطنون إلى اقتلاع النظام الاستبدادي لإقامة نظام ديمقراطي بديل، تُستعاد في ظله حريات الشعب التونسي بأحزابه ونقاباته وجمعياته، وتتحرر إرادة المجتمع المدني من ارتهانها لبقايا نظام، يحاول التكيف وأقلمة عناصره للاستمرار بالإمساك بمفاصل السلطة، وتوظيفها كما في السابق، ضد الشعب والمجتمع وطبقاته الفقيرة والمُفقرة.

 في كل الأحوال.. تحمل بوادر التغيير التونسي رسالة واضحة، إلى كل من يهمه الأمر من أنظمة سياسية مماثلة، حاولت وتحاول إجهاض الحركات الشعبية والجماهيرية في بلدانها بالتراجع عن قرارات وإجراءات اقتصادية كانت اتخذتها، أو هي في سبيلها إلى إقرارها، ناسية أو متناسية أن التحركات الاحتجاجية الجماهيرية القائمة والمتواصلة اليوم وفي الغد، سوف تتعدى أهدافها تلك المطالب الاقتصادية أو الاجتماعية، إلى أهداف سياسية وحقوقية وقانونية، في محاولة لفرض عقد إجتماعي جديد، تُصان فيه كرامة المواطن، بدل مواصلة الأنظمة الحاكمة إهدارها، عبر سياسات غير شعبية وبمعية موظفين سلطويين انفصلوا عن مواطنيهم، بفعل فجور فاضح مثلته الهيمنة على الثروة والسطوة السلطوية، و"بحر البحبوحة" الذي صنعته أنظمة الاستبداد لتغرق فيه أدواتها وصنائعها، بكل ما يحمله هؤلاء من مسلكيات استفزازية للمواطنين العاديين البسطاء المُفقرين، حتى بتنا أمام لوحة طبقية متجددة، تندغم فيها أسباب الثورة الاجتماعية، مع اسباب الانتفاض الشعبي من أجل الحريات السياسية والتحولات الديمقراطية.

 وإذ نشهد اليوم لسقوط رأس النظام الطاغية، بينما لم يسقط نظامه بعد، فلأن الغرب لم يستطع مواصلة دعمه ماليا واقتصاديا، بفعل الأزمة العالمية المتحركة، ولكن المتدحرجة باتجاه العجز عن إيفاء متطلبات التعافي الاقتصادي والمالي عولميا، وقد تواصل ترتيب خسائرها على مستوى الدول التابعة والصديقة للغرب. على أن انهيارات القوى والأنظمة المحلية قد تتتابع، وإن بأشكال وأدوات مختلفة، على أن مآلاتها قد لا تختلف عن المآل التونسي، العالق اليوم بين براثن نظام يحاول الدفاع عن جذوره، للإبقاء على مصالح طبقية لم ترحل مع حُماتها من استبداديي النظام الفردي والعائلي.

 وهذا تحديدا ما يحتّم الحذر من غدر قوى النظام الكامنة، واستعادتها زمام المبادرة مرة أخرى في وجه أو في وجوه جديدة، تُعيد مسيرة ومسار نظام بورقيبة وبن علي، وتحافظ عليه من عثرات الانتفاض الشعبي غير المنظم، في غياب قيادات ديمقراطية تاريخية مجربة ومقبولة شعبيا وجماهيريا. لهذا فإن تونس اليوم أمام محنة تغيير قد لا يكتمل، حينها تكون الجماهير التونسية أمام غدر وقح وخيانة لآمالها وطموحاتها بالتغيير الكامل، حين تكتشف أن النظام التونسي يُعاد إنتاجه على صورة النظام ذاته الذي يتصور بعضهم أنه قد سقط، فكما أعاد بن علي إنتاج نظام بورقيبة، من المؤكد أن هناك من يعمل على إعادة إنتاج ذات النظام؛ ولو بدون بن علي. فهل هناك من يتّعظ؟.

شبكة النبأ المعلوماتية- الأحد 30/كانون الثاني/2011 - 25/صفر/1432

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1432هـ  /  1999- 2011م