ظواهر شاذة... لكنها امور عادية جدا في العراق

حيدر الجراح

 

شبكة النبأ: ما هو الاستثنائي في حياة الناس؟ انها الامور التي لا تحدث لهم كل يوم وربما كل شهر او ربما سنة واحدة او سنوات عدة، مثل ان يرزق احد المتزوجين بتوأم او ثلاثة توائم دفعة واحدة، او ان تأتيك علاوة وظيفية مرتان في سنة واحدة، او تسقط عليك ثروة مفاجئة من السماء، لا تصيبك بالغيبوبة او لا تقتلك.

وما هو العادي في حياة الناس؟ انها الاشياء والامور التي تقع او تحدث باستمرار ولكثرة وقوعها وحدوثها تصبح عادية جدا.

فمثلا، انت تستيقظ كل يوم في الصباح الباكر لتذهب الى عملك.. تلك من الامور العادية جدا، انت في السيارة الان وفي طابور طويل مع سيارات اخرى والحرس يصر على عبور سيارة واحدة امام جهاز كشف الكذب، عفوا المتفجرات.. يشير الجهاز اليك، تأخذ الناحية الاخرى من الطريق تفتح حقيبة السيارة، يسألك: شايل شي؟ تجيبه: لا.. حسنا اذهب.. او يسالك هذا السؤال الذكي جدا: من اين اتيت؟ من البيت.. الى اين تذهب؟ الى الدائرة.

انها من الامور العادية جدا.. او ان الطابور الطويل يسير ببطء وتصل الى حرس السيطرة، انه مشغول باللعب على جهاز الموبايل، او في حديث حميم مع صديقته، انها امور عادية جدا.

لم تنشأ هذه العادية في حياتنا من فراغ، فقد تعودنا على الكثير من الامور منذ ايام القائد الضرورة، صدام عز بلادي، حين كان يحتل شاشة التلفزيون عبر زياراته ولقاءاته مع الوزراء والمسؤولين، وخذ وهات كلام وسيكار كوبي فاخر وقهقهات القائد التي تهتز لها اكتافه.

وتعود العراقيون على الموت العبثي سماعا ومشاهدة ومعيشة، وهم الذين ودعوا الالاف من احبائهم في سنوات الحروب والقتل.. ولكثرة تعودهم على هذا النوع من الموت لم تستمر الاحتفالات بالشهداء العائدين في توابيت ملفوفة بالعلم العراقي من جبهات القتال. وتعودوا على (صور من المعركة) وعلى (قال القائد) تعودهم على مكرماته في بطاقته التموينية.

لم تكن هذه العادية والتعويد على امورها وليدة العام 2003، حين تعودنا على سماع اصوات الانفجارات واصوات الاطلاقات النارية واصوات سيارات الاسعاف وسيارات مواكب المسؤولين في الدولة، وتعودنا ان كل مناسبة تستغلها المجاميع الارهابية لتنفيذ عملية يذهب ضحيتها المئات من القتلى والجرحى ويضاف العشرات من الارامل والايتام الى قائمة طويلة سبقتهم.

احيانا تمر احدى المناسبات المهمة دون وقوع انفجار كنا نتوقعه، نتساءل: عجبا لماذا لم يقع مثل ذلك الانفجار؟ انه الاستثناء في حياتنا وفي امورنا العادية جدا.

وكثيرا ما نسمع العشرات من القصص كل يوم عن حوادث كثيرة لم نكن نسمع بها قبل سنوات كثيرة او انها لم تكن تقع بتلك الطريقة، قد نتعجب بداية لمثل تلك الحوادث لجانبها العاطفي او الانساني الا انها في النهاية امور عادية جدا.

هل هناك امور اخرى؟ نعم.

فمثلا: مدينة الثورة في العام 2002 كان احد سكانها يشتكي من جرذ كبير يصول ويجول في داره وبعد جهود مستميتة استطاع اخراجه من مخبأه لكنه توجه الى الدار المجاورة لداره، حتى الان الحكاية عادية جدا.. ولكن.. يصدف ان جاره قد رزق بمولود حديثا (حدث استثنائي) وقد قضم هذا الجرذ اذن المولود الحديث فما كان من والده الا التهديد بالويل والثبور اذا لم يدفع جاره الفصل العشائري لتلك الاذن المقضومة.. وبعد التي واللتيا تم دفع خمسمائة الف دينار عراقي لوالد الطفل المتضرر.. ايضا الحكاية هنا قد تكون عادية جدا، ولكنها لم تنته فصولا.

بعد العام 2003 وقد تحول اسم المدينة من الثورة الى مدينة (الصدر المنورة) نسبة الى المرجع الديني محمد صادق الصدر زفّ الجار الى جاره خبر قتله لهذا الجرذ المحارب.. ماذا؟ قتلت الجرذ الذي فصله اعمامي وعشيرتي بنصف مليون دينار؟ الويل ثم الويل، واستدعى عشيرته للجلوس الى الفصل العشائري وهذه المرة بعد التي واللتيا جمع مبلغ مليونا دينار عراقي دية لهذا الجرذ المقتول.. ويبدو ان صاحب الجرذ الاول كان متنورا (من التنوير) فذهب الى المسجد الموجود في منطقته واخبر رجل الدين المسؤول عنه بالحكاية كلها. وقال له: ان ما فعله حرام في نصوص الشرع والدين، وها هو يسترد مبلغ النصف مليون التي دفعها في المرة الاولى ويضع تحت تصرفه المبلع المتبقي وهو حر في توجيه انفاقه او اعادته الى صاحبه.

وضمن نفس السياق العشائري والامور العادية جدا ما حدث في احدى مدن العراق حين حضر احدهم الى سرادق عزاء جيرانهم المتوفى في اليوم الاول من مجلس الفاتحة، وقد ترحم على جاره واخذ يشيد بأخلاقه وكرمه واخبر ابناءه انه في ليلة وفاة ابيهم طرق احدهم باب منزله وخرج اليه وكان رجلا غريب الهيئة لم يره سابقا في المنطقة وقد سألني عن ابيكم وارشدته الى داركم هذه.

امسك.. يا للمصيبة.. ماذا فعلت؟ ولماذا ارشدته؟ لقد كان هذا عزرائيل ملك الموت الذي قبض روح ابينا بسببك.. وانعقد المجلس العشائري والمبلع المترتب دفعه خمسة ملايين دينار عراقي... انها امور عادية جدا..

الظاهرة العشائرية في العراق لم تكن وليدة اليوم او العهد الجديد بل تعود الى عقود سابقة طويلة قد تضمر احيانا وقد تستفحل تبعا لتطورات الاوضاع السياسية والثقافية الا انها تبقى ظاهرة حاكمة في الوسط الاجتماعي العراقي.

في الثمانينات من القرن المنصرم اعاد صدام حسين تفعيل هذه الظاهرة بداعي الشرف الوطني والدفاع عن العراق العظيم في حربه مع ايران من خلال تبرؤ العشائر من ابنائها الهاربين من الخدمة العسكرية ومن حقول الموت، او عدم المطالبة بالفصل العشائري عند قتلهم من قبل مفارز الامن او الرفاق البعثيين..

في التسعينات استفحلت الظاهرة مع شيوع ما عرف حينها ب (شيوخ الانابيب) نسبة الى عمليات التلقيح الاصطناعي بالنسبة للإنجاب.. وهي هنا تعني ظهور طبقة جديدة من شيوخ العشائر الذين لا يتحدرون من اصول مشيخية بل تم تنصيبهم بالقوة او ضخ الاموال في جيوبهم.

وهناك الكثير من الامثلة عن الامور العادية جدا في حياتنا. فالفساد المالي عادي جدا من اصغر موظف الى الاكبر.. والتعدي على الممتلكات وتمليكها للمتعدّين من الامور العادية جدا.. واكوام القمامة في الشوارع والساحات العامة وكل ما يحدث في عراقنا لا يثيرنا فقد تعودنا عليه واصبح من الامور العادية جدا.

شبكة النبأ المعلوماتية- الاثنين 24/كانون الثاني/2011 - 18/صفر/1432

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1432هـ  /  1999- 2011م