في زيارته إلى فلسطين المحتلة في شهر أيلول/سبتمبر الماضي دعا مدير
الوكالة الدولية للطاقة الذرية يوكيا أمانو الكيان الصهيوني للانضمام
إلى معاهدة منع انتشار الأسلحة النووية ووضع جميع منشآتها تحت رقابة
مفتشي الوكالة، دعوة مثلت جوهر مشروع قرار كانت المجموعة العربية تقدمت
به إلى مجلس أمناء الوكالة في مسعى لكسر ما بات يعرف بالاستثناء النووي
الإسرائيلي المسنود بغطاء غربي أميركي، في الوقت الذي تصر فيه إسرائيل
على الاحتفاظ بسياسة الغموض النووي مستفيدة من رفضها التوقيع على
معاهدة حظر الانتشار النووي غير أن تقديرات تؤكد امتلاكها قرابة
ثلاثمئة رأس نووي جعل الشرق الأوسط واحدة من المناطق المهددة بخطر
استعمال أسلحة الدمار الشامل تلك.
وكان المدير العام السابق للوكالة محمد البرادعي قد طرق باب النووي
الإٍسرائيلي في محاولة منه لدرء تهمة الكيل بمكيالين التي وجهت لوكالته
فاستقبله فيتو أميركي أطاح به تعاطفا مع إسرائيل وأتى بأمانو على أمل
ألا ينتهج نهج سلفه لكن الرجل ليس بوسعه تجاهل التحرك العربي شكلا
ومضمونا، تحرك يثير أسئلة حول سقفه المحتمل فالقرار الذي أصدر العام
الماضي بدعم إيراني ليس سوى قرار غير ملزم اتخذ بأغلبية بسيطة في
الجمعية العامة لوكالة الطاقة الذرية عبر فقط عن قلقه بشأن القدرات
النووية الإسرائيلية، التعبير عن القلق تطور في التعامل مع الحالة
النووية الإسرائيلية غير أن معالجتها بخطوات عملية يبقى هدفا بعيد
المنال معلقا على ذمة مؤتمر 2012 لمناقشة حظر أسلحة الدمار الشامل في
الشرق الأوسط.
فكيف يمكن تفعيل دعوة الوكالة الذرية لإسرائيل بالانضمام إلى معاهدة
حظر الانتشار النووي؟ وهل تنجح هذه الدعوة في إخراج الملف النووي
الإسرائيلي من عتمة الكتمان إلى دائرة الضوء؟.. ولماذا تصر إسرائيل على
رفض الانضمام إلى معاهدة الحد من انتشار الأسلحة النووية؟ وهل مجرد
وجود خلافات أو وجود حالة حرب أو ما إلى ذلك مبرر لرفضها وضع منشآتها
النووية تحت الرقابة الدولية كما يحصل مع باقي البلدان؟ لماذا هذا
الخوف من أن تضعها تحت رقابة دولية؟ وهل عدم التوقيع على معاهدة حظر
الانتشار النووي يتيح لأي دولة أن تقوم بنشاط نووي من دون أي رقابة
دولية تحت ذريعة أنها لم توقع وبالتالي ليست مسؤولة أمام هذه المنظمات
الدولية؟ وأخيراً هل تنجح دعوة الوكالة الذرية في رفع ستار السرية
والغموض عن البرنامج النووي الإسرائيلي؟
المعاملة الاستثنائية
كما هو معروف فإن سياسة ازدواجية المعايير التي تتبعها الإدارة
الأمريكية مستمرة بشأن امتلاك دول المنطقة للأسلحة النووية، والوتيرة
تتصاعد فيما يتعلق بامتلاك إيران للطاقة النووية. كل ذلك يمكن فهمه في
سياق منع انتشار السلاح النووي في المنطقة، إلا أننا لا يمكن أن نفهم
سكوت وكالة الطاقة الذرية وسكوت المجتمع الدولي عن القوة النووية
الإسرائيلية التي تمتلكها منذ سنوات طويلة. بل إنّ إسرائيل تعمل من أجل
إعفائها من القيود التي تمنع الدول المصدرة للتكنولوجيا النووية
والوقود النووي من التعامل معها، وذلك بهدف استيراد هذا الوقود بشكل
قانوني.
إنّ جوهر الأمن الإسرائيلي في غاية الوضوح، في حال السلم كما في
حاله الحرب لا يتغيّر، هو التفوق العسكري على العرب مجتمعين، بالإضافة
إلى إستراتيجية الردع النووي التي يمكن استخدامها دائما.
وتعتبر السرية من أهم أسس إستراتيجية إسرائيل النووية الرسمية،
ويقول محللون "إنّ إستراتيجية الغموض النووي هي إحدى أهم معالم إطار
الصراع ذاته، بما يرتبط بذلك من شكوك وعدم ثقة".
ولم تتوقف إسرائيل، منذ انشغال العالم بالمسألة النووية، عن
محاولاتها تقديم مختلف المبررات الواهية والحجج غير الواقعية لامتناعها
عن التوقيع على معاهدة حظر انتشار السلاح النووي. ومن هذه الحجج أنها
لن توقع ما لم يكن هناك اتفاق على سلام شامل، ولهذا فهي ترفض حتى إعطاء
موعد مستقبلي للتوقيع على المعاهدة، مما دفع الخبير الإسرائيلي في
العلاقات الدولية زئيف معوز، في سياق التوترات التي تشهدها المنطقة
الآن، للقول "إنّ قدرتنا النووية تشكل عاملا محفزا في سباق التسلح غير
التقليدي الآخذ في التفاقم. وعلينا أن نأخذ في الحسبان أنه على المدى
الطويل سيكون الخيار الحقيقي لإسرائيل بين شرق أوسط نووي وبين شرق أوسط
نظيف من سلاح الدمار الشامل".
ومن دون أي شك فإنّ السلاح النووي الإسرائيلي يشكل تهديدا خطيرا
للمنطقة العربية كلها، وعامل خلل في استقرارها ومستقبلها. كما أنّ
تجاهل المخاطر النووية الإسرائيلية يعرّض مصداقية السعي إلى السلام
العادل والشامل والدائم إلى الخطر، إذ إنّ امتلاك "إسرائيل" للسلاح
النووي وامتناعها عن الانضمام إلى معاهدة الحد من انتشاره يؤكد نواياها
للهيمنة على المنطقة ومقدراتها، وهو ما لا يمكن أن يكون عامل سلام
واستقرار، بل هو عامل توتر دائم في المنطقة.
إنّ استثناء "إسرائيل" من الانضمام إلى معاهدة منع انتشار الأسلحة
النووية يعني -عمليا - السماح لها بالتفوق الاستراتيجي على العرب،
وإطلاق يدها للهيمنة على المنطقة كلها، وإبقاء العالم العربي تحت رحمة
التهديد الإسرائيلي المستمر. والشيء الملفت للانتباه أنّ الإدارة
الأميركية، التي تضغط على الدول العربية لمنعها من امتلاك أية إمكانية
نووية، تجهد نفسها لتبرير عدم توقيع "إسرائيل" على معاهدة الحد من
انتشار الأسلحة النووية، وبالتالي عدم إتلاف مخزونها من هذه الأسلحة.
وهكذا، غدت الصورة واضحة تماما، فالأسلحة النووية الإسرائيلية،
الموجودة الآن، والتي تهدد أمن المنطقة واستقرارها، ينبغي أن تبقى،
بينما مطلوب من العرب أن يتعهدوا - علنا - بعدم امتلاك مثل هذا النوع
من الأسلحة.
إنّ التهديد النووي الإسرائيلي ينبغي أن يوضع في سياق مجمل التطورات،
التي عاشتها المنطقة العربية منذ قيام الكيان الصهيوني إلى يومنا هذا،
فهو ليس إلا نتاج طبيعي للسياسات العربية الخاطئة، التي يتجلى اليوم
عدم صوابها في هذا المأزق الذي يوجد فيه صانعو السياسات في العالم
العربي. فوجود التفوق العسكري الإسرائيلي الفعلي شيء والاعتراف به
وتكريسه في التعامل الدولي شيء آخر تماما، فلو قبل العرب بتطبيق معيار
مزدوج للأمن يبيح لـ"إسرائيل" ما لا يبيحه لغيرها، لأصبح عليهم أن
يوقّعوا على صك خضوعهم الطوعي لـ"إسرائيل" وتسليمهم لها بكل السيادة
والهيمنة في منطقة الشرق الأوسط.
إنّ السيرورات الإقليمية نحو الشراكات، التي من شأنها بلوغ مرحلة
النضج في المستقبل غير البعيد، تفرض إعادة النظر في هذه السياسة وفي
تناقضاتها الداخلية. إذ يجب تفعيل التوجه العربي نحو المجتمع الدولي من
أجل شرق أوسط خالٍ من أسلحة الدمار الشامل، وإجبار إسرائيل على فتح
منشآتها النووية أمام وكالة الطاقة الذرية.
وهكذا، فالقبول، لأي سبب، بمعاملة استثنائية لإسرائيل في مجال
القانون الدولي، والنزول عند الرغبة الأميركية، ليس له أي أسس موضوعية
سوى استخدام إسرائيل في المستقبل كوسيلة لضمان خنوع العرب واستسلامهم،
ولا يعني أقل من قبول الانتحار الذاتي من قبل جميع الدول العربية.
الغموض النووي
في يوم 24 أيلول/سبتمبر من العام 2004 تبنت الوكالة الدولية
للطاقة الذرية بالإجماع قراراً يدعو إلى إقامة منطقة خالية من السلاح
النووي في منطقة الشرق الأوسط وهذا القرار يستهدف "إسرائيل" بوضوح حيث
إنها الدولة الوحيدة في المنطقة التي يعتقد في امتلاكها للأسلحة
النووية ولم توقع على معاهدة حظر انتشار السلاح النووي.
والمثير في الأمر أن "إسرائيل" كانت ضمن الدول الأعضاء الموافقة علي
القرار والبالغ عددها 137 دولة، هذا في الوقت الذي وقعت فيه قبلها
بيوم واحد مع مفوضية منظمة الحظر الشامل للتجارب النووية اتفاقاً يسمح
بتفتيش منشآتها النووية على ألا يشمل التفتيش مفاعل ديمونة الذي ترفض "إسرائيل"
إخضاعه للتفتيش الدولي!!
بالرغم من ذلك فإن الكيان الصهيوني مازال حتى يومنا هذا يتبع سياسة
الغموض القائمة على عدم تأكيد أو نفي امتلاكه للأسلحة النووية..
فهناك معمل سري للغاية في مفاعل ديمونة النووي تحظر السلطات
الإسرائيلية ذكر اسمه أو طبيعة نشاطه.
وكان مردخاي فانونو قد كشف لصحيفة الـ صنداي تايمز البريطانية عام
1986 بالتفصيل والصور بعض ما يحدث داخل مفاعل ديمونة الذي ظل سراً
طوال عدة عقود، فقد كشف عن الموقع الذي يتم فيه إنتاج القنابل الذرية،
ووصف المفاعل بالكامل من الداخل، وتخشى "إسرائيل" حالياً أن يكشف
فانونو المزيد من أسرار "إسرائيل" النووية بعد إطلاق سراحه من السجن
الذي أمضى فيه 18 عاماً.
ومفاعل ديمونة هذا قد جاء من فرنسا، وهناك مفاعل آخر أقيم منذ
حوالي 44 عاماً ـ وهو مفاعل سوريك الذي جاء من الولايات المتحدة بناء
على اتفاق بين الجانبين الأمريكي والإسرائيلي في عام 1955, وهو غير
محاط بالسرية مثل مفاعل ديمونة، كما أنه طبقاً للاتفاق الأمريكي
الإسرائيلي يكون هذا المفاعل تحت الرقابة الأمريكية وهو مقام في منطقة
غرب يبنا وتم افتتاحه عام 1960. وفي عام 1975 تم نقل الرقابة علي
مفاعل سوريك إلى الوكالة الدولية للطاقة الذرية بناء على اتفاق ثلاثي
بين الولايات المتحدة و"إسرائيل" والأمم المتحدة، حيث تعهدت "إسرائيل"
بأن تستخدم هذا المفاعل في الأغراض السلمية.
ويعتبر شيمون بيريز رئيس الكيان الصهيوني الأب الحقيقي للبرنامج
النووي الإسرائيلي، فهو الذي وقع في عام 1956 عقداً مع فرنسا ينص
علي قيام الحكومة الفرنسية ببناء مفاعل ديمونة وإمداده باليورانيوم
المخصب. ثم أعقب ذلك تعاون كامل بين "إسرائيل" والولايات المتحدة عقب
حرب1967 ليتسع البرنامج النووي الإسرائيلي حيث تم تهريب اليورانيوم
إلى "إسرائيل" من دول مثل أمريكا وبريطانيا وبلجيكا، كما اطلع الخبراء
الإسرائيليون على تفاصيل البرنامج النووي لجنوب أفريقيا بعد تخليها عنه.
ويوجد حالياً لدى "إسرائيل" إلى جانب مفاعل ديمونة ومفاعل سوريك
مفاعل ريشون ليزيون الذي أقيم في 20 نوفمبر1954 والذي قامت الشركات
الأمريكية بوضع تصميمه، ومفاعل روبين الذي بدء في إنشائه عام 1966.
ولا يوجد معلومات محددة حول عدد أو نوعية الرؤوس النووية التي
تمتلكها "إسرائيل" إلا أنه قد نشر تقرير أوروبي مؤخراً أوضح أن "إسرائيل"
لديها 200 رأس نووي وأنها أصبحت تحتل المركز الخامس بين دول العالم
من حيث القدرات النووية.
وبالإضافة إلى امتلاك "إسرائيل" هذه الرؤوس النووية، فإنها تمتلك
أيضاً وسائل نقل الأسلحة النووية بواسطة الطائرات الأمريكية (F-15)
و(F-16) فضلاً عن صواريخ أريحا. وهناك إصرار أمريكي على عدم ظهور
أي قوي نووية جديدة بخلاف دول النادي النووي - وهي الدول ذات العضوية
الدائمة في مجلس الأمن - وعندما توصلت دول أخري لامتلاك السلاح النووي
- وهي باكستان والهند - أعلنت كل منهما عن قدراتها النووية أما "إسرائيل"
فمازالت تتبع سياسة الغموض النووي والذي تعتبره يحقق لها ردعا أكبر مما
لو كشفت عن قدراتها النووية بشكل علني.. فهي لم توقع على اتفاقية حظر
انتشار الأسلحة النووية أو القبول بإخضاع منشآتها النووية للرقابة
والتفتيش الدولي للوكالة الدولية للطاقة الذرية، كما أنها وافقت على
معاهدة حظر الأسلحة الكيماوية في عام 1993, ولكنها لم تصدق عليها حتى
الآن.
إن معاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية التي وقعتها 59 دولة في
يوليو 1968 والتي وصل عددها إلى 187 دولة في عام2000 - باستثناء
"إسرائيل" وكوبا وباكستان والهند التي ظلت خارج المعاهدة - قد فشلت في
تحقيق الأهداف الأساسية التي أبرمت من أجلها إلا وهي جعل العالم أكثر
أمناً عن طريق إخلائه من السلاح النووي، ونقل التكنولوجيا النووية
للأغراض السلمية للدول غير النووية. فقد أعطت هذه المعاهدة وضعاً
استثنائياً للدول الخمس الكبرى باحتكار السلاح النووي، وفي الوقت الذي
تعمل فيه الولايات المتحدة - على سبيل المثال ـ بمنع الدول الأخرى مثل
إيران وكوريا الشمالية من امتلاك السلاح النووي، تعمل على تطوير
ترسانتها النووية وأيضاً تتجاهل الترسانة النووية الإسرائيلية التي
تمثل تهديداً للسلام والأمن في الشرق الأوسط.
التعهدات الأميركيّة
باستثناء جون كينيدي، الذي حاول عبثاً منع الدولة العبرية من امتلاك
السلاح النووي، فإن الحكومات الأميركية المتعاقبة، غطّت على الدوام
الموقف الإسرائيلي المندرج تحت "سياسة الغموض النووي". وبقي السلاح
النووي الإسرائيلي السرّ الأكثر انكشافاً في العالم، مع صور قاعدة "سدوت
ميخا" بعدسات أقمار التجسّس الأميركيّة على
أرض الواقع، عارضت واشنطن منذ 1946 انتشار الأسلحة النووية، لكنها حتى
ستينيات القرن الماضي لم تترجم هذه المعارضة الى سياسة متماسكة ومحددة
لحظر انتشار الأسلحة. فقد وجد الرئيس الأميركي الراحل جون كيندي عندها
أن مسألة انتشار الأسلحة النووية تُعدّ مشكلة للسياسة الخارجية، وأقرّ
خلفه ليندون جونسون فكرة عقد معاهدة حظر الانتشار كحل لهذه المشكلة.
لكن في ما يتعلق بالبرنامج النووي الإسرائيلي، كانت الدولة العبرية
شاهداً قوياً على فشل حكومة الرئيس الأميركي الأسبق داويت إيزنهاور
بالتصدي للانتشار النووي. الإدارة اللاحقة برئاسة كينيدي كانت الأشدّ
حزماً في التعامل مع المشكلة الإسرائيلية. ففي الوقت الذي كان فيه
كينيدي ملتزماً بأمن إسرائيل، كان قلقاً تجاه انتشار الأسلحة النووية،
إلى أن وقع صدام في ربيع وصيف عام 1963.
وفي عهد خلفه جونسون، وُضع ترتيب خاص تعهدت بموجبه "إسرائيل" بأن لا
تكون أول من يدخل الأسلحة النووية الى الشرق الأوسط، في مقابل أسلحة
أميركية.
منذ هاري ترومان، عارض كل الرؤساء الأميركيين انتشار الأسلحة
النووية. وقد عزز قانون الطاقة الذرية لعام 1946 هذه المعارضة عن طريق
حظر نقل أسلحة نووية أو أي تكنولوجيا نووية باعتبارها "معلومات محظورة"
الى دول أخرى.
لكن سجل حكومة ايزنهاور يُظهر أن منع انتشار الأسلحة النووية لم يكن
أولوية قصوى مثل المشاركة في فوائد الطاقة النووية في الصناعات المدنية
في إطار ما سُمّي "الذرة من أجل السلام". ومثّلت إسرائيل معضلة للسياسة
الأميركية. لذلك فإن الحالة الإسرائيلية أعطت صورة دراماتيكية عن عجز
سياسات حكومة إيزنهاور فيما يتعلق بمنع انتشار الأسلحة النووية.
كما أن التخبط والإرباك داخل جهاز الاستخبارات في حكومة إيزنهاور
أديا إلى أمور أكثر من مجرد عدم المراقبة وسوء التقدير. فسياسات هذه
الإدارة في المجال النووي، أوجدت جوّاً قاد إلى انهيار الرقابة.
واستغلت إسرائيل بصورة متعمدة هذا الجو في جهودها لإخفاء أعمالها.
وأصبحت مهمة حكومة كينيدي التي ستتولى السلطة التأكد من أن مثل هذا
التخبط والارتباك الاستخباري لن يحدثا ثانية. ومارس كينيدي الضغط على
إسرائيل خلال النصف الأول من 1961، وفي أيامه الأولى تلقى تقارير شفوية
ومكتوبة تؤكد كلها أنه يجب وضع ديمونا تحت ضمانات دولية أو تضمن على
الفور تفتيشاً أميركياً للموقع.
واستمرت معركة ديمونا بين كينيدي وبن غوريون ما بين نيسان وحزيران
1963. وبعد أخذ ورد وطلبات بتقديم ضمانات أمنية واستجابات ومماطلات،
وافق بن غوريون على مضض على أن تكون هناك زيارات دورية لوفود أميركية
لديمونا.
وخلال فترة قصيرة، كان هناك شعور بأن بالإمكان كبح الحالة النووية
الإسرائيلية من خلال الوسائل الثنائية.
في أواخر عام1964، وطبقاً لما تنبأت به الاستخبارات الأميركية، فجرت
الصين أول قنبلة نووية، وهو ما أثار إمكان حدوث سلسلة من ردود الفعل
بشأن الانتشار النووي، وخصوصاً من جانب الهند واليابان وباكستان.
وبالنسبة إلى "إسرائيل"، كان هناك شعور في واشنطن بأن مشكلتها
النووية قد تجرى احتواءها، على الأقل سياسياً. وأن هذا الأمر قد يظل
قائماً طالما أن الولايات المتحدة تلبي احتياجات إسرائيل من الأسلحة
التقليدية.
وبالنسبة إلى "إسرائيل" أيضاً، فقد أصبح واضحاً في 1966 بأن الترتيب
النووي الذي تم الاتفاق عليه بين كينيدي وأشكول قد أصبح موضع خلاف.
فتلك التفاهمات كانت غامضة جداً. والقضايا الرئيسية كانت موضع تفسيرات
مختلفة. ومن الناحية العملية فإن التفسيرات الإسرائيلية هي التي سادت.
وفيما استمرت "إسرائيل" بتدمير الشروط التي أصر عليها كينيدي، فإن
الزيارات الدورية لديمونا "أصبحت تثير غثياناً سياسياً للطرفين". وفي
منتصف 1965، أرسل جونسون رسالة إلى أشكول طلب فيها بأن توافق إسرائيل
على وضع مفاعل ديمونا تحت ضمانات لجنة الطاقة الذرية الدولية. ولم يُجب
أشكول.
وأثناء المفاوضات حول معاهدة حظر انتشار الأسلحة، اعتقد المسؤولون
الأميركيون بأن هناك فرصة معقولة لإقناع إسرائيل بتوقيع المعاهدة إذا
انتُهجت سياسة العصا والجزرة.
لكن في صيف عام 1967، لم يكن لدى حكومة جونسون أي فرصة حقيقية للبدء
في محادثات مع إسرائيل بشأن المعاهدة. فالأزمة والحرب وما تلاها غيرت
الوضع في الشرق الأوسط على نحو عميق.
وفي بداية 1968، قدمت الدولتان العظميان نسخ مسودة معاهدة متماثلة
إلى مؤتمر نزع السلاح. وفي نهاية العام، وبعد صدام آخر مع الولايات
المتحدة، ظلت "إسرائيل" عنيدة في رفضها توقيع المعاهدة. ومن الناحية
السياسية الرسمية، فإن المعاهدة "تحت الدراسة"، وأما من الناحية غير
الرسمية فإن الولايات المتحدة فهمت أن إسرائيل "لن توقّع".
تعهدات اوباما
وفي يوم الثلاثاء 11 مايو/أيار الماضي أعلن وزير الحرب الصهيوني
ايهود باراك، أن بلاده ستستمر في سياسة "الالتباس" التي تعتمدها بشأن
برنامجها النووي بدعم من الولايات المتحدة، مؤكداً ثقته في أن إدارة
الرئيس الأميركي باراك أوباما لن تعارض سياستها القائمة منذ فترة طويلة
والمتمثلة في عدم تأكيد أو نفي امتلاكها أسلحة نووية. كما كشفت صحيفة "هآرتس"
في نفس اليوم، أن الوكالة الدولية للطاقة الذرية لا تعتزم المقارنة بين
برنامج إسرائيل النووي وبرنامج إيران، وذلك وفقاً لمصادر دبلوماسية،
وذلك في أعقاب تقرير أفاد أن أنشطة إسرائيل النووية قد تخضع لتدقيق غير
مسبوق من الوكالة.
وقال باراك لإذاعة الجيش الإسرائيلي رداً على سؤال حول سياسة "الالتباس"
المتبعة حول الأسلحة النووية، "إنها سياسة جيدة ولا داعي لتغييرها. ثمة
توافق تام مع الولايات المتحدة بهذا الشأن". وتلتزم "إسرائيل" هذه
السياسة رسميا منذ 1965 تاريخ تدشين مفاعل ديمونا النووي في صحراء
النقب جنوب فلسطين المحتلة.
وقد أكدت مختلف الحكومات التي تعاقبت في "إسرائيل" منذ أكثر من 40
عاماً، أن "إسرائيل" لن تكون "السباقة إلى إدخال الأسلحة النووية إلى
الشرق الأوسط". وفي أبريل/نيسان الماضي دعا الرئيس الأميركي باراك
أوباما، "إسرائيل" إلى الانضمام إلى معاهدة منع انتشار الأسلحة النووية،
رافضاً في الوقت نفسه التعليق على موضوع الترسانة النووية الإسرائيلية.
وسئل باراك عن إمكانية السماح لمفتشي الوكالة الذرية بزيارة مفاعل
ديمونا، فقال إن "هذا الخطر غير قائم". وقال "ليس هناك خطر على
الترتيبات التقليدية القائمة بين إسرائيل والولايات المتحدة بهذا الشأن".
وأضاف "التقيت قبل أسبوعين الرئيس أوباما وعدداً من المسؤولين
الأميركيين الآخرين، وجميعهم قالوا لي إن جهود نزع السلاح النووي
تستهدف إيران وكوريا الشمالية". ورد باراك على سؤال عن السبب الذي يمنع
إسرائيل من أن تعلن أنها قوة نووية قائلاً "أعتقد أن موقفنا هو الموقف
الصحيح ولا داعي لتغييره".
وكانت واشنطن بالتعاون مع الأعضاء الدائمين في مجلس الأمن الراغبين
في كسب تأييد الدول العربية لفرض المزيد من العقوبات على إيران، دعوا
في يوم الأربعاء 5/5/2010 للبحث عن سبل لتطبيق مبادرة عام 1995 التي
تضمن نزع السلاح في منطقة الشرق الأوسط الأمر الذي يطال البرنامج
النووي الإسرائيلي. وجاء الإعلان في أعقاب حملة لتركيز الانتباه خلال
مؤتمر حظر الانتشار النووي الشهر الحالي، على "إسرائيل" التي وضعت
إقامة علاقات "سلام" مع جميع "جيرانها العرب" شرطاً مسبقا للانضمام
للمعاهدة.
وفي 6/10/2009 أشار مسؤولون أميركيون مطلعون إلى أن الرئيس الأميركي
باراك أوباما أعاد تأكيده على مذكرة تفاهم سرية تعود إلى أربعة عقود
سمحت لإسرائيل بالتكتم على ترسانتها النووية دون فتحها للتفتيشات
الدولية.
وقالوا أيضا إن أوباما نقل الرسالة إلى رئيس الوزراء الإسرائيلي،
بنيامين نتنياهو، عندما استضافه في البيت الأبيض، في شهر مايو/أيار
2009.
وبموجب الاتفاق، لا تضغط الولايات المتحدة على إسرائيل لإفشاء
أسلحتها النووية، أو التوقيع على معاهدة حظر الانتشار النووي التي يمكن
أن تجبر إسرائيل على التخلي عن مئات القنابل النووية الموجودة لديها.
وكانت إسرائيل تخشى ألا يستمر أوباما في الالتزام بالاتفاق الذي
أبرم عام 1969 بسبب تأييده القوي لمنع الانتشار النووي والأولوية في
منع إيران من تطوير أسلحة نووية.
يذكر أن التفاهم النووي المذكور قد تم التوصل إليه في قمة بين
الرئيس الأميركي الأسبق، ريتشارد نيكسون، ورئيسة الوزراء الإسرائيلية
السابقة، غولدا مائير، يوم 25/9/1969.
ومن المعلوم أنه لا يوجد سجل رسمي للاتفاق، ولم تعترف به أي حكومة
إسرائيلية أو أميركية علنا. ومع ذلك فقد رفعت مكتبة نيكسون عام 2007
السرية عن مذكرة من مستشار الأمن القومي هنري كيسنجر، بتاريخ 19/9/
1969، تعتبر أقرب ما يكون إلى تلفظ واضح لسياسة أميركية بشأن المسألة.
وتقول المذكرة: "بقدر ما نود إيقاف الاقتناء الإسرائيلي الفعلي، ما
نريده حقيقة على أقل تقدير قد يكون منع الاقتناء الإسرائيلي من أن يصير
حقيقية دولية واقعة". ومن ثم كانت السياسة الناتجة مرادفة لمقولة "لا
تسأل، لا تخبر".
ومن جانبها، سعت حكومة نتنياهو لإعادة التأكيد على التفاهم جزئيا
بدافع القلق من أن تطلب إيران أن تكشف إسرائيل عن برنامجها النووي في
مفاوضات مع الولايات المتحدة وقوى دولية أخرى.
وتفسيرا لهذا التفاهم السري السابق، قال أفنر كوهين، الخبير بتاريخ
البرنامج النووي الإسرائيلي من خارج الحكومة الإسرائيلية، إن "إعادة
التأكيد على حقيقة أن نتنياهو طلب وتلقى سجلا مكتوبا للاتفاق يشير إلى
أنه ليس هناك على ما يبدو اتفاقا مشتركا فقط على ما اتفق عليه في العام
1969 ولكن يبدو أيضا أنه حتى هذه المذكرات لم تكن موجودة أصلا. وهذا
يعني أن نتنياهو أراد أن يكون بيده شيء مكتوب يلمح إلى وجود تفاهم. كما
أنه يؤكد الرأي بأن الولايات المتحدة هي في الحقيقة شريكة في سياسة
إسرائيل من عدم الشفافية النووية".
أما هذا التفاهم السري، فإنه يمكن أن يقوض هدف إدارة أوباما لإيجاد
عالم خال من الأسلحة النووية. خاصة أنه يمكن أن يصطدم بجهود أميركا
لفرض معاهدة حظر شامل لاختبار الأسلحة النووية، ومعاهدة حظ إنتاج
المواد الانشطارية، وهما المعاهدتان اللتان جادلت أميركا بضرورة
تطبيقهما على إسرائيل في السابق.
وكما قال مسؤول بمجلس الشيوخ "هذا يعني أن الرئيس قدم تعهدات ليس
أمامه خيار من الناحية السياسية إلا أن يقدمها فيما يتعلق ببرنامج
إسرائيل النووي. لكن ما يثير التساؤل فعلا هو كل جزء من أجندة الرئيس
المتعلقة بحظر الانتشار النووي. لقد قدم الرئيس لإسرائيل بهذه الطريقة
بطاقة إطلاق سراح من السجن مجانية".
فشل المعالجة الدبلوماسية
عندما قام مدير الوكالة الدولية للطاقة الذرية بزيارة "إسرائيل"
لأول مرة في تاريخ السلاح النووي الإسرائيلي الممتد إلى خمسين عاماً
مضت والعالم يتفرج ولا يجرؤ على اتخاذ أي إجراء عملي ضد الكيان
الصهيوني فيما يقيم الدنيا ولا يقعدها بشأن محاولات إيران امتلاك
تكنولوجيا نووية للأغراض السلمية, فقد رفض بنيامين نتنياهو رئيس وزراء
إسرائيل استقبال " يوكيا أمانو" واللقاء معه..
و"إسرائيل" خارج منظومة الدول الموقعة على معاهدة منع امتلاك
وانتشار الأسلحة النووية مع أنها تمتلك السلاح منذ خمسة عقود، وهي غير
ملتزمة بتنفيذ ما تقرره الوكالة الدولية للطاقة النووية ولهذا فقد طوّق
المسؤولون الإسرائيليون "يوكيا أمانو" رئيس هيئة الوكالة الدولية
للطاقة النووية... بنيامين نتنياهو اعتذر عن اللقاء به بحجة أنه يقضي
عطلة في الشمال، وايهود باراك وزير الحرب وافيغدور ليبرمان لن يلتقيا
معه لأسبابهما الخاصة، فيما اقتصر اللقاء على عجوز السياسة الإسرائيلية
شمعون بيريز حيث مارس هذا الإرهابي المهترئ إرهابه الفكري على رجل
الدبلوماسية الياباني بحيث تحول الحوار من كشف الغطاء عن السلاح النووي
الإسرائيلي وإنهاء مرحلة "الغموض النووي" إلى تسليط الضوء على محولات
إيران امتلاك التكنولوجيا النووية السلمية في وقت فتحت فيه إيران أبواب
منشآتها أمام التفتيش الدولي أكثر من مرة، وقدمت بالتعاون مع تركيا
والبرازيل أكثر مبادرة لاستئناف الحوار العلني حول مسألة تخصيب
اليورانيوم وتبادل نسب التخصيب مع الغرب.
وما أكد هذا بعض المعلومات التي وردت في وسائل الإعلام الإسرائيلية
والتي قالت بأن أمانو التقى خلال زيارته للكيان شمعون بيريز ووزير شؤون
الاستخبارات ووزير الشؤون الإستراتيجية وكلهم إرهابيون يتلطّون خلف
أسماء ومسميات مختلفة لبحث مسائل منها المشروع النووي الإيراني.
وقد أكدت المعلومات أن الزيارة لم تتجاوز بروتوكولات الزيارات
المخلوطة بين الرسمي وغير الرسمي ذلك أن القرار المتخذ والذي وصف بأن
العرب كانوا وراءه والمتعلق بفرض رقابة دولية على المنشآت النووية
الإسرائيلية هو مجرد مقترح جاء تلبية لضغوط بعض الدول العربية بعد
خمسين عاماً من الصمت الدولي المطبق واللامبالاة العربية التي وضعت
العديد من الدول العربية بين مطرقة العلاقات مع أمريكا وسندان التعرض
لإسرائيل ربيبتها وحبيبتها وصانعة قراراتها الداخلية والخارجية سواء..
والسؤال هو.. ماذا بوسع الطاقة الدولية ورئيسها الجديد المبرمج
سلفاً على رقميّات منشآت إيران وبرمجيّات العقوبات الأمريكية
والأوروبية التي يبدو أنها كلما زادت وارتفعت وتيرتها ارتفعت وتيرة
إيران في إنتاج الأسلحة والصواريخ والبوارج والطائرات وكأن هذا في واد
وذاك في واد آخر... نقول ماذا بوسع السيد "امانو" غير الابتسام
والانحناء وتوزيع التصريحات الغامضة المبهمة أمام وضوح موقف الرئيس
الأمريكي أوباما من السلاح النووي الإسرائيلي.
وأخيراً نقول.. إذا كان قيام "إسرائيل" من آن لآخر بتسريب تقارير
حول القوة النووية الإسرائيلية يحقق التأثير المطلوب للردع الإسرائيلي
في مواجهة سعي دول المنطقة لمواجهة السياسة الصهيونية, فإن هذا يجب
ألا يجعلنا ننسي هدف المؤسسة العسكرية الإسرائيلية وحلمها في إقامة
"إسرائيل الكبرى" والذي تسعى لتحقيقه بتحقيق التفوق في جميع أوجه
موازين القوة التقليدية والبيولوجية والكيماوية والنووية.
* كاتب وباحث فلسطيني |