ثقافات الاخرين ووجوهنا الشاحبة

حيدر الجراح

 

شبكة النبأ: يكتسب الاعلام وجميع اوجه النشاط الثقافي اهمية متزايدة في عالم اليوم للتأثيرات المتعاظمة التي يمتاز بها في تشكيل وعي الناس او اعادة تشكيلة لأهداف معينة تتبع كل وسيلة او تنطق باسم كل ثقافة.

هذه التأثيرات لا تقتصر على الجوانب الايجابية منها بل تمتد الى جوانب سلبية ليس اقلها الخوف على الهويات الفرعية والثقافات المحلية.

تنبهت المجتمعات لمدى قدرة هذه التأثيرات على الاختراق وخاصة مجتمعاتنا العربية والاسلامية وحاولت ان تشق لها طريقا وسط هذا الكم الهائل من تلك الوسائل، الا ان الشكوى مستمرة وفحواها ان هذه المجتمعات تتعرض لعمليات كبيرة ومستمرة من الغزو الثقافي والفكري تعصف بثوابتها الثقافية والدينية، وهي تجد نفسها عاجزة امام طغيان لون واحد من الثقافة الكونية وهي الامركة في زمن العولمة المستمر في جريانه.

هل هناك فعلا غزو ثقافي كما يقول العرب والمسلمون؟ ام انه احد اوهامهم الكبرى اضافة الى اوهام اخرى؟

وماذا سيسمى هذا الغزو اذا اصبحت الصورة معكوسة اي ان يكون العرب والمسلمون هم سادة الاتصال والاعلام والثقافة والسياسة والاقتصاد في العالم المعولم؟

إن كل الثقافات الإقليمية والقومية والعرقية قابلة لأن تمارس الغزو الثقافي أو أن تقع فريسة له بسبب الانهزام الثقافي. والانهزام الثقافي في هذه الحال إما داخلي ذاتي أو لغزو ثقافي خارجي.

أما عندما تكون الثقافة إنسانية عالمية فلا ينطبق على تحولاتها عنوان الانهزام الثقافي، كما لا يمكن أن يوصم أثرها في الثقافات القومية بالغزو الثقافي، بل إنه التفاعل الثقافي فعلاً وانفعالاً.

لا ينكر هنا أن القوة العسكرية والاقتصادية والسياسية والإعلامية قد تساند ثقافة ما فتصمد لوقت أطول أو ربما تفرض على الشعوب بالقوة والقهر، لكن ذلك لن يدوم طويلاً، فكم من أمة مهزومة عسكرياً استطاعت أن تهزم مستعمريها ثقافياً، وما زالت ماثلة في الأذهان حالة التتار والمغول الذين اكتسحوا العالم الإسلامي عسكرياً ليجدوا أن الإسلام قد اكتسحهم ثقافياً، ولم يترك أمامهم أي مجال سوى تبني ثقافته واعتناق عقيدته وتمثل قيمه الإنسانية العليا، فاستسلموا لذلك دون مقاومة.

إن الشعوب التي يخفت في أعماقها ووجدانها صوت ثقافتها، وتنبهر أبصارها بوهج بريق ثقافة الغير، لابد أن تنهزم أمام الغير وأمام ثقافته، وانهزام الشعوب ليس بالضرورة انهزاما للثقافة التي كانت تحملها، فالثقافة القائمة على أسس سليمة وأركان صحيحة لا تنهزم لا في السلم ولا في الحرب، وإن كمنت إلى حين تحت ضغط عوامل خارجية طارئة ومؤقتة.

أما الثقافات الأخرى التي لا تملك مثل هذه الشروط والمقومات، فإنها سرعان ما تنهزم وتؤول إلى الزوال، مهما لمع بريقها في حين من الأحيان، ومهما روجت لها الأنظمة القوية المسيطرة عسكرياً واقتصادياً وسياسياً، فالحق لابد أن يسود والباطل لابد أن يمحى من الوجود.

يحصر محمد عابد الجابري أسباب الغزو الثقافي للثقافة العربية في أربعة أسباب:

أولاً: الواقع المتخلف ووجودنا في قائمة الدول والشعوب المتخلفة.

ثانياً: الغزو الإعلامي السمعي والبصري عبر وسائل الإعلام التي تهدد القيم والأخلاق وتغزو العاطفة والخيال.

ثالثاً: قصور العرب في تبني الحداثة أدى إلى قصور في العقل والتخطيط على جميع المستويات العلمية والثقافية والاقتصادية والسياسية على المستوى الوطني والقومي العربي وهذا مؤشر إلى عدم فهمنا واستيعابنا لأسس الحضارة المعاصرة.

رابعاً: إسقاط الحاضر على حساب المستقبل بكل ما يحمله من نقائص وإعادة إنتاج القديم على المستوى الاقتصادي والسياسي والاجتماعي والفكري أما المستوى الثقافي فهو متروك للسياسة تمارس عليه المراقبة والقمع وتسويد الصوت الواحد وهو صوت الجهاز الرسمي.

يقول ميشيل كيلو: لا يحق لنا الحديث عن غزو ثقافي ما دمنا مشاركين بفاعلية وجدية في الحوار مع أنفسنا وغيرنا، وقادرين على طرح الأسئلة على الذات والمختلف، وعلى امتلاك أنماط من التفكير الحر والمفتوح تتركز حول تاريخنا وحاضرنا ومستقبلنا، هويتنا وديننا، فلسفتنا ومجتمعنا، مفاهيمنا ومبادئنا، ما لدينا وما لدى غيرنا، ومؤهلين للإفادة من سوانا، مقتدين في سلوكنا بابن رشد، الذي رأى أن ما هو صحيح لدى غيرنا يجب أن نعتبره ملكاً لنا، بغض النظر عن اختلافنا أو اتفاقنا مع الجهة التي أنتجته . أما إذا افتقرنا إلى أدوات التفكير والمعارف الضرورية لزماننا ولحاجاتنا، وانغلقنا على أنفسنا واتخذنا موقف الخائف المرعوب على هويته ودينه، الرافض لأي احتكاك مع غيره، فإن وضعنا يكون أفضل الأوضاع بالنسبة إلى من يريد غزونا ثقافياً أو عسكرياً أو سياسياً، ونكون بلا حصانة أو مناعة، ثقافية كانت أو غير ثقافية، وندمر أنفسنا وثقافتنا من حيث نعتقد أننا نحميهما ونصونهما.

تتسابق قوى عالمنا منذ قرون الزمن وتتنافس مع بعضها، من لا يعرف كيف يمتلك شروط التقدم ويعزز مواقعه في هذا التنافس، يسقط، سواء غزاه الآخرون أو أبقوه على هامش التاريخ وخارجه، مثلما حدث لنا في فترات انحطاطنا، مع أن أحداً لم يقم بغزونا، ليس خوفاً من قوتنا، بل لأننا كنا جثة هامدة .

هذه هي القضية التي نواجهها، وإذا كان العالم يغزونا، فلأنه يعتقد بقدرته على التأثير فينا واحتلال عقولنا، فهو يغزونا ليضعفنا ويسيطر أو يهيمن علينا، فلا يمكن أن يكون لنا من رد فاعل على الغزو غير المزيد من الانخراط المدروس في العالم، وتعزيز مواقعنا المادية والروحية، الفكرية والعملية، فيه، ومنافسة بلدانه وأممه في شتى نواحي التقدم وجوانبه.

 بهذا، يمتنع الآخرون عن غزونا، ويتفاعلون معنا، لخيرهم وخيرنا، ويقلعون عن اعتبارنا فريسة سهلة يغريهم ضعفها بالتهامها، بل ونغزوهم نحن، إن هم فكروا في غزونا، ونثبت لهم أننا لسنا أولئك المذعورين المنطوين على أنفسهم، الذين لا يرون سبيلاً إلى مقاومة الغزو غير الخروج من عصرهم، والمزيد من إضعاف أنفسهم ومن تقديم الفرص لنجاح سائر أشكال غزوهم.

اظهرت الدراسة الموسومة (الغزو الإعلامي والانحراف الاجتماعي: دراسة تحليليّة لبرامج الفضائيات العربية)، التي اعدها الدكتور ياس خضير البياتي الأستاذ في كلية المعلومات والإعلام والعلاقات العامة بشبكة جامعة عجمان للعلوم والتكنولوجيا، ان وسائل الاعلام العربية شاركت بدور اساسي في تعميق الغزو الإعلامي الاجنبي، من خلال مدة ساعات البث للمواد الأجنبية، وبروز ظاهرة البرامج الواقعية او ما يسمي (تلفزيون الواقع) في بعض الفضائيات العربية من دون أن تأخذ بنظر الاعتبار قيم المجتمع العربي وتقاليدة وانماطه الاجتماعية.

ولاحظت الدراسة من خلال الاحصائيات العلمية الجديدة، بأن القاسم المشترك لبرامج القنوات الفضائية العربية هو المادة الترفيهية وافلام الجريمة والعنف والرعب والجنس، اي ان ثقافة الصورة تطغي عليها اكثر من ظاهرة سلبية تتمثل بالاغتراب، القلق، اثارة الغريزة، الفردية، العدوانية، دافعيّة الانحراف، سلطة المال والنساء، حب الاستهلاك، الأنانية، والتمرد، وكلها مفردات حيائيّة تتأسس في ادراك الشباب وسلوكهم ومعارفهم بحيث تتحول من صورة ذهنية الي نشاط عملي عن طريق المحاكاة والتقليد وعمليات التطبيع الاجتماعي.

وتوقعت الدراسة أن تنشأ مشكلات اجتماعية بفعل هذه الثقافة الإعلامية، يتأثر فيها الاطفال والمراهقون والشباب بنتائجها السلبيّة، فمن المحتمل ان تخلق برامج الفضائيات العربية الاضطراب الاجتماعي، وعدم الاستقرار في العلاقات العامة الاجتماعية، وتنمية الفردية والروح الاستهلاكيّة، والهروب من التصدي لواقع الحياة، والاستسلام له، وتوطين العجز في النفوس، واضعاف الروابط الأسرية وقيمها، وتعميق المشاعر الذاتية اكثر من الالتزام الجماعي، والانبهار بالموديل الأجنبي علي حساب الهوية الثقافية، وكذلك تراجع الانتماء وازدياد اليأس والاحباط.

ووجدت الدراسة ان القنوات الفضائية العربية، وبالذات الخاصة، بدأت تتسابق علي ارضاء الجمهور العربي، وخاصة الشباب، واجتذابه لهم باي صورة من خلال المواد الترفيهية التي تتعارض مع التنشئة الاجتماعية العربية ومقوماتها، خاصة في اشاعة النماذج الغربية من البرامج المستنسخة التي تحفل بأنواع فنون الاثارة الجسدية والغريزية وبمواصفات قد لا نجدها حتي في القنوات الفضائية الاجنبية.

واثارت الدراسة تساؤلات حول شيوع هذه لظاهرة الإعلامية في الحياة العربية وتوقيتها ، ووجدت بان العامل الاساسي هو التسابق غير المشروع علي جذب الشباب لأسباب تجارية مادية، ودخول المال العربي بشكل سلبي الي الانتاج الاعلامي والفني دون اعتبارات للواقع الاجتماعي بحيث اصبح الاستثمار في هذا المجال يأخذ مداه السلبي في تعميق ثقافة الاثارة. كما اشارت الدراسة الي ضرورة الانتباه الي هذه الظاهرة علي انها قد تحمل توجهات سياسية وفكرية ملغومة تريد تدمير الواقع العربي وثقافة المجتمع وقيمه.

وخرجت الدراسة بعدد من التوصيات ابرزها ضرورة الاعتراف بان انفجار المعلومات والمنجزات التقنية في زمن العولمة لا يلغي الحقيقة بأن الثورة الحضارية ينبغي استيعابها وتقبلها بوعي حضاري واستيعاب ذكي، بما يجعلنا قادرين علي الاستفادة منها. بمعني اقتناء المفيد من المعلومات والبرامج مادامت تخترق حدودنا ومجتمعنا بطريقة قسرية عن طريق تكنولوجيا الفضاء. مع اهمية تعميق وعي الشباب العربي وثقافته وممارسته للديمقراطية، وتعويده علي التعامل الحضاري مع المعلومة، وتعميق وعيه بإيجابياتها وسلبياتها، اضافة الي اهمية وضع خطة اعلامية من قبل الدول العربية تأخذ مسارين: خطة اعلامية لمواجهة الغزو الاعلامي والثقافي وخطة اعلامية لتحصين الشباب.

بمعني ان مواجهة الغزو لابد ان يستند علي خطة تتعلق بالطرق والوسائل الكفيلة للتقليل من طوفان المادة الاعلامية الاجنبية في التلفزيون العربي، ومحاولة منع ظاهرة البرامج الواقعية التي لا ترتبط بقيم المجتمع وثقافته، مع اهمية تحصين الشباب سياسيا واجتماعياً وثقافياً وتربوياً، وتعميق وعيّه بمضامين الغزو وسلبياته، وتطوير وسائل اعلامه الوطنية ومضامينه، واعطاء الشباب الفرصة للتعبير عن آرائهم وافكارهم وتطلعاتهم في وسائل الاعلام، واشراكهم في صنع القرار الإعلامي ومشاركتهم في انتاج برامجهم صناعة وكتابة وتنفيذا.

كما اكدت الدراسة على ضرورة جعل التراث العربي الإسلامي المعين الذي يستخدم كقاعدة عريضة تغذي الثقافة الاعلاميّة العربية، باعتبار أن له معطياته النفسية والقومية لتحجيم عقدة النقص الذي يسببه الغزو الأجنبي في نفوس الشباب، ومصدرا ثريا لمواجهة تحديات افرازات العولمة، وعاملا مساعدا لتشكيل تجانس ذهني وروحي بين شباب الامة.

كما قدمت الدراسة مقترحات لخطة علميّة وتطبيقيّة للمؤسسات الإعلامية العربية ولصناع القرار الإعلامي ورجال التربية والتعليم في كيفيّة مواجهة الغزو الإعلامي والثقافي وسبل المواجهة العلميّة لمضامينه ومصادره، وخطة لتحصين الشباب من خلال مناهج العلم تتضمن مقترحات عمليّة في بناء رسالة اعلاميّة قادرة علي حماية الشباب من الظواهر الإعلامية السلبية في الحياة العربية المعاصرة.

شبكة النبأ المعلوماتية- الخميس 20/كانون الثاني/2011 - 14/صفر/1432

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1432هـ  /  1999- 2011م