انسحاق الديمقراطية

ما بين مطرقة الأنظمة وسندان الإسلاموفوبيا

د. إبراهيم أبراش

ما بين مطرقة السلطة وسندان جماعات إسلام سياسي أنتجت ظاهرة الإسلاموفوبيا يتم سحق الأوطان والقوى الديمقراطية الحقيقية في العالم العربي. انسحاق الأوطان التي تشكل فضاء للحرية والمساواة والعيش الكريم لكل مكونات الشعب دون تمييز طائفي أو عرقي، وانسحاق القوى التي ناضلت لعقود للانعتاق من ربقة الاستبداد والتخلف والمتطلعة للحداثة والتقدم واحترام حقوق الوطن والمواطن وتحويل الشعب من ساكنة ورعايا إلى مواطنين وتحويل الأرض التي يقيمون عليها من محل إقامة إلى وطن يفتخرون بالانتساب إليه والعيش فيه.

كل مراقب لأوضاع العالم العربي خلال العقود الثلاثة الأخيرة سيلاحظ ارتكاسة الفكر والواقع العربي من فكر يدعو للتقدم والتحرر والوحدة العربية وتجاوز الدولة القطرية التي سموها الوطنية إلى فكر طائفي وقبلي أو وطني مأزوم يجاهد للحفاظ على تماسك الدولة الوطنية حتى في ظل استبداد أنظمة الحكم القائمة، هذه الأخيرة التي باتت تبرر استبدادها واستمرارها بالحكم بذريعة الحفاظ على الوحدة الوطنية ومواجهة التطرف الديني!. أرتكس الواقع العربي لمزيد من الفقر وتدهور العدالة الاجتماعية و لحالة من الفتنة والطائفية والإثنية تتعايش بل تتعاظم في ظل ما يسمى بالانتقال الديمقراطي والانتخابات التي تحولت لأداة لشرعنة الطائفية والإثنية والاستبداد وتأكيد حضورها كحقيقة يجب التسليم بها.

 المراقب للانتخابات التي جرت خلال العقدين الأخيرين سواء من حيث القوى المتصارعة على السلطة أو الفائزة في الانتخابات سيلمس ضعف حضور القوى السياسية – أحزاب وشخصيات- الوطنية والقومية التي كان لها دور الريادية في مواجهة تسلط الأنظمة، حيث باتت الحياة السياسية اليوم شبه ثنائية قطبية، النظام السياسي وحزبه ونخبه من جانب وجماعات الإسلام السياسي من جانب آخر، المراقب سيلمس ضعف الروح والفكرة الوطنية الجامعة عند الأطراف الكبرى المتصارعة على السلطة.

لم تكن الحياة السياسية العربية أرضا يبابا تسودها الدكتاتورية والاستبداد والجهل قبل ظهور جماعات الإسلام السياسي وصراعها مع أنظمة الحكم القائمة. لعقود والديمقراطيون الحقيقيون يناضلون بكل أشكال النضال ضد أنظمة الاستبداد بكل تلاوينها الرجعية اليمينية و(الثورية التقدمية)، من المغرب إلى مصر وسوريا والعراق ومن عُمان إلى السودان والصومال. ربما لم تكن الديمقراطية العنوان الأبرز للمناضلين الأوائل، ولم تكن الانتخابات الوسيلة الوحيدة لمقارعة السلطة الحاكمة ولاختبار قوة الحضور الجماهيري، ولكن نضالاتهم كانت تصب في جوهر النضال الديمقراطي ما دامت من أجل الحرية وضد الاستبداد، لقد سيِّروا المظاهرات وقاموا بالاعتصامات وحملوا السلاح أحيانا ودخلوا السجون والمعتقلات واستشهد كثيرون دفاعا عن كرامة وحرية الوطن والمواطن.

خلال هذه المسيرة الطويلة الممتدة ما بعد الاستقلال مباشرة حتى نهاية الثمانينيات راكم المناضلون إنجازات مهمة حيث ساهمت في إثارة الرأي العام وخلقت حالة من الوعي الجماهيري دفعت الأنظمة لتخفيف قبضتها الأمنية و للتفكير بمصالحة قوى المعارضة ومحاولة استمالتها.

خلال هذه المسيرة لم تكن جماعات الإسلام السياسي جزءا من الحركة النضالية الشعبية التقدمية والديمقراطية المتصادمة مع أنظمة القمع والاستبداد. بعض الجماعات الإسلامية كحزب التحرير وبعض فروع الإخوان المسلمين دخلت بمواجهات ساخنة مع أنظمة عربية ولكنها لم تكن تندرج ضمن النضال الديمقراطي بل كانت أقرب لمحاولات الانقلاب على السلطة للهيمنة عليها وتطبيق الإيديولوجية الدينية لهذه الجامعات وهي أيديولوجيا غير متصالحة مع الديمقراطية بل كانت آنذاك تنظر بريبة للديمقراطية والديمقراطيين.

كانت نقاط التباعد ما بين جماعات الإسلام السياسي وأنظمة الحكم لا تقل عن نقاط التباعد بينها وبين القوى التقدمية والديمقراطية، وفي كثير من الحالات كانت الجماعات الدينية تأخذ موقع المحايد المراقب لما يجري من تصادم بين الأنظمة ومعارضيها من السياسيين، وبعضها كان اقرب لمواقف الأنظمة لأنها لم تكن تؤمن بالديمقراطية وثقافتها وأحيانا كانت تنظر للقوى الديمقراطية باعتبارها علمانية وكافرة، وقد وظفت بعض الأنظمة جماعات إسلامية لمحاربة معارضيها التقدميين والديمقراطيين. صحيح أن جماعات الإسلام السياسي وخصوصا الإخوان المسلمين واجهت في بعض المراحل الأنظمة وعانت من الأنظمة وكانت تريد تغيير الوضع القائم ولكن لم يكن واردا عندها تأسيس نظام ديمقراطي يؤمن بالمشاركة والتعددية السياسية، كانت تريد إحلال استبداد أنظمة وضعية باستبداد أنظمة دينية، ومن هنا لاحظنا أن جماعات الإسلام السياسي لم تدخل في تحالفات ثابتة مع القوى السياسية الديمقراطية والتقدمية في أي دولة عربية، وكنا وما زلنا نسمع عن القوى الإسلامية والقوى الوطنية أو القومية، ونسمع عن الصحف الإسلامية والصحف الوطنية والقومية، لم يكن مفهوم الوطن والهوية والثقافة عند الجماعات الإسلامية يتوافق مع مفهومهم عند القوى الوطنية والقومية والتقدمية –ما لاحظناه أخيرا في مصر من تنسيق بين الأخوان المسلمين وقوى تقدمية ووطنية بعد الانتخابات لا يعدو كونه ردود فعل انفعالية على نتائج الانتخابات أكثر مما هي مؤشر على تحالف دائم -.

في السنوات الأخيرة طرأت متغيرات فرضت على الأنظمة العربية التعامل مع الاستحقاق الديمقراطي، واهم هذه المتغيرات:

 1)انكشاف شرعية أنظمة الحكم بسبب تآكل شرعيتها التقليدية من دينية وثورية،

2) سقوط ذريعة رفض الديمقراطية وكبت الحريات حتى يمكن التفرغ لمواجهة إسرائيل ومواجهة المؤامرات الاستعمارية حيث باتت الأنظمة ملتزمة بإستراتيجية السلام مع إسرائيل وباتت واشنطن والغرب حلفاء وأصدقاء،

3) تلمس الجماهير خطاها على طريق الحرية والإدراك لحقيقة أوضاعها المتردية،

4) الخشية من وصول القوى الديمقراطية الحقيقية لسدة الحكم في وقت باتت المصالح الغربية في المنطقة متعاظمة بشكل غير مسبوق ومهددة في نفس الوقت من جماهير تعادي الغرب ومصالحه. تزامن مأزق الأنظمة ورغبتها بتجديد شرعيتها مع تغيير في إستراتيجية الولايات المتحدة الأمريكية وقوى أوروبية في التعامل مع منطقة الشرق الأوسط والعالم العربي على وجه التحديد، حيث وجدت هذه القوى أن الدعم المباشر للأنظمة والحكومات الاستبدادية يضر بمصالحها في المنطقة ومن هنا رأت أهمية الدخول للمنطقة من بوابة أخرى، فبدأت بالحديث عن انتهاكات حقوق الإنسان وغياب الديمقراطية في الشرق الأوسط وخصوصا في العالم العربي مطالبة بتسريع الانتقال نحو الديمقراطية مع التركيز على العملية الانتخابية. لم يكن هدف واشنطن والغرب دمقرطة العالم العربي بل مواجهة المد الأصولي وحالة التمرد على الوجود الأمريكي في المنطقة وخصوصا بعد احتلال العراق، وانحياز واشنطن لإسرائيل.

ما يبدو حراكا ديمقراطيا في العالم العربي يخفي دوافع غير ديمقراطية عند القوى الرئيسة الكبرى في هذا الحراك، حيث يتم نزع راية النضال الديمقراطي ومصادرة الفكرة الديمقراطية المنبثقة من الإرادة الحرة للشعب بالتغيير الديمقراطي من يد الديمقراطيين الحقيقيين لتتسلمها أو تستلبها أطراف تقول بالديمقراطية ولا تؤمن بها.

الديمقراطيون الحقيقيون في العالم العربي يُحاصَرون اليوم من ثلاثة قوى: أنظمة الحكم ونخبتها، جماعات إسلام سياسي لا تؤمن بالديمقراطية، واشنطن ورؤيتها لديمقراطية تخدم سياسة (الفوضى البناءة) في المنطقة. لا شك أن الجماعات الإسلامية ليست على نفس الدرجة في اقترابها من الديمقراطية وبالتالي ليست على نفس الدرجة في صدقها بالدخول في العملية الانتخابية.

بعض جماعات الإسلام السياسي وطَّنَت أيديولوجيتها الدينية وعقلنت خطابها بحيث بات أكثر تسامحا وقبولا بالآخر، هذه الجماعات تقبل مبدأ الشراكة السياسية ومستعدة للعودة لصفوف المعارضة إن خسرت الانتخابات، إلا أن جماعات أخرى دخلت الانتخابات بروح جهادية أو بعقلية الغزو والفتح، دخلت الانتخابات ليس إيمانا بالديمقراطية ولكن كوسيلة للسيطرة على السلطة بعد أن فشلت في الوصول إليها بوسائل أخرى، ولذلك نجد هذه الجماعات توظف كل ما لديها من إمكانيات مالية ولوجستية وخطاب ديني متشنج لكسب الانتخابات وفي حالة نجاحها لن تسمح بانتخابات أخرى.

ومع ذلك فإن ما وصلت إليه الأوضاع العربية من انسداد أفق على كافة المجالات وما وصلت إليه الأنظمة من ترهل ومن تباعد عن مصالح الجماهير الشعبية يتطلب إفساح المجال لكل القوى السياسية للمشاركة في الحياة السياسية لأنه لا يُعقل أن تكون شعوبنا عاقرا وغير قادرة على إنتاج قيادات جديدة ونخب جديدة، فعقود من النضال السياسي متعدد الجبهات والانفتاح غير المسبوق على العالم الخارجي جعلت الجماهير العربية أكثر إدراكا ووعيا لمصالحها وحقوقها وأكثر جرأة على مقاومة الطغيان وما يجري في تونس والجزائر ومصر والسودان واليمن مؤشر على الثمن الذي يمكن أن تدفعه الأنظمة إن تجاهلت مصالح شعوبها وأعاقت الممارسة الديمقراطية الحقيقية وهو ثمن ستدفعه أيضا الدولة الوطنية ليس فقط كنظام حاكم بل كوجود.

صحيح أن خطاب وشعارات بعض جماعات الإسلام السياسي تثير القلق بل والرعب، ولكن الغرب الاستعماري وأنظمة الحكم يضخموا وبشكل مبالغ فيه من خوف الجمهور من هذه الجماعات ليس دفاعا عن المصلحة الوطنية أو لان هذه الجماعات تشكل بالفعل تهديدا للمصلحة والوجود الوطني بل لخوف الأنظمة ونخبتها من فقدان مواقعها وامتيازاتها، كما أن الأنظمة توظف فزاعة الإسلام السياسي –الإسلاموفوبيا- لقطع الطريق حتى على القوى التقدمية والديمقراطية الحقيقية.

لقد رأينا كيف أن الخاسر في الانتخابات الأخيرة في مصر وقبلها الأردن والمغرب والكويت والعراق ليست جماعات الإسلام السياسي فقط بل كل القوى الديمقراطية الحقيقية ومجمل المسار الديمقراطي.

Ibrahem_ibrach@hotmail. com

شبكة النبأ المعلوماتية- الثلاثاء 11/كانون الثاني/2011 - 5/صفر/1432

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1432هـ  /  1999- 2011م