سيطرت ذكرى استشهاد الإمام الحسين، في هذه الايام، في الحادثة
التاريخية المعروفة بواقعة الطف، على فضاءات المشهد الاسلامي الذي
عُدّت فيه، براي المختصين، مفصلا مهما من مفاصل التاريخ العربي،
ومَعلما هاما من معالم صيرورته، وتجليا واضحا ومؤثراً على مسارات الخط
البياني الاسلامي واحداثه المرتسمة خريطتها بشهادة الحسين التي أضحت
نقطة وعلامة فارقة في الوعي والادراك الإسلامي القديم والحديث.
وفي كل سنة وخلال هذا الشهر تتقاطر المقالات والدراسات من كل حدث
وصوب وفي لغات متعددة لتتحدث عن حادثة استشهاد الإمام بطرق وأساليب
متنوعة وعبر قراءات وتفسيرات مختلفة بل وحتى تأويلات جديدة لما جرى وما
أراد أن يوصله الأمام للأمة والدروس والعبر التي يمكن أن تستفيد منها
الأجيال المقبلة فضلا عن الدلالات التي تشير لها الحادثة بمجملها وعلى
أصعدتها ومستوياتها الكثيرة.
واحدى هذه المقالات التي لفتت انتباهي في هذه الفترة هي مقالة احد
طلاب الدراسات الدينية في جامعة كمبردج وهو السيد علي خان الذي نٌشرت
في صحيفةTimes of India بتاريخ 17-12-2010 بعنوان " تجسير الانقسام
الكبير" تحدث فيها عن الاثار الكبرى التي تترتب على شهر محرم في الهند
وكيف يخلق نوعا من الوحدة الوطنية والدينية تحت راية الامام الحسين
الذي تعمل ذكراه، في الهند، على تجسير الهوة والخلافات بين افراد
يختلفون في المذهب والدين مما يرسم خريطة رائعة لمواطني هذه الدولة
التي تشق طريقها بهدوء لتكون في مصاف دول العالم الكبرى.
يقول الباحث السيد علي خان في مقالته أن العناوين البارزة حول
العالم تعلن، في غالبيتها، عن وصول شهر محرم مع قصص اراقة الدم.
فالعراق وباكستان على الخصوص تعد من اخطر الاماكن التي تكون المشاركة
في مسيراتها، من اجل احياء ذكرى استشهاد الامام الحسين، مكافئة للمشي
في ساحة حرب.
وعلى الرغم من ذلك فان الناس مازالوا يأتون، ليس فقط في هذه الدول
بل في اماكن اخرى مستبعدة من الاحتمال، لكي يتذكروا تضحية الامام
الحسين قبل حوالي 1300 عام، وتعد قرية Mahmudabad الموجودة على اطراف
مدينة Lucknow، هي المكان الذي تدندن فيه الناس حول محرم بفعالية ونشاط
على الرغم من كون الشيعة اقلية فيها.
ويشير السيد خان الى ان الجو اصبح اكثر مشحونا ونحن نتقدم باتجاه
العاشر من محرم لان الامام الحسين واصحابه قد قُطع عنهم الماء ثلاثة
ايام قبل المعركة. وعندما تمشي حول القرية تجد الناس يعرضون كؤوساً من
الماء وعصائر من الفاكهة المثلجة او اكوابا من الشاي الساخن في ذكرى
شهداء كربلاء، وبصورة طبيعية نرى الدخلاء يقبلون بكرم هذه العروض
ويتحركون بدون ان يدركوا، خلافا لما حدث في Lucknow التي كان لها نصيب
من العنف الطائفي، ان الكثير ممن يعرض هذه المشروبات لعابري السبيل هم
من اهل السُنة والهندوس. والناس غالبا مايصرحوا بان الذي يحدث هو نتيجة
لديمقراطية الهند لكن في الحقيقة ان هذا الامر ليس له علاقة بالسياسة
الحديثة.
ويوضح خان حقيقة مهمة تتعلق بالاصل التاريخي للاحتفال بمحرم في
الهند وفيه يقول " من المحتمل ان اول الهندوس الذين شاركوا في محرم
وقاموا بخلق ذاكرة واعية حوله بينهم هم طائفة Hussaini Brahmins. فهم
يؤمنون بان اسلافهم قد شاركوا جنبا الى جنب الامام الحسين في كربلاء،
وهذا قد تم التنبأ بهذا من قبل Bhagavad Gita " وهي، والكلام لمهند
حبيب السماوي، " اغنية الهية" مقدسة تم تاليفها عام 200 قبل الميلاد
وتم دمجها في الـ(Mahabharata) وهي قصيدة سنكسريتيه تحتوي على مناقشات
بين Krishna وهو اله للهندوس وبين (Arjuna) وهو امير مقاتل، حول
الطبيعة البشرية والغاية من الحياة ".
ويعقب خان على الراي المتعلق بالهندوس ومراسم العزاء الحسينية بقوله
" وفيما لو كان هذا التفسير مبرر او غير مبرر فانه قد يُقصى بواسطة
حقيقة تؤكد على ان مجموعة من الناس ومن تقاليد مختلفة تماما في تطورها
التاريخي اختارت ان تفهم رسالة كربلاء بصرف النظر عن اختلافتها الدينية
والمذهبية".
ويعقب خان " وربما لهذا، على الرغم من الظروف الطائفية السيئة
لمسيرات محرم في اجزاء عديدة من العالم، نجد الهند، وعلى الخصوص الهند
القروي، تتعاضد سوية في هذا الوقت لكي تتذكر الطبيعة العالمية للتضحية
التي قدمها الامام الحسين وعائلته واصحابه".
ويستطرد خان في الحديث عن تفاصيل محرم في الهند فيؤكد انه في صباح
الثامن من محرم، تأخذ المسيرات طريقها خلال القرية قبل ان ترجع بصورة
نهائية الى القلعة في الليل. ولكي تكون الذكرى اكثر الماً، نرى ان ايام
محددة تُعيّن لمختلف الشهداء، فالثامن من محرم يُحيّي ويستذكر العباس
بن علي ابن عم الامام الحسين ( وهنا يخطأ خان فالعباس اخوه) الذي كان
حاملا علم جيش الامام الحسين، وكان يحاول ان يحصل على الماء من الفرات
بعد ان وجد ان الامر لايطاق وهو يشاهد عطش الاطفال، وبعد ذلك قتل
العباس قرب ذلك النهر.
وعندما تعود المسيرات نرى مختلف بيارق الحرب من المدينة تنضم
للنائحين. وكل سنة نرى ان اطول واثقل بيرق، بعضها طوله 50 قدم، يُحمل
من قبل شاب وهو يسير باتجاه الازقة الضيقة والكثير من هذه البيارق يحمل
من قبل الـ Dalits وهي الفئات الطبقية الطقوسية الاقل شانا.
وعندما يصل الناس الى Imambara وهي الغرفة التي تقام فيها التعزية
التي بُنيت على شكل نسخة مطابقة لضريح الامام الحسين، نراهم يوزعون
عصائر الفاكهة التي تكرس لذكرى الشهداء. ولان محرم هذه السنة ابتدأ في
شهر الشتاء فان العديد من الناس لايختار تناول العصائر الباردة، حيث
يتردد الرجل وهو يستلم قدح العصير ويقول بانه لايرغب ان يصاب بالتهاب
حنجرة، وهو يشرب احيانا بخجل بعد أن يقول له احد شباب الـ Dalit بان
العصير مبارك بواسطة (بابا الحسين).
ويمضي خان في القول انه في ليل التاسع من محرم نجد الناس الذين
يتقبلون التعزية يبقون طيلة الليل متكفلين بالمحافظة على عدم انطفاء
شموعهم واستمرار بخورهم بالاحتراق. وقد ذهبت، أي خان، الى افقر جزء من
القرية وقيل لي بانها كانت منطقة ذات غالبية سنية، وعندما كنت امشي
سابقا كنت اشاهد مياه القاذورات مكشوفة وعلامات اخرى من الاهمال
البلدي، والرائحة المميزة الوحيدة كانت رائحة البخور. ورجل ملتحف
ببطانية في عربته وقرب رأسه تحترق شمعة.
ثم يشير خان الى احدى اهم التقاليد الجديرة بالملاحظة في هذه الليلة
أن المرأة الهندوسية تتضرع من اجل الأطفال حيث تقوم، بعرض مدهش
للايمان، بالمشي حافية القدمين طيل الليل بدون ان تتوقف للاكل او الشرب
او الحديث، والناس يستمرون بانشاد التأبين في ذكرى الامام الحسين خلال
الليل ويذهبون للبيوت حيث تقام التعزية.
في نفس غرفة الـ Imambaras نجد بعض النساء تتوقف لكي تزيّن شعرها
بزيت موجود بقنديل يحترق قرب المدخل، وفي اليوم التالي تمسك مجموعة من
هذه النساء بعضهن البعض ويعرجون باتجاه كربلاء، أي الى النسخة التي
قلنا انها طبق الاصل من الضريح الموجود في العراق، وهو يمشون لحوالي 17
ساعة. وعلى نحو قريب يخترق الهواء الصوت الجهوري لرجال اعمال سنة
بارزين وهو يترنم بلحن حزين يعترف بمآثر الشهداء.
ويصل خان الى استنتاج مهم وهو انه وعلى الرغم من الاختلافات الدينية
الواضحة، فان هنالك لغة رمزية مشتركة تتردد مع الناس بغض النظر عن
عقائدهم. فمحرم ربما له معاني مختلفة بالنسبة للشيعة والسنة والهندوس
وربما لكل منهم عادات خاصة للاحتفاء به، لكن الفكرة الاساسية للتضحية
تضل ترّن ومايزال صداها مستمرا مع كل مجتمع وبالتالي تجعلهم يجتمعون
سوية.
[email protected] |