عبر صفحات التأريخ تعرّض العراقيون الى إرهاصات سياسيّة، كثيرة في
عددها طويلة في أمدها وثقيلة في بأسها وتأثيرها على النفوس والأفكار،
وقد بلغت هذه الإرهاصات المؤلمة القدح المعلّى في ذروتها وشدتها في
العقود الثلاثة الأخيرة. وهكذا نستطيع تصنيف طبيعة معاناة العراقيين
المعاصرة طبقا لمراحل الأحداث السياسيّة وطبقا لطبيعة المؤثرات الى
نوعين من المعاناة: معاناة في مرحلة ما قبل الإحتلال ومعاناة في مرحلة
ما بعد الإحتلال الأجنبي للعراق.
في المرحلة الأولى، عانى العراقيون من تأثيرات الإضطهاد السياسي
ومن مردودات الحروب الطويلة ومن آثار ومضاعفات الحصار الإقتصادي، بينما
عانوا من نتائج الإحتلال الأجنبي للبلاد ومن الإرهاب ومن عوارض الترهل
السياسي والفساد المالي والإداري الذي صاحب المرحلة الثانية.
صور المعاناة في المرحلة الأولى كانت مرسومة على صفحات ثالوث العقد
الإجتماعيّة وهي: الخوف والعتمة والحرمان. العراقي كان يخشى بطش السلطة
به وبأهله وبأصدقائه كما كان يخشى المصير المجهول ويخشى الفقر ونتائجه
الثقيلة. لقد كان محاطا بهالة سوداء وعتمة حضارية قاتمة أبعدته كثيرا
عن الحركة العلمية والتكنولوجية العالمية فصار يعيش خلف حضارة عصره.
كان الحصار الإقتصادي من الخارج والحصار الجسدي والنفسي والفكري من
الداخل قد لعبا دورا هاما في صناعة الحرمان وتجريد المواطن العراقي من
أبسط حقوقه في الحياة الحرة ومن المستلزمات الضروريّة للعيش الرغيد
والرفاهية المطلوبة من أجل النشوء الجسدي والنفسي والعقلي المتوازن.
لم تتغيّر حالة العراقيين في المرحلة الثانية أي في مرحلة التغيير،
بل بقت كما هي حيث تغيّرت الأشكال دون المضامين. فمخاوف الناس من بطش
السلطة تحوّل الى مخاوف من بطش الإرهاب ومخاوف من بطش النعرات الطائفية
والقوميّة وكذلك من الغلو والتطرف في التصرف والتفكير. امّا العتمة
الفكريّة والحضارية التي سببها الحصار فقد تحولت الى عتمة بسبب إستشراء
العادات والتقاليد البالية وتفشي المفاهيم الساذجة. والحرمان الذي عصف
بالعراقيين في المرحلة الأولى إمتد واستمر بسبب الترهل العام في أركان
الدولة ونواصيها وغياب الرجل المناسب عن مكانه المناسب، مما لم يوفر
ذلك للعراقيين ما كان مفقودا في المرحلة السابقة.
أثّر ثالوث العقد الإجتماعيّة (الخوف،العتمة،والحرمان) تأثيرا بالغا
ومباشرا على طبيعة المعادلة في "ميزان الرفاه الإجتماعي" عند العراقيين.
هذا الميزان يتركب من كفتين، الكفة الأولى هي كفة الأحاسيس الموجبة
التي يسعى لكسبها الإنسان والكفة الثانية هي كفة الأحاسيس السالبة التي
يسعى الى تجنبها والتخلص منها. عناصر الأحاسيس الموجبة المتمثلة
بالرخاء المادي والراحة النفسيّة كفيلة بجلب السعادة والمتعة والفرح
للإنسان، وعناصر الأحاسيس السالبة المتمثلة بثالوث الخوف والعتمة
والحرمان كفيلة بجلب الحزن والألم والبؤس للإنسان. فكلما كانت كفة
الأحاسيس الموجبة هي الغالبة في ميزان الرفاه الإجتماعي كلّما إزدهر
المجتمع وتطور وقلت إحتمالات إصابته بالأمراض الإجتماعية المختلفة،
وكلّما طغت الأحاسيس السالبة في معادلة ميزان الرفاه كلّما تباطأ تطور
المجتمع واختلت حركة تقدمه وازدهاره وتصاعدت إحتمالات إصابته بأمراض
إجتماعية متنوعة. كفة المعادلة في ميزان الرفاه الإجتماعي عند
العراقيين كانت لصالح الأحاسيس السالبة دون شك، بسبب الخوف المستمر
والعتمة الدائمة والحرمان المزمن.
طبيعة الأمراض الإجتماعية التي تضرب أي مجتمع من المجتمعات تعتمد
إعتمادا مباشرا على طول فترة المعاناة من جهة وعلى طبيعة المؤثرات
السلبية التي تؤثر على ذلك المجتمع من جهة أخرى. فالخوف المستمر من
كيان معيّن قد يؤدي الى حصول ظواهر إجتماعيّة مرضية مختلفة، كالكذب
والنفاق والحقد والتمرد وإزدواج الشخصيّة وغيرها. بينما العتمة الفكرية
قد تقود الى الجهل والتخلف والضلالة وشيوع العادات والتقاليد والأعراف
والممارسات غير الحضارية.
أما الحرمان فقد يؤدي الى تحفيز ظواهر إجتماعية غير حميدة مثل:
الجشع وحب الأنا والغيرة والقسوة والكراهية والشعور بالنقص والبخل
والتزوير والإختلاس والفساد الأخلاقي وغيرها. الكثير من أعراض المجتمع
المرضية، إبتداءا من وهم العظمة الإجتماعي "جنون العظمة" وإنتهاءا
بجرائم القتل، قد تكون ناشئة عن إشتراك عنصرين على الأقل من عناصر
ثالوث العقد الإجتماعيّة.
من الظواهر المرضيّة الإجتماعيّة التي تضرب المجتمع بسبب الإشتراك
بين عناصر العقد الإجتماعيّة مع بعضها هو ظاهرة المبالغة والغلو
بالمفاهيم وبالتصرفات، خصوصا تلك التي تتعلق بالأمور الإعتقادية
والعقائديّة. فكثير من الناس وفي ظروف إجتماعيّة خاصة قد ينزلق في هوّة
المغالاة في الممارسات الدينيّة والطقوس والأعراف العقائديّة، مما قد
يشغله ذلك عن واجباته اليومية الضروريّة وعن متطلبات عمله وهذا قد يؤدي
بالنتيجة الى تباطؤ في حركة المجتمع والى شل عملية تطوره وازدهاره. قد
تصل درجة الغلو في المفاهيم عند البعض الى الكراهية والتنافر الإجتماعي
والإحتراب أو ربما تصل الحالة الى إنتهاج الأساليب الإرهابية المشينة.
الغلو في المفاهيم هو تعبير واضح لحالة العتمة الفكرية والحضارية التي
تعاني منها بعض المجتمعات وهي ردة فعل صريحة لمعاناة داخلية حقيقيّة
سببها الحرمان واليأس.
الكثير من الأمراض الجسديّة والنفسيّة والعقلية قد تكون حصيلة أخرى
من حصائل ثالوث العقد الإجتماعيّة، وهذه الأمراض بحد ذاتها قد تشكل
معضلة إجتماعية إن إنتشرت وترعرعت في أي مجتمع من المجتمعات. الأمراض
المعدية والسارية كالكوليرا والسل والجرب وغيرها قد تنتشر وتزداد في
هذه المجتمعات أكثر من غيرها لعدم توفر الخدمات الصحيّة الضرورية
ولوجود البيئة الملوثة ولغياب الوعي الصحي والإرشادات الصحية المناسبة.
هذه الأمراض المعدية بحد ذاتها تعتبر علل إجتماعية لأن المصاب بمرض
السل أو الجرب، على سبيل المثال، قد يكون مهمشا في مجتمعه بسبب طبيعة
المرض من جهة وبسبب خوف الناس منه من جهة أخرى. كلما إزدادت هذه
الأمراض بالإنتشار إزداد التهميش لشريحة مهمة من الناس في المجتمع. كما
أن من يصاب بأمراض مزمنة وخطيرة، أيّا كان نوعها، يصبح عبئا إجتماعيّا
وإقتصاديا على مجتمعه بسبب قصوره في إداء مهامه الحياتيّة والوظيفية من
جهة وبسبب تكاليف العلاج والمتابعات الصحيّة من جهة أخرى.
الحسابات نفسها تنطبق على الأمراض النفسيّة المنبعثة من الخوف
والعتمة والحرمان، كالقلق النفسي ومرض الكآبة الإنفعالي. فالكئيب مثلا
لن يريح أهله وأصدقاءه ومجتمعه ولن يكون عاملا ماهرا في وظيفته وفي
اختصاص عمله، وهذا ما قد يخلق خللا إجتماعيا واضحا إن كثرت حالاته.
القلق النفسي والكآبة إن إستشريا في أي مجتمع من المجتمعات فإنهما
سيزيدا من زخم الأحاسيس السالبة في ميزان الرفاه الإجتماعي مما يؤدي
الى إبطاء واضح في حركة المجتمع وتقدمه. بسبب هذه الأمراض وبسبب
المعاناة المزمنة من الأزمات المختلفة قد تتضخم ظواهر خطيرة أخرى في
المجتمع كظاهرة الإدمان على المخدرات أو على المشروبات الكحوليّة مما
قد يشكل معضلة إجتماعية ليس من السهل معالجتها أو التعامل معها.
السؤال الذي يطرح نفسه هو: ما هو الحل الناجع والعملي لتغيير الحالة
في المجتمع وما هو العلاج الذي يجب وصفه وتوصيفه لإعادة الموازنة ؟.
الجواب النظري لهذا السؤال هو جواب المنطق الذي يقول بأن العلّة يجب أن
تعالج بمسبباتها. علاج الأسباب يعني علاج الحالة وعلاج الحالة يعني قلب
دفة ميزان الرفاه الإجتماعي وجعل كفة الأحاسيس الموجبة تطغي على
الأحاسيس السالبة أو على الأقل توازيها. وهذا يعني بطبيعة الحال، فك
عقد المجتمع المتمثلة بالخوف والعتمة والحرمان ومعالجة مصادرها.
هذا العمل الجبار يتطلب إرادات حقيقيّة جادة ومنهج علمي صحيح
ومدروس من قبل أهل الإختصاص ومنفذون مخلصون من أهل الكفاءة والخبرة
تتاح لهم فرصة العمل والإصلاح، وكذلك بيئة مناسبة للتغيير والمعالجة
خالية من المعوقات والعقبات. هذه الأمور وان كانت صعبة التنفيذ إلاّ
أنها ممكنة وغير مستحيلة ان صدقت النيّات وتحفزت العزائم والإرادات. |