تحولات البطل

صلاح حسن الموسوي

اثأر النجاح الذي حققه الفيلم الروائي الأمريكي (شامبو) الكثير من الجدل والنقاش في أوساط النخبة والجمهور الأمريكي، ومصدر الإثارة في هذا الفلم الذي عرض في سبعينيات القرن الماضي دور البطولة الذي تجسد في شخصية (الحلاق النسائي) وشدة الاستجابة والتماهي للجمهور مع هذه الشخصية العادية والدخيلة على إيقونات البطولة الحربية والرومانسية في أفلام هوليود، فعلى سبيل المثال عّبر الرئيس كلينتون في إجابة لاستطلاع حول السينما الأمريكية عن إعجابه لشديد بفيلم (بعد منتصف الظهيرة) وهو من أفلام رعاة البقر أنتج في الخمسينيات ويظهر فيه قوة الفرد الأمريكي وعظمة ارادته في تحدي الصعاب.

وباعتبار السينما هي فن تسجيل الواقع بأقل قدر من التشويه بحسب تعريف المخرج الروسي أزيزنشتاين، فأن التغير في صورة البطل السينمائي تخضع للمتغيرات الحياتية الخاصة بالمستوى الاقتصادي والاستقرار الاجتماعي والسياسي، ولا يستغرب نجاح هذا النموذج في السبعينات كونها حقبة عرفت بالرفاهية العالمية وشيوع الاستهلاك السلعي في أوساط الطبقات الشعبية، ودائماً ما تكشف عدسات هوليود عن التناقض بين ما معروف عن البنية المؤسساتية المتطورة للحياة الأمريكية والتعلق الشديد بالبطل صاحب القوة الخرافية، بل تغلب الخرافة على طيف واسع من الشعب الأمريكي، والدليل كم الأفلام والمواضيع والسيناريوهات الخرافية التي تنتجها هوليود سنوياً، ولكن تبقى الحقيقة التي تشترك فيها جميع المجتمعات والشعوب، هي الاستحضار الأزلي لصورة البطل الحقيقي أو المنقذ وبطلان حضور البطل السينمائي (النجم) كبديل عن نماذج البطولة التي تتوق لها هذه المجتمعات انسجاماً مع معتقداتها وطموحاتها وقد كرسته عبر التاريخ بإبداع ملحمات الأدب كجلجامش والإلياذة والأوديسة وغيرها، وعبر الفنون العظيمة التي خلدت أبطالها عبر الزمن، وحتى عبر سير ذاتية قريبة كما في التأكيد الثقافي الرسمي الأمريكي على امتداد روح النجاح الرأسمالي الأميركي الحالي إلى البدايات الشجاعة والنبيلة لأجداد العوائل الرأسمالية الكبرى حاليا ومنهم القرصان الذي كان لا يهاجم قوافل المسافرين الأبرياء ولكنه يكمن لسفن القراصنة التي هاجمت هذه السفن ويستولي على غنائمها ليضيفها إلى ثروته، وهذا العمل يكتسب الشرعية الأخلاقية الكاملة وفق شريعة تراكم رأس المال والتسامي في فضاءات الحلم الأمريكي.

في العصر الحديث صارت تسمية البطل تدل على الشخصية في العمل الفني وصار النجم بديلاً عن البطل لأنه يداعب خيالات شرائح معينة من الجمهور، (ولكن البطولة في السينما بطولة مزيفة مصطنعة، يتخذها أشخاص هم في نهاية المطاف أدوات بين يدي المخرج ويمكن استبدالهم بسهولة )، وقد لجأ الكثير من السياسيين الفاشلين والفاقدين لمقومات الكاريزما وخصوصاً في العالم الثالث إلى التوسل بالأساليب السينمائية لاكتساب النجومية ومحاولة التأثير على عوام الناس، ومن ابرز هؤلاء (صدام حسين) الذي عانى من افتقاره لصفات العشرات من القادة والسياسيين الذين برزوا كأبطال لدى شعوبهم، حيث ساعد على ازدياد عددهم في القرنيين الماضيين، ولادة الايدولوجيا وازدهار نشاط حركات التحرر الوطني والقومي لدى مختلف شعوب العالم، ومن جهته لجأ ديكتاتور العراق إلى تصنع النجومية على طريقة الممثلين من خلال الإيماءات والإيحاءات واختيار الملابس ورش الرصاص فوق رؤوس الحضور بطريقة احتفالية، وأيضا الولع بأعداد أكثر من شبيه لصورته على نمط الأفلام عندما يؤتى بالبديل للمجازفة في أداء المشاهد الخطيرة نيابة عن بطل الفيلم الذي يعجز عن ذلك، وقد أستغل صدام إمكانيات الدولة وعلى مدار الزمن لديمومة هذه النجومية التي غررت وللأسف بنسبة لا يستهان بها من المواطنين العراقيين وجمهور الوطن العربي وخارجه، ولم تقتصر أثارها الوخيمة على هز أركان الثقافة العراقية وتحويل التفاهة والضحالة إلى ثقافة نخبوية بامتياز، بل قاد احتكار الديكتاتور لوسيلة الترفيه الأبرز في العراق (التلفزيون) إلى حرمان الناس من متع هذه الوسيلة وتنشئة جيل يعادي ويكفر بكل ما كان يتشدق به الطاغية حول الوطن والعروبة وفلسطين وبالتالي تخريب أرضية الهوية والانتماء لدى الجيل العراقي الجديد وصعوبة استيعابه ومجاراته للأحداث المتلاحقة التي صيّرت العراق ساحة مركزية للعب السياسي الدولي المعقد ومصالحه المتقاطعة والمتناقضة.

بفعل العولمة وطغيان ثقافة الصورة، اتسعت ظاهرة التعلق بـ (النجومية) في أوساط المثقفين والسياسيين وجاء انتشار الفضائيات بسباقها الربحي وأجندتها الثقافية والسياسية المعلنة والمبيتّه، على حساب الإبداع والعمق الفكري، الأمر الذي خرب الطريق الوحيد لتأسيس ثقافة منقذه للمجتمعات التي تعيش أزمات بنيوية حادة تهدد وجودها، حيث همش المبدعون الملتزمون بالمسؤولية الثقافية والسياسية، وتم تسويق السطحيين من محبي الظهور كموديلات خاصة بهذه القناة أو ذلك البرنامج.

في العراق فقدت النخبة الثقافية تنوعها الخلاق، وتعطل حراكها الداخلي بسبب انصهار معظم المثقفين العراقيين في الموجة الليبرالية الجديدة واستغراقهم في (بزنس) الفضائيات وحلم الجوائز الخارجية التي أمسكت بزمام هذه الثقافة وأصبحت صاحبة الكلمة الفصل في تقييم الأدب والفن العراقي، وفي السياسة أغدقت الفضائيات لقب (المحلل السياسي) على عشرات المحرومين من الوعي السياسي وكان حليفهم في النجاح وتسويق نجوميتهم الباهتة، التردي العام للثقافة السياسية داخل العراق بسبب الستار الحديدي الذي ضربه قمع السلطة البائدة وجريمة الحصار الدولي على تواصل أبناء الداخل العراقي مع المعرفة العالمية وتطوراتها.

 وعلى مستوى النخبة السياسية الحاكمة تؤشر ظاهرة التركيز والتفاخر والادعاء بالألقاب العلمية الفخمة سواءا بالحق أو بالتزوير، عن اهتزاز أقدام معظم هؤلاء في المكان أو المنصب الذي وجدوا أنفسهم فيه، واللجوء الملح للتزّين بألقاب (الدكترة) التي تمنحها الجامعات الأهلية في العراق أو المعادلة الكيفية لتحصيلهم الدراسي غير الأكاديمي خصوصا ( خارج العراق) بشهادات جامعية عليا، أملا بنجومية تبعث الثقة بالنفس وتعوض خواء التجربة السياسية للكثير من شاغلي المواقع الهامة بغير حق.

شبكة النبأ المعلوماتية- الاثنين 13/كانون الأول/2010 - 6/محرم/1432

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1431هـ  /  1999- 2010م