لا لقمع الحريات... نعم لتنظيمها

علي حسين عبيد

 

شبكة النبأ: الحريات كغيرها من المسميات والمفاهيم، لها حدود عليا، وأخرى دنيا، وينبغي أن تتسق جميع الحريات في أُطر واضحة، تنظمها قوانين وسنن وأعراف واخلاقيات متفق عليها، ولا يصحّ أن تصبح الحريات رديفا للتطرف الحاد، في حالتي الانغلاق أو الانفتاح.

في الحريات ثمة فوضى ونظام، وهاتان الحيثيتان كما يتضح تقعان على طرفي نقيض، فالنظام في حدوده القصوى، قد يتحول الى وسيلة للقمع، وهو أمر أطلعتنا عليه وقائع راهنة وتأريخية كثيرة، أما الفوضى في حدودها القصوى، لابد أنها ستتحول الى عبث لا طائل منه، ناهيك عن الاضرار التي ستنتجها.

هذا الكلام يذكرنا بمقولة شهيرة لبول فاليري يقول فيها (خطران يتهددان العالم، الفوضى والنظام) ولسنا هنا بصدد الخوض في مفاهيم النقد وما شابه، أو المقاصد البحثية لقائلها، ولكننا يمكن أن نستخلص من هذه المقولة، ذلك الخطر المزدوج للنظام والفوضى معا، في حالة خروجهما عن أُطر التنظيم القانوني والاخلاقي المتفق عليه.

العراق بعد سنة 2003 ليس هو عراق ما قبلها، والحريات الشكلية السابقة لا تشبه ولا تقترب من حريات مابعد هذا التأريخ، يمكنك أن تتخيل قفصا قاتما يُحشر فيه شعب كبير لقرون من التعسف والقهر والحرمان والتسلط، تبلغ ذروتها في العقود الاخيرة التي سبقت التأريخ المذكور، ثم في هبة واحد تتحطم أبواب وقضبان وجدران القفصن ليتحرر ذلك الشعب من سجنه، تُرى أية صورة يمكننا أن نتخيلها عمّا سيحدث بعد هذا الانعتاق المفاجئ؟ وأية نتائج ستتمخض عن حالات الانفلات الكلي للجميع، بعد قرون وعقود من الكبت والتكميم وغمط الحقوق؟

هنا لابد أن يتحطم النظام كليا، فبعد أن كان النظام في أقصى حالات التعسف والخطر، صارت الفوضى هي التي تهدد حياة الشعب، واذا كانت الصورة تقترب من صحة هذا التوصيف، فإن المطلوب بعد (اندحار النظام كليا وطغيان الفوضى) أن يلجأ المعنيون (رسميون وأهليون) الى تنظيم الفوضى، وتنسيق حالات الانفلات وترويضها، ووضعها في الاطر التي تحد من مخاطرها، وهو أمر ليس مستحيلا، فمن ذاق قسوة النظام وعرف خطورته وجرّب انعكاسته المفجعة، عندما كان نظاما متزمتا وقامعا، وذاق أيضا مساوئ الفوضى، وعرف اضرارها الفادحة، لابد أنه يعرف كيف يصحح المسارات التي تجنح الى التطرف في كل شيء، فلا النظام الموغل بالقسر والاجبار يصلح لنا، ولا الفوضى المنفلتة من كل تشريع تصلح لنا أيضا.

نحن نحتاج الى الحريات، وهي متنفسنا وحقنا الذي لانحيد عنه، ولاينبغي لأي عراقي أن يتنازل عن هذا الحق، الكل مطالب بحفظ الحريات، والدفاع عنها، (الليبرالي، والاسلامي، واليساري، والمحافظ، وغيرهم) الجميع عليهم أن يشتركوا بالحفاظ على الحريات، مع حضور التقاطعات الفكرية والعقائدية والسلوكية وغيرها.

ونمط حياتي كهذا، لايمكن أن يتحقق في ظل الإنفلات التام بحجة الحريات الشخصية وغيرها، كذلك لا يتحقق في ظل النظام المتزمت، الذي يصادر حقوق الآخرين بحجة صحته هو وخطأ الآخرين فكرا وسلوكا.

المطلوب أن يعرف الجميع طبيعة المرحلة الراهنة، وأعني بالجميع، كل المكونات التي يتشكل منها شعب العراق، وهذه مسؤولية النخب بأن تعرِّف المستويات الادنى بطبيعة المرحلة وخطورتها، وفي ضوء هذه المعرفة، تتحدد الأطر التي تنظم الحريات وتروّض النظام في آن.

بمعنى أننا لانريد حريات منفلتة بحجة (الدستور) وما شابه، ولا نريد نظام حياتي يُفرض علينا بالقسر والاجبار، ويعلن للجميع بأنه الصحيح والآخرين على خطأ، لانريد عودة الى الفردية والقهر والاجبار والنظام المتطرف، أيا كان نوعه أو مصدره، ولانريد حريات لاتعرف حدودها.

هذا بوضوح ما يلائم الجميع راهنا، وما ينبغي العمل عليه من لدن الجميع، أما من يريد أن يفرض فكره، او عقيدته، أو مساره الحياتي، قسرا على الآخرين، فهذا تحديدا ما ينبغي أن نتصدى له وبقوة، لا أحد بعد الآن قيّما على الآخر، سوى القانون، والسنن، والعرف، والاخلاق، وما يتفق عليه ذوو الشأن، وعامة الناس من خلال نخبهم.

 نحن نتطلع الى عراق حر منظّم في آن ولابد أن نعمل معا، لتحقيق هذا الهدف الكبير.

شبكة النبأ المعلوماتية- الأحد 12/كانون الأول/2010 - 5/محرم/1432

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1431هـ  /  1999- 2010م