مع إطلالة شهر محرم الحرام نرى التسابق والتنافس على إقامة
(التكيات) وإعادة تأهيل الحسينيات والمضايف في مدينة كربلاء المقدسة
لاستقبال أيام عاشوراء والمشاركة في إحياء ذكرى استشهاد الامام الحسين
عليه السلام، ويستمر هذا النشاط حتى شهر صفر حيث زيارة الاربعين.
والحقيقة فان أعمال النجارة والحدادة والانارة وغيرها تكشف للزائر
أن حدثاً غير عادياً تشهده المدينة، وإلا فانها في سائر الأشهر حالها
حال سائر المدن، فيها الشوارع المزدحمة بالسيارات والاسواق المكتظة
بالباعة والمتسوقين وكل مظاهر الحياة العادية، بل وتشابه اسلوب ونمط
تعامل الناس مع بعضهم البعض الى حدٍ ما طبعاً...
ومع انتهاء الموسم، أي مع انتهاء ايام شهر صفر ينتهي كل شيء، في حين
ان الشعارات التي تحملها المواكب وتهتف بها الآلاف من الجماهير
الحسينية القادمة من كل مكان، تحمل مفاهيم عميقة وبعيدة المدى، فهي
ليست من قبيل المطالبة بالكهرباء أو توفير فرص العمل او الحصة
التموينية، إنما تكريس قيم الحرية والعدالة والكرامة الانسانية ليس في
العراق وحسب وانما في جميع البلاد الاسلامية ثم في ارجاء المعمورة.
لأنه هكذا عُرف الامام الحسين، ووصلت قضيته الى اسماع (غاندي) محرر
الهند، كما وصلت الى اسماع المفكرين الغربيين والمستشرقين، كما وصلت
الى ضمائر وعقول الثائرين والمصلحين طوال أكثر من ألف وثلمائة سنة
الماضية، بل وادركت اهميتها وخطورتها الدول الاستعمارية بثوبها القديم
والحديث.
فاذا كان الحال كذلك، لابد ان تكون كربلاء المقدسة التي حُظيت بهذا
الشرف العظيم واصبحت قبلة الثائرين والمصلحين والاحرار في العالم، ذات
مظاهر خاصة تميزها عن سائر المدن حتى لا نكون بعيدين عن كلمات و توصيات
الامام الحسين عليه السلام، وابرزها ان نكون (أحراراً) في دنيانا لا
عبيد، طبعاً الحرية والعبودية مفهومان للثقافة الانسانية تأخذ مظاهرها
مع تطورات الزمن، فالانسان قبل اربعة عشر قرناً كان عبداً لانسان آخر،
أما اليوم حيث لا عبودية من ذلك النوع، لكن توجد عبودية للذات وما
تحمله من شهوات ونزوات ومصالح خاصة.
واذا نتحدث يوماً ما عن انتشار ظاهرة التخلّي عن العباءة عند المرأة
واستخدام مساحيق التجميل والعطور أو استخدام الصور غير المحتشمة لأغراض
تجارية، وغير ذلك من مظاهر الابتعاد عن الدين، فاننا بالحقيقة نشعر
بالمظلومية التي تلحق بالامام الشهيد وهو في مرقده بسبب عدم ادراك
الناس حقيقة نهضته وقضيته وسبب استشهاده، وحتى لا يقال لشخص أنت الذي
تعمل كذا.... او فعلت كذا... وكنت انت الذي يسير في المواكب الحسينية
ويطبخ الطعام ويسقي الزائرين الماء والشاي، (فما عدا مما بدا...)؟!
وينسحب الأمر على (عبيد الجاه والمنصب)، الذين ربما نجدهم في صفّ
عمر بن سعد او على نمط ذلك الذي انتزع الحُلي من احدى نساء الامام
الحسين وهو يقول: إن لم أسرق سيأتي غيري ويسبقني!! وهو غير عالم بأمره
ومصيره.
ان الامام الحسين والدين الاسلامي الذي ضحى من اجله مع اهل بيته
وحتى بابنه الرضيع، لا يقبل بالتناقض بتاتاً، وهناك نصوص صريحة و واضحة
في هذا المجال، (لا يطاع الله من حيث يُعصى)، أو (خذوا الدين كله أو
اتركوه كله).
نحن نقول كل ذلك؛ ونؤكد ليس من باب المديح والاطراء، بان كربلاء
المقدسة لها خصوصية تميزها عن سائر مدن العراق، وهذا ما يؤكده الجميع
ليس فقط الزائرين إنما حتى من يأتي للعمل او التبضّع، فهي تمتاز
بالانفتاح الثقافي والاجتماعي والاقتصادي، وليس أدلّ على ذلك (ماء
السبيل) الذي يميّز هذه المدينة المقدسة عن غيرها، ونحن لانريد ذكر
ذلك، لأنه بالحقيقة من بركات الامام الحسين عليه السلام، ومن يبادر الى
ذلك فهو حاملٌ للثقافة الحسينية ويؤجر على ذلك أحسن الأجر والثواب،
وحسابه عند الامام عليه السلام، لكن المهم السلوك ونمط التعامل
والعادات والتقاليد المكونة لمنظومة الثقافة العامة في المجتمع، التي
يجب ان تفرض نفسها ليس على الواقع الاجتماعي فقط انما على الواقع
السياسي والاداري في المدينة، لأن أي اجراء او تطور يحصل في أي مدينة
يعكس بدرجة كبيرة قناعات أهالي ذلك البلد. |