عمرو بن الحمق... جهاد مكلل بالشهادة

محمد الصفار

 

شبكة النبأ: سجل هذا الثائر البطل بدمه أروع صفحات الجهاد في التاريخ الأسلامي فحمل لواء الثورة والرفض بوجه الظلم الأموي غير آبهً ببشطهم وقمعهم متسلحاً بعقيدته الخالصة ومتدرعاً بولائه لأهل البيت (ع) مصمماً المضيء على نهجهم حتى آخر رمق في حياته فكان في عداد الرجال الخالدين الذين لم يعرفوا سوى طريق الحق فأتخذوه سبيلاً ولزموه منهجاً ودليلاً بنفوس مطمئنة وعقيدة صلبة مستميتين في مقارعة الظلم والطغيان حتى زلزلت أصواتهم عروش البغي والجور فكانوا مصاديق الحديث الشريف: (أفضل الجهاد كلمة حق بوجه سلطان جائر).

كان عمرو بن الحمق من الصحابة الأجلاء ومن أخلص أصحاب أمير المؤمنين (ع) والحسن أبن علي (ع) ويرجع نسبه الى خزاعة فهو عمرو بن الحمق الكاهن بن حبيب بن عمرو بن لقين بن ذراح بن عمرو بن سعد بن كعب بن عمرو بن ربيعة الخزاعي أسلم بعد الحديبية، وهاجر الى النبي (ص) بعد إسلامه.

 وقد روى الحافظ الهيثمي في مجمع الزوائد ج 9 ص 405 خبر إسلامه فقال: (باب ما جاء في عمرو بن الحمق الخزاعي رضي الله عنه عن عمرو بن الحمق قال: بعث رسول الله (ص) سرية فقالوا: يا رسول الله تبعثنا وليس لنا زاد وليس لنا طعام ولا علم لنا بالطريق فقال (ص): أنكم ستمرون برجل صبيح الوجه يطعمكم من الطعام ويسقيكم من الشراب ويدلكم على الطريق وهو من أهل الجنة، فلم يزل القوم على جمل يشير بعضهم الى بعض وينظرون إلي قالوا إبشر من الله ورسوله فأنا أعرف فيك نعت رسول الله (ص)، فأخبروني بما قال لهم فأطعمتهم وسقيتهم وزودتهم وخرجت معهم حتى دللتهم على الطريق، ثم رجعت الى أهلي وأوصيتهم بإبلي ثم خرجت الى رسول الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وحج البيت وصوم رمضان، فقلت: أذا أجبناك الى هذا فنحن آمنون على أهلنا ودمائنا وأموالنا، قال: نعم فأسلمت ورجعت فأعلمتهم بإسلامي فأسلم على يدي أناس كثيرون منهم، ثم هاجرت الى رسول الله (ص) فبينما أنا عنده ذات يوم فقال لي: يا عمرو وهل لك أن أريك آية الجنة تأكل الطعام وتشرب الشراب وتمشي في الأسواق فقلت: بلى بأبي أنت فقال: هذا وقومه، وأشار بيده الى علي بن أبي طالب (ع) ثم قال لي يا عمرو هل لك أن أريك آية النار تأكل الطعام وتشرب الشراب وتمشي في الأسواق قلت: نعم بأبي أنت قال: هذا وقومه آية النار، وأشار الى رجل.

فلما وقعت الفتنة ذكرت قول رسول الله (ص) ففررت من آية النار الى آية الجنة ملأ هذا الحديث قلب عمرو وروحه وفتح له طريق الحق وعرفه و لزمه أنه طريق الجنة، ولكن للجنة ثمنها وهو خوض هذا الطريق الجهادي والثورة على الطغاة والظالمين، أنه طريق الكفاح والنضال في سبيل الله والحق وبذل الدماء والأنفس في سبيل الدفاع عن مبادئ الإسلام الحقيقية ومقارعة الأنظمة الفاسدة.

وهكذات كان عمرو فقد مضى على هذا الطريق بكل مصاعبه وأهواله وخاضه بجهاده وتضحياته ولم يزل يعمل بهذا الحديث و يوصي به حتى آخر رمق في حياته، فكان حقيقياً به ومصداقاً وأهلاً له.

ويروي أبن كثير في البداية والنهاية ج 4 ص 52 والطبراني في مجمع الزوائد ج ج9 ص 405 وغيرهما خبراً آخر له مع رسول الله (ص) وهو: (عمرو سقى رسول الله (ص) لبناً فدعا له النبي (ص) فقال: (اللهم متعه بشبابه) فمرت له ثمانون سنة ولم تر له شعرة بيضاء)، بعد وفاة النبي الأكرم (ص) سكن عمرو الشام عدداً من السنين.

ثم قدم الى المدينة أيام عثمان ولما آلت الخلافة الى أمير المؤمنين (ع) أنتقل عمرو الى الكوفة ليكون الى جنب الحق وأهله والجنة التي وعدها له رسول الله (ص).

اصطف عمرو الى جنب الصفوة المخلصة من أصحاب أمير المؤمنين (ع) والخيرة من أصحاب وحواريه وحضر معه حروبه الثلاثة الجمل وصفين والنهروان، فكانت له مواقف مشهودة وصولات شجاعة، وقد سجل التاريخ لهذا البطل كلمات مشرقة قالها لأمير المؤمنين (ع) في صفين، فقد روى نصر بن مزاحم في كتابه (صفين) ص 103: (ثم قام عمرو بن الحمق فقال: يا أمير المؤمنين إني والله يا أمير المؤمنين ما أجبتك ولا بايعتك على قرابة بيني وبينك ولا ارادة مال تؤتيه ولا ألتماس سلطان يرفع ذكري به ولكن أجبتك لخصال خمسة: انك ابن عم رسول الله (ص)، وأول من أمن به، وزوج سيدة نساء العالمين، وابو الذرية التي بقيت فينا من رسول الله، وأعظم رجل من المهاجرين سهماً في الجهاد، فلو أني كلفت نقل الجبال و الرواسي ونزح البحور الطوامي حتى يأتي على يومي في أمر أقوي به وليك، وأوهن به عدوك ما رأيت أني أديت فيه كل الذي يحق من حقك.

هذا هو الايمان الخالص الذي لا تشوبه شائبة يتجلى في هذه الكلمات فحينما يكون حب الانسان وايمانه لله، وليس لنوازع دنيوية وأغراض ومصالح مادية أو قلبية وعصبية، فهذا أفضل الأيمان وهكذا كان عمرو، وبالمقابل فأن لعمرو منزلة كبيرة عند الأئمة (ع) لما عرفوا منه ايمانه واخلاصه ودون له التاريخ كلمات شريفة بأحرف من نور، قالها بحقه أمير المؤمنين (ع) تشهد له بالمكانة العالية والمنزلة الرفيعة بين أصحابه حينما خاطبة قائلاً: (اللهم نور قلبه بالتقى وأهده الى صراط المستقيم، لبت أن في جندي مائة مثلك)، وهذه المقولة العظيمة القصيرة في كلماتها الكبيرة في مدلولاتها جاءت وفق المقاييس الوافية والصادقة لشخصية هذا البطل يغبطه عليها الكثير من العظماء والثوار على مدى التاريخ الاسلامي.

 وكان أمير المؤمنين (ع) يعلم مدى أيمان عمرو وأستمانته في الدفاع عن دينه وكان يعلم أن طريق مثل هؤلاء الأبطال المجاهدين هو الشهادة فأخبره بقتله وكيفية قتله من بعده فقال له: (يا عمرو انك لمقتول بعدي وأن رأسك لمنقول وهو أول رأس ينقل في الاسلام والويل لقاتلك).

كما حدثه بذلك رسول الله (ص) أيضاً كان عمرو الى جانب شجاعته ومواقفه البطولية والمبدئية يعد من الزهاد العباد المنقطعين الى العبادة، وتشهد له الرسالة التي بعثها الأمام الحسين (ع) الى معاوية بعد مقتل عمرو بذلك فما جاء في هذه الرسالة: (أو لست قاتل عمرو بن الحمق الخزاعي صاحب رسول الله (ص) العبد الصالح الذي أبلته العبادة فنحل جسمه واصفر لونه فقتلته... الخ). كما شهد له الامام موسى بن جعفر الكاظم (ع) بولائه الخالص وايمانه العميق، فروي عنه (ع) قوله: (اذا كان يوم القيامة يناد منادً: أين حواري علي بن أبي طالب (ع) وصي محمد بن عبد الله (ص)؟ فيقوم عمرو بن الحمق الخزاعي ومحمد بن أبي بكر، وميثم بن يحيى التمار مولى بني أسد و أويس القرني).

كما عده الفضل بن شاذان كما في رجال الكشي ج 1 ص 181 من السابقين الذين رجعوا الى أمير المؤمنين (ع) بعد استشهاد أمير المؤمنين (ع) رفع عمرو بن الحمق صوته عالياً مندداً بالظلم والجور الأموي مع أصحابه من أصحاب أمير المؤمنين (ع)، أمثال حجر بن عدي وأصحابه وحث على الجهاد واعلان الثورة على الطغاة والمستبدين واحقاق الحق، واماتة الباطل عملاً بقوله رسول الله (ص): (من رأى منكم سلطاناً جائراً مستحلاً لحرم الله ناكثاً لعهده مخالفاً لسنة رسول الله (ص) يعمل في عباد الله بالاثم والعدوان فلم يغير عليه بفعل ولا قول كان حقاًُ على الله أن يدخله مدخله).

لم يكن عمرو من الخانعين الذين يرون المنكرات تعمل ولا يحركون ساكناً بل صرخ عالياً ودعا الى العمل بسنة رسول الله (ص) والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وكان زياد بن أبيه عامل الكوفة من قبل معاوية يمارس أقسى انواع الظلم والأضطهاد بحق أصحاب الامام أمير المؤمنين (ع)، وما فعله هو ومعاوية بحجر بن عدي وأصحابه غير خافً على التاريخ، وكان عمرو يعرف البطش الأموي وقسوته وأن جلاوزة بني أمية لن يدعوه وهو يحرض عليهم ويندد بأعمالهم التي لم يستطع السكوت عليها فكان يردد: (والله لو كنت في حجر في جوف حجر لاستخرجني بنو أمية حتى يقتلوني حدثني به حبيبي رسول الله (ص) وأن رأسي أول رأس يجتز في الاسلام وينقل من بلد الى بلد.. بعد مقتل حجر بن عدي وأصحابه، أشتد زياد في طلب عمرو بن الحمق فخرج عمرو مع رفاعة بن شداد من الكوفة الى المدائن فمكثا هناك مدة، ثم ذهبا الى الموصل فاختفيا في غار جبل ليستريحا تحته فرصدتهما العيون وبلغ أمرهما عامل لمعاوية اسمه عبد الله بن أبي بلتعة فخرج أليهما مع بعض شرطته ولما أحسا بقدوم الحرس وكان عمرو شيخاً كبيراً مريضاً أما رفاعة فكان شاباً قوياً فاعتلى فرسه والتفت الى عمرو قائلاً: أقاتل معك؟ فقال له: وما ينفعني أن تقاتل فتقتل أنجي بنفسك أن استطعت، فحمل رفاعة عليهم فأفرجوا له فخرج تنفر به فرسه وخرجت الخيل في طلبه، وكان رامياً فأخذ لا يلحقه فارس إلا رماه فجرحه أو عقره، فأنصرفوا عنه فأختفى ونجى بنفسه أما عمرو فوقف في مكانه حتى قبض عليه وأرسل مقيداً بالحديد الى عبد الرحمن بن عبد الله الثقفي المعروف ب (أبن ام الحكم)، وهو أبن أخت معاوية وكان يومئذ والي الموصل من قبل معاوية فكتب هذا بدوره الى معاوية يخبره بالقبض على عمرو فجاء كتاب معاوية يأمره فيه بطعنه تسع طعنات فأخرج عمرو من السجن وطعن أول طعنة سقط على أثرها شهيداً، ولكن حتى موته لم يخلصه من تلك القسوة والوحشية فلم يتركه السجان حتى طعنه ثمان طعنات وهو ميت، ثم قطع رأسه ووضع على رمح وبعث به الى معاوية فأمر معاوية أن يطاف به في الشام، فكان أول رأس حمل وطيف به في الاسلام، ولم تسلم زوجة عمرو من الأضطهاد الأموي فبعد أن خرج عمرو من الكوفة قبض معاوية على زوجته آمنة بن الشريد وزجها في السجن.

قال اليعقوبي في تاريخه ص 124:(وقد كان معاوية حبي أمرأته -أي عمرو بن الحمق- بدمشق فلما أتى رأسه بعث به فوضع في حجرها أقول - أي اليعقوبي - طالبه الله بدمه وعجل له الويل من نقمته فلقد أتى أمراً فرياً وقتل براً نقياً وكان أول من حبس النساء بجرائر الرجال).

وبعد أن طيف برأس عمرو في أزقة الشام وشوارعها أمر معاوية بارساله الى زوجته آمنة بنت الشريد وهي في السجن فوضع الرأس الشريف في حجرها، فعرفته ووضعت كتفها على جبينه وقالت: (غيبتموه عني طويلاً وأهديتموه ألي قتيلاً فأهلاً وسهلاً بها من هدية غير قالية ولا مقلية فقد أتى أرماً قرياً وقتل باراً نقياً)، فبلغ كلامها الى معاوية فبعث اليها فلما مثلت أمامه قال لها: أنت القائلة ما قلت؟ قالت: نعم غير ناكلة عنه ولا معتذرة منه فقال لها: أخرجي عن بلادي فقالت: أفعل فو الله ما هو لي بوطن ولا أحسن الي سكن ولقد طال بها سهري وأسبل بها عبرتي وكثر فيها ديني من غير ما قرت به عيني.

كان هذا الجواب من هذه الحرة البطلة التي لم تزعزع ايمانها وثباتها هذه الفاجعة التي حلت بها بمثابة تحدي وصوت معارض للسلطة الأموية يضاف الى صوت زوجها مما أثار حفيظة بعض المنافقين والمتملقين من جلساء معاوية أمثال عبد الله بن أبي سرح الذي ألتفت الى معاوية قائلاً: انها منافقة فألحقها بزوجها، لقد تخلى هذا المنافق حتى عن العرف والتقاليد الجاهلية التي لا تسمح بقتل المرأة فضلاً عن المبادئ الاسلامية السمحاء، فتلقى جواباً أقسى من الأول من هذه المرأة العظيمة فالتفتت اليه شزراً قائلة: انما المارق المنافق من قال بغير الصواب واتخذ العباد كالأرباب فأنزل كفره في الكتاب، وكان هذا المنافق قد نزلت آية في القرآن الكريم تشهد بكفره ونفاقه وتاريخه ملىء بالمخازي والموبقات لا يسعنا هنا ذكره فقد وضعه هذا الجواب الشافي في مكانه الوضيع و منزلته الدنيئة في زمرة كلاب معاوية، ثم أومأ معاوية الى الحاجب أن يخرجها من مجلسه ويطلق سراحها بعد أن أعيته عن مجاراتها في الكلام بحججها وبلاغتها فقالت: واعجباً من أبن هند يشير الي ببنانة ويمنعني نوافذ لسانه ثم خرجت.. وكان استشهاد عمرو بن الحمق سنة 51 هـ، وقد أربي عمره الشريف على الثمانين ودفن في الموصل وله مزار مشيد كانت بداية بنائها على يد ابي عبد الله سعيد بن حمدان ابن عم سيف الدولة الحمداني سنة 336هـ.

شبكة النبأ المعلوماتية- الخميس 2/كانون الأول/2010 - 25/ذو الحجة/1431

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1431هـ  /  1999- 2010م