إيرلندا وضواري المضاربة الدولية

علي الأسدي

إيرلندا ذات 4.5 مليون نسمة، ونسبة بطالة تجاوزت 14% قوى العمل فيها، ونمو اقتصادي سالب بلغ هذا العام ( 1.2 % -)، تواجه منذ عدة سنوات تناقصا في النفقات العامة، لا يوازيها زيادة بنفس القدر في موارد ميزانيتها المالية، ويأتي هذا بعد بضعة سنوات من رخاء اقتصادي باهر بعد انضمامها لليورو عام 1990. (1)

 ولأن شعور الرضا عن النفس قد أنسى حكوماتها نوائب الزمن الماضي، فلم تحاول التعامل مع عدم توازن الميزانية بجد، فتنمي مصادر اقتصادية لموارد مالية جديدة، فقد استمرأت الاستدانة حتى أصبحت بمرور الزمن مدمنة عليها بدرجة خطيرة. تحاول حكومتها اليوم التعامل مع العجز ومع الديون المتراكمة عير الزمن اعتمادا على ما تتخذه من اجراءات، مركزة بشكل خاص على مصادرها الذاتية كما تدعي. ولذلك فهي غير متعجلة لطلب المساعدة من مجلس الاتحاد الأوربي، كما صرح بذلك رئيس وزرائها يوم الأربعاء السابع عشر من تشرين الثاني الحالي. فقد أكد رفض حكومته لطلب مساعدة مجلس الاتحاد الأوربي أو صندوق النقد الدولي، أسوة باليونان العام الماضي والتي برغمها ما زالت تكافح دون جدوى لتحقيق الانتعاش في اقتصادها.

 مجلس الاتحاد الأوربي وصندوق النقد الدولي، وكجزء من وظيفتهما، يقومان بدراسة دورية لإجراءات أي حكومة تتلقى مساعداتهما المالية، للتأكد من حسن ادارتها لأزمتها المالية، وفيما اذا ستكون مؤهلة لإعادة دفع الأموال التي منحت لها. وتقوم المؤسستان تبعا لذلك بمراقبة تطور معدل النمو الاقتصادي، و ميكانيكية عمل وحجم ميزانية اقتصاد الرفاه، ومدى قدرة الحكومة المعنية بتنفيذ سياسة خفض النفقات العامة. حق المراجعة هذا من جانب المؤسستين هو ما ترفضه الحكومة الايرلندية، وتعتبره تدخلا في شئونها الداخلية، يحرجها أمام العالم الخارجي ويجرح مشاعر شعبها الوطنية. وكما تذكر صحيفة بلفاست تيلغراف في عددها ليوم الأربعاء 17 / 11 /2010 ان الحكومة الايرلندية قادرة على التعامل مع العجز في الميزانية، وهو ما ستعلنه في 7 ديسمبر القادم عندما تقدم مشروع الميزانية إلى البرلمان. كما أنها وضعت خطة لأربع سنوات ستستعيد خلالها الانتعاش الاقتصادي في البلاد.(2)

بعض الايرلنديين ينظر للأزمة وللمساعدة الأوربية من زاوية أخرى أكثر واقعية، فرجل أعمال وصاحب شركة ناجحة للاتصالات علق على الموقف الحكومي قائلا: الشعور بالاعتزاز والتعالي على الواقع " لا يوفر لحما على المائدة "، ويتطابق هذا القول مع مقولتنا الشعبية العراقية الدارجة " الحجي ما يوكل خبز"، وبناء عليه بحسب قول رجل الأعمال، لا ينبغي للحكومة الايرلندية رفض مساعدة الاتحاد الأوربي، لأنها في وضع مالي حرج يحتم عليها التحرك قبل فوات الأوان. أما المساعي العملية التي أقدمت عليها الحكومة الايرلندية لمعالجة العجز في الميزانية فقد تمحورت في اتجاهين، الأول: ويعمل باتجاه جانب النفقات، والثاني: باتجاه الايرادات. ففي المجال الأول، تنفذ حاليا سياسة صارمة لخفض الانفاق العام، وبفضله ستوفر حوالي 3.5 بليون يورو. وفي المجال الثاني، ستدر الزيادة المقترحة للضرائب موارد مالية تبلغ 1.5 بليون يورو، وبذلك تكون قد وفرت لميزانية عام 2011، 6 بليون يورو، حيث ستتمكن في المحصلة النهائية من تقليص عجز ميزانية 2011 من 14.4 % حاليا إلى حوالي 9.5 % ناتجها القومي.(3)

 الحكومة الايرلندية تعتبر ذلك نجاحا، وخطوة في الطريق الصحيح، لكنها ليست حلا يمكن أن تكافئ عليه، فما قامت به في الواقع، أشبه بتصرف لص مدين، يتشبث بالسرقة ليسدد ما بذمته من ديون.

المتمعن في الأموال الموفرة بهدف تخفيض العجز، يلاحظ بأسف من أين جاءت، لقد جاءت على حساب جماهير الشعب من أبناء الطبقة العاملة، وذوي الدخل المحدود، وأوساطا واسعة من الطبقة الوسطى. حيث قامت الحكومة بخفض أجور العاملين في القطاع العام بنسبة 5 %، كما خفضت مدفوعات المعونات الاجتماعية ومعونات الطفولة، وتتجه لزيادة الضرائب على السلع الاستهلاكية، مما سيحمل المستهلكين وهم أكثرية الشعب أعباء جديدة ستزيد حياتهم صعوبة. واذا ما أخفقت الحكومة الحالية في النجاح بتضييق شقة عجز الميزانية، فستعيد الكرة لتقتطع ما لم تقتطعه من عامة الشعب، لتدعي بعدها أنها تمكنت عبر مصادرها ومبادراتها الخاصة من حل مشاكلها المالية. أما قروض الاتحاد الأوربي وصندوق النقد الدولي فلن تذهب لتعوض عامة الناس عما اقتطع من لقمة عيشهم، أو للقيام بمشاريع اقتصادية لخلق مزيدا من فرص عمل للعاطلين، بل ستذهب للمصارف المتعثرة، لمساعدتها على استعادة الثقة بها من قبل أسواق المال.

 وإيرلندا ليست وحدها من بين دول الاتحاد الأوربي من يواجه عجزا ماليا كبيرا، بل هناك دولا عدة من بين أعضائه الستة عشر تواجه أخطر أزمة اقتصادية منذ الحرب العالمية الثانية. وفي الوقت الذي يتهيأ وزراء مالية دول الاتحاد الأوربي لبحث مشكلة العجز المالي المتفاقم في إيرلندا ودولا أخرى، أعلن عن تدهور جديد في العجز المالي في ميزانية اليونان المالية. فقد أظهرت الأرقام الاحصائية الأخيرة أن العجز الحالي هو 15.4 %، وليس 13.6 % ناتجها القومي كما أعلن عنه في أبريل الماضي. وأن الدين العام اليوناني قد ارتفع من 115.1 عام 2008 الى 126.8 عام 2009، وانه في طريقه للزيادة، حيث سيبلغ 144 % ناتجها القومي نهاية هذا العام. وقد أعلن رئيس وزراء اليونان أنه سيطلب من الاتحاد الأوربي منحه مدة اضافية، ليتمكن خلالها من المباشرة بدفع القسط الأول من مبلغ القرض الاجمالي البالغ 150 بليون دولار الممنوح لبلاده، لأن اليونان غير قادرة الآن للإيفاء بالتزاماتها.

جميع دول الاتحاد الأوربي تواجه المشاكل ذاتها، عجز في الميزانية الحكومية ودين عام وبطالة عامة، ومعدلات نمو اقتصادي محبطة، وصورة ضبابية عن المستقبل. يمكن قراءة ذلك كله من تصريح رئيس الاتحاد الأوربي، هيرمان فان رومبوي، قبل ساعات من بدء الاجتماع الوزاري لمجموعة دول اليورو الذي انعقد في بروكسل الثلاثاء 16 تشرين الثاني الجاري قائلا: " اننا نواجه أزمة بقاء، فانهيار اليورو يعني انهيار الاتحاد الأوربي أيضا، لكني واثق من تجاوز الأزمة الحالية التي تواجه بعض دول الاتحاد الأوربي ". بامكان السيد رئيس الاتحاد أن يقول ذلك، لكن قطار الأزمات ما يزال عاجزا عن الحركة، فعبء الدين العام الذي ينوء به يزيد كثيرا عن قدرته على الاحتمال. فحكومات اسبانيا والبرتغال تواجه صعوبات مالية جدية في توفير السيولة النقدية لميزانياتها الخاوية، فعجز ميزانية ايرلندا وحدها 32 % ناتجها القومي، اضافة إلى دينها العام المتراكم الذي يحتاج إلى معالجة خاصة. فقد تراوح الدين العام في البلدان الثلاثة بين 53 % في اسبانيا، و 76 % في البرتغال و65.5 في إيرلندا.

ان ما يعقد الوضع الاقتصادي في الدول الأوربية الصغيرة كإيرلندا واليونان ليس عجز الميزانية أو دينها العام، فهذه مشكلة يمكن أن تستمر لمدى سنين في المستقبل، دون أن تؤدي الى زعزعة كيانها أو تلاشيها، فليس في التاريخ مثالا واحدا عن اختفاء دولة بسبب الديون، ولنا في الولايات المتحدة أكثر الدول مديونية، لم يفارقها الدين منذ قيامها. انما مصدر التعقيد والخوف هو من عدم الثقة في اقتصادها الذي ينشره ويبالغ في تضخيمه المضاربون الماليون الدوليون، حيث يعملون بتنسيق محكم على الحط من عملتها وسنداتها المالية المتداولة، بهدف انهيار قيمتها إلى أدنى مستوياتها، وفي هذا يحقق المضاربون فرصتهم. المضاربون الكبار وبينهم مصارف كبرى، وشركات مالية واقتصادية عابرة للحدود، توحد جهودها فيما بينها، وتنسق نشاطاتها لاحداث البلبلة في سوق المال، فما أن تصل الى أهدافها في دولة من الدول حتى تنتقل الى أخرى. وهكذا فعلوا مع اليونان العام الماضي، وقبلها في الولايات المتحدة نهاية عام 2007 في فقاعة الرهن العقاري، ومع النمور الأسيوية في السبعينيات، ومع بريطانيا في التسعينات، عندما عملوا على انهيار الباون الاسترليني، مكبدين الخزانة البريطانية حوالي عشرين بليون باون استرليني، وعلى قائمة الانتظار حاليا، اسبانيا والبرتغال وايطاليا، ودولا أخرى ستلي تباعا. كنت كتبت العام الماضي عن هذا الموضوع، أشرت فيه الى تحذير السيدة أنجيلا ميركل من دور المضاربين في استقرار اليورو، ونقلت قولها بهذا الخصوص وأعيد هنا ما ورد فيه: " ان اليورو بات في خطر حقيقي اذا لم تتم حمايته من العواقب، وان تداعيات انهياره ستكون كبيرة، مما يدعونا لاتخاذ اجراءات صارمة للحد من المضاربات على اليورو ". لا شيء اتخذ في الواقع لوقف هذا الفايروس الخارج عن السيطرة، لأن الطغمة المالية التي تعمل على انهيار أسواق المال لتحصد الأرباح الخيالية، عبر المتاجرة بالأسهم والسندات والعملة المنهارة هي سلطة عليا، لها من القوة والنفوذ ما يفوق سلطات أقوى الحكومات في العالم. أمام هذه التحديات فان ما يفعله الاتحاد الأوربي يصب في مصلحة الطغمة المالية لا ضدها، فالاموال التي يضخها في قنوات إيرلندا المالية أو غيرها، تنتهي الى حسابات الطغمة، كما انتهت مليارات الدولارات الأمريكية الى مركز المال في وول ستريت وليس الى المتضررين الحقيقيين من فقاعة الرهن العقاري.

و بعيدا عن المضاربة والمضاربين، وبصرف النظر عن قناعة الاتحاد الأوربي بقدرة سياسة الحرية الاقتصادية على حل المشاكل الاقتصادية الراهنة في بعض دوله الأشد فقرا، لابد من الاعتراف بأن ما يواجه اقتصاد تلك الدول ليس شحة عابرة في السيولة النقدية يمكن معالجتها اليوم بضخ المال في جيوب الناس، بل هي مشكلة بنيوية متعددة الجوانب. وما الأزمة الاقتصادية الحالية الا نتاجا لتلك البنى الاقتصادية العاجزة، وللسياسات التي لم تأخذ هذا الواقع بنظر الاعتبار. فالسياسة المالية المتبعة حاليا محابية لأرباب المال محتكري الجزء الأكبر من الثروة وناتج المجتمع القومي، بينما تنفذ سياسة تقشف قاسية تجاه الحالة المعاشية للقوى العاملة وذوي الدخل المحدود.

 كما أن السياسات التجارية المتبعة عمليا تتجاهل أهم قاعدة تجارتها الخارجية وهي توازن الميزان التجاري، ولذلك فهي تتعايش مع رصيد تجاري سالب في الغالب، بينما العكس هو الصحيح، وهذا يتطلب الالتزام بسياسة حمائية هادفة، تدعم وتشجع القطاع الانتاجي المحلي لتوفير وحماية فرص العمل الوطنية. سياسة الحرية التجارية المتبعة حاليا في دول الاتحاد الأوربي أل 27 لا تنتج ولا تعزز فرص العمل في الاقتصاد المحلي، بل تصدرها إلى بلدان أخرى كالصين أو الهند حيث تحقق هذه رصيدا تجاريا ايجابيا يوفر لها فوائض مالية ضخمة.

أما في مجال الحوافز الاقتصادية فان حكومات الاتحاد الأوربي قد تركتها لاقتصاد السوق، ممتنعة عن التدخل لصالح تحفيز النمو الاقتصادي، لقناعتها بقدرة قواه الذاتية على تسييره بما يحقق مصلحة المجتمع. لكن تلك القوى الذاتية لم تعمل، لا في مجال زيادة عرض السلع، أي زيادة الانتاج، ولا في زيادة الطلب الفعال، فهذا الأخير مرتبط بزيادة فرص العمل. وسيكون من الضروري في هذه الحالة تدخل حكومي لاستخدام المزيد من الموارد البشرية، عبر الاستثمارات الحكومية في مختلف قطاعات الانتاج، لتعويض ما أخفقت فيه قوى السوق الخفية. وبدون تدخل الحكومة في هذين العاملين فان الركود الاقتصادي سيستمر، وسيتفاقم مع تنفيذ سياسة خفض النفقات العامة المؤدية لزيادة البطالة، عندها يتفاقم الركود الاقتصادي من جديد ويزداد تبعا لذلك الفقراء عددا و فقرا.

.................................................

1- The Balfast Telegraph ,Belfast 17/11/2010

2- Akitson Simon, Economic editor, BBC News, 16/11/2010

3- Robert Peston ,Business editor, BBC News , 16/11/2010

شبكة النبأ المعلوماتية- الأربعاء 1/كانون الأول/2010 - 24/ذو الحجة/1431

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1431هـ  /  1999- 2010م