المنزلقات الثلاثة

د. إبراهيم أبراش

في ظل الانقسام الفلسطيني وفي ظل التزام العرب بخيار السلام ليس أمام القيادة الفلسطينية سوى استمرار رفع شعار السلام و التمسك بالشرعية الدولية، لكن، حتى يخدم خيار السلام المشروع الوطني التحرري على القيادة الفلسطينية إعادة النظر بكيفية إدارة العملية السلمية والتفاوضية وإعادة النظر بشبكة علاقاتها وتحالفاتها الداخلية والخارجية مع تفعيل كل أشكال المقاومة السلمية وترك المجال لها لتتطور إلى درجة المقاومة المسلحة إن لزم الأمر، إحساس إسرائيل بأن المفاوض الفلسطيني لم بتخل عن حق المقاومة ولو كإمكانية سيقوي من موقف المفاوض الفلسطيني.

 رفع شعار السلام ضرورة للتعامل مع القضية دوليا وتوظيف كل ما منحتنا إياه الشرعية الدولية من حقوق سياسية ولكشف عدالة قضيتنا وعدالة مطالبنا أمام كثير من الدول والشعوب التي غررت بها إسرائيل والصهيونية العالمية حيث كانا ينقلان صورة مشوهة عن قضيتنا ويُظهراننا كإرهابيين نريد أن نقضي على إسرائيل.

لا يعني هذا أن إسرائيل تتطلع للسلام ولمجرد تمسك الفلسطينيين بخيار السلام ستعيد لهم حقوقهم المشروعة فنحن نرى كيف تتهرب إسرائيل من السلام العادل ومن تنفيذ الاتفاقات الموقعة وتدعمها واشنطن في ذلك، ولا يعني قولنا أعلاه التخلي عن خيار المقاومة، ولكن ما نرمي إليه هو عدم وضع تعارض ما بين رفع شعارات السلام والشرعية الدولية من جانب وتمتين الجبهة الداخلية والتوافق على إستراتيجية مقاومة من جانب آخر.

خطاب السلام لوحده لا يكفي لتحقيق السلام بل يحتاج لقوة وقدرة تسنده بطريقة عقلانية وهذا يتأتى من خلال وحدة الموقف الفلسطيني ومن خلال التمسك بالثوابت وبالحق بالمقاومة كأحد الثوابت ما دام الاحتلال قائما، وفي هذا السياق يمكن اللجوء الآن لكل أشكال المقاومة الشعبية، وإسرائيل لن تستجيب لا للمطالب الفلسطينية ولا للشرعية الدولية والاتفاقات الموقعة ما دامت تعرف أنه ليس من بدائل أمام المفاوض الفلسطيني للمفاوضات إلا المفاوضات.

المشكلة لا تكمن في السلام ولا في المقاومة ولكن بعجز النظام السياسي في التوفيق بين السلام والحق بالمقاومة، الخلل يكمن في مصادرة فكرة السلام من طرف مفاوضين لم يحسنوا إدارة معركة السلام ومن طرف جماعات وأشخاص وظفوا فكرة السلام لمصالحهم الذاتية أو لخدمة أجندة خارجية، المشكلة أيضا تكمن في مصادرة الحق بالمقاومة من طرف فصائل ارتباطها بأجندة خارجية أقوى من ارتباطها بالوطن وبالمشروع الوطني.

السلام والمقاومة وجها عملة واحدة، والسلام كالمقاومة يحتاج لخوض معارك تُحشد فيها كل الإمكانيات، إن من يخوض معركة المفاوضات مجردا من أوراق القوة وأهمها وحدة الموقف الوطني والمقاومة كخيار ممكن، لن يتمكن من كسب معركة السلام، وهذا ما تمارسه إسرائيل فهي تتحدث عن السلام وتخوض مفاوضات دون أن تتخلى عن خيار الحرب بل تمارس العدوان وهي تجلس على طاولة المفاوضات، وقد قال النائب الأول لرئيس الوزراء الإسرائيلي ووزير الشؤون الإستراتيجية موشيه يعلون لصحيفة معاريف قبل أيام "انّه لا يجوز الدخول إلى مفاوضات في الشرق الأوسط من دون أن تكون متسلحا بعصا".

أيضا فإن من يقول بالمقاومة ويمارسها بدون إستراتيجية وطنية وبدون مشروع سياسي عقلاني وواقعي ومفهوم من العالم الخارجي لن يكسب معركة المقاومة. نحن نحتاج لمشروع سلام تقوده حركة تحرر وطني، أو حركة تحرر وطني تمتلك مشروعا للسلام.

كل حديث فصائلي أو حزبي عن خيار المقاومة المسلحة الآن إن لم يكن في إطار إستراتيجية وطنية شمولية وفي إطار مشروع سلام فلسطيني لن يكون إلا خطابات لن تغير من الواقع شيء، ليس لعدم عقلانية وشرعية خيار المقاومة بل لعدم واقعيته في الحالة الفلسطينية والعربية الراهنة. فحيث أن النظام الرسمي العربي ما زال ملتزما بمبادرة السلام ولا توجد دولة عربية أو إسلامية واحدة مستعدة لاحتضان قواعد ثورة فلسطينية مسلحة أو فتح حدودها أمام المقاتلين الفلسطينيين والعرب والمسلمين أو إرسال جيوشها لمحاربة إسرائيل، وحيث أن الانقسام الفلسطيني ما زال قائما بل يترسخ مع كل يوم يمر، فإن الحديث عن مقاومة فلسطينية مسلحة لمحاربة إسرائيل لتحرير فلسطين أو لإجبارها على الخضوع للمطالب الفلسطينية المقررة في الشرعية الدولية – الانسحاب من الضفة وغزة وعودة اللاجئين لديارهم – لن يكون إلا مجرد تسجيل موقف أو محاولة لتحسين شروط التفاوض.

إن العالم ولا شك بات أكثر تعاطفا وتأييدا للحق الفلسطيني وأكثر معرفة بأن إسرائيل دولة احتلال وعدوان ومصدر تهديد للسلام في المنطقة والعالم، ولكن هذا التحول الإيجابي يجب أن يُستثمَر بشكل عقلاني لأنه تحول لا يصب في خيار الحرب والعمل العسكري بل يصب في مصلحة البحث عن تسوية عادلة ومشرفة، تسوية يكون طرفها الفلسطيني قيادة وحدة وطنية تجسد التوافق على شروط ومستلزمات السلام العادل. التحول الإيجابي في المواقف الدولية لصالحنا قد يتبدد مع مرور الزمن إن لم تجري مصالحة فلسطينية تؤسس لإستراتيجية وطنية جديدة تعتمد خيار السلام دون إسقاط الحق بالمقاومة.

العالم سيتفهم رفع الفلسطينيين لشعارات المقاومة وقد يتقبل ممارسة المقاومة إن كانت مصحوبة برؤية سياسية عقلانية لحل الصراع، وقد سبق وأن تفهم وتعاطف العالم مع كل ثورات التحرر الوطني وهي تمارس الكفاح المسلح بما فيها منظمة التحرير الفلسطينية حيث تم الاعتراف بها ممثلا شرعيا للشعب الفلسطيني وفُتِحت أمامها المنظمات الدولية وفُتِحت لها سفارات وهي في أوج ممارستها للكفاح المسلح. ولكن تعاطف العالم لم يكن للفعل المقاوم والمسلح بحد ذاته بل لعدالة وشرعية القضية التي يقاتل الشعب من أجلها ووضوح أهداف حركة التحرر.

المطلوب اليوم من الحركات التي تقول بالمقاومة المسلحة أو تمارسها أن تطرح رؤية وطنية وواقعية وعقلانية لحل الصراع مع إسرائيل وإلا ستنقلب المقاومة ضد المصلحة الوطنية.

التطورات الأخيرة في الساحة الفلسطينية وفي المنطقة وخصوصا وصول تسوية أوسلو لمأزق وكذا وصول المقاومة المسلحة بنهجها الفصائلي لمأزق أكبر وأخطر، يحتم إعادة نظر إستراتيجية بنهج التسوية المؤسَس على اتفاقات أوسلو وعلى تفرد واشنطن برعاية العملية التفاوضية، دون التخلي عن شعار ومطلب السلام العادل، أيضا يتطلب الأمر إعادة تقعيد وتعريف مفهوم المقاومة وإستراتيجية ممارستها، دون التخلي عن الحق بالمقاومة، وفي الحالتين يتطلب الأمر تحرير القرار الفلسطيني من الوصاية الخارجية ومن حسابات الأجندة الخارجية سواء كجهات ممولة أو جهات مؤثرة أيديولوجيا.

الاستمرار بالنهج الراهن للمفاوضات واستمرار المراهنة على واشنطن كوسيط أو راع وحيد للمفاوضات لن يؤد إلا لمزيد من ضياع الأرض والحق، كما أن رفع شعارات المقاومة المسلحة والحرب والتضارب بين فصائل المقاومة والارتماء في أحضان قوى خارجية سيمنح إسرائيل الفرصة لتعيد ترتيب أوضاعها الدولية ولتتهرب مما عليها من التزامات بمقتضى الشرعية الدولية وتتهرب من مجمل عملية السلام، وقد يمنحها المبرر لحرب جديدة على غزة.

ونحن نلاحظ بقلق ما يجري من توتر في العلاقة ما بين حركة حماس وبعض فصائل المقاومة التي تصر على الاستمرار بإطلاق الصواريخ على إسرائيل، الأمر الذي قد يؤجج فتنة وحرب داخلية وسيمنح إسرائيل ذريعة لتقوم بما كانت تقوم به قبل سنوات حيث كانت ترد على كل عملية استشهادية أو إطلاق صواريخ بتدمير مقرات السلطة الفلسطينية أو تجريف الأراضي إن لم يكن مصادرتها، وقد ترد اليوم على كل صاروخ يطلق من غزة بتدمير البنية التحتية في قطاع غزة وما تبنيه حكومة غزة من مؤسسات رسمية.

المطلوب اليوم إستراتيجية فلسطينية جديدة، إستراتيجية حركة تحرر لشعب تحت الاحتلال وليس مصالحة توافقية بين حكومتين خاضعتين للاحتلال. هذه الإستراتيجية عليها أن تتجنب الوقوع في ثلاثة منزلقات:

المنزلق الأول: الوقوع في شراك المصيدة القادمة المتمثلة بتجميد الاستيطان لمرة واحدة واستمرار المراهنة على الوسيط الأمريكي. هذا المنزلق سيدمر مشروع السلام الفلسطيني وسيحول السلطة الوطنية لمجرد أداة تخدم المشروع الصهيوني.

المنزلق الثاني : سياسة الهروب إلى الأمام من خلال تصعيد الحديث عن خيار المقاومة المسلحة والتباهي بتطوير الصواريخ وتخزينها والمراهنة على المدد الخارجي. وهذا المنزلق سيدمر ما تبقى من حركات مقاومة وسيمنح إسرائيل الذريعة لتدمير كل مقومات الصمود الفلسطيني.

المنزلق الثالث: الوقوع في شراك سياسة ألا حرب وألا سلم (ألا مقاومة وألا مفاوضات). هذا المنزلق ضمن واقع الانقسام الراهن سيؤدي لتكريس الانقسام بما سيؤول لتكريس دولة غزة وضياع الضفة والقدس، لان إسرائيل ستواصل سياسة الحرب وسياسة السلم بطريقتها الخاصة.

Ibrahem_ibrach@hotmail. com

شبكة النبأ المعلوماتية- السبت 27/تشرين الثاني/2010 - 20/ذو الحجة/1431

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1431هـ  /  1999- 2010م