بسم الله الرحمن الرحيم...
(ومن الناس من يشري نفسه إبتغاء مرضاة الله والله رؤوفٌ بالعباد)
روى جمع غفير من المفسرين على ان هذه الآية قد نزلت بحق الإمام علي
بن ابي طالب (ع) عند مبيته على فراش النبي (ص) ليلة هجرته الى المدينة
المنورة حينما علم الرسول الأكرم بتآمر قريش على قتله، وروى بعض آخر من
المفسرين على انها نزلت في الصحابي الجليل ابي ذر الغفاري (رض) وقال
آخرون إنها نزلت في الصحابي صهيب الرومي (رض) ولكن تطابق النصوص عند
معظم مفسري المسلمين تشير الى انها نزلت بحق الإمام على مع ما للصحابة
من مقام وشأن رفيع ومواقف بطولية.
ومهما يكن من أمر هذه الآية الشريفة وأسباب نزولها فإن قصة مبيت
الإمام علي (ع) على فراش النبي (ص) ليلة الهجرة مفروغ منها ومشهورة عند
جميع المؤرخين بلا إستثناء. وفي هذا المقام لانريد ان نتحدث عن تفاصيل
هذه الرواية لإشتهارها وتواترها. كما لانريد ان نتحدث عن شجاعة الإمام
علي (ع) وجرأته وإقدامه فذلك مشهور أيضاً وثابت في روايات الصحابة
الكرام بأجمعهم ويكفيه انه بطل الإسلام الخالد وحامل لواء النبي (ص) في
معظم غزواته ومعاركه.
ولكن حديثنا سينصب هنا على بعض موارد الفداء التي وردها الإمام في
عهد النبي (ص) وما اتصفت به شخصيته الشريفة من مؤهلات منحه الله إياها
ليكون الفدائي الأول إبتداءً من اول عملية فدائية تمثلت في مبيته على
فراش النبي ليلة الهجرة.
وفي معرض الحديث عن هذه المنقبة قال ابن ابي الحديد في شرح النهج
ج13 مانصه (قال علماء المسلمين :ان فضيلة علي عليه السلام تلك الليلة
لانعلم أحداً من البشر نال مثلها إلا ماكان من إسماعيل وإبراهيم)
والمقصود بهما النبي إبراهيم وولده إسماعيل وقصتهما التي نص عليها
القرآن الكريم. بإعتبار ان مبيت علي (ع) على فراش النبي في تلك الليلة
يعد إستسلاماً للموت المؤكد يشبه الى حد التطابق إستسلام النبي إسماعيل
(ع) لطلب أبيه عندما اراد ذبحه. كما ان النص السابق الذي ورد على لسان
العلماء كما ذكره بن ابي الحديد عن هذه الفيلة لم يأت إلا عن تأمل في
وجوه عديدة وصفات ثابتة في شخصية الإمام علي (ع) لكي يكون مؤهلاً
لتنفيذ هذا العمل إضافةً الى إيمانه بنبؤة النبي محمد (ص) وإعتقاده
بصدق ما يدعو إليه ومن اجله ومن هذه الوجوه مايلي:-
1. كان الإمام علي (ع) موضع ثقة النبي وحافظ سره وكان غير مخوف عليه
إفشاء أمر النبي وخروجه الى المدينة الذي أريد له ان يحاط بسرية كاملة
لأن إفشاءه سيعرض النبي للخطر ويمكن المشركين منه لذلك كان علي (ع)
ضابطاً للسر ومحافظاً عليه وهي سمة لابد من توفرها فيمن يقوم بمثل هذا
العمل.
2. كان الإمام علي (ع) غير معروف عنه الجبن في مفاجأة المكاره
وملاقاة الأهوال وكان رابط الجأش قوي القلب معروفاً بشجاعته وبأسه
كراراً غير فرار كما عبر عنه النبي (ص) حينما سلمه راية فتح خيبر ولو
كان غير ذلك لفر من الفراش بعد خروج النبي مباشرةً وقبل إقتحام
المشركين البيت لأنه لم يكن مكتوف اليدين كما عبر عن ذلك بن ابي الحديد
لأن المكتوف لايجد لنفسه سبيلاً الى الهرب في حين كان ذلك متاحاً امام
الإمام علي (ع) لأنه كان مطلقاً وغير مقيد لذلك فقد ظل على فراش النبي
حتى خروج النبي وابتعاده عن الخطر واقتحام المشركين لبيته مع علمه (ع)
بأنه ربما سيتعرض للمضايقة الشديدة والتعذيب الوحشي من المشركين بعد
اكتشافهم لأمره وامر النبي مما يؤدي الى إرشادهم الى الطريق التي سلكها
النبي ثم يظفرون به إلا انه كان عازماً على مواجهة كل الإحتمالات
ومقاومتها.
3. إضافةً الى ماتقدم فإن هناك سمة اخرى اتصفت بها شخصية الإمام على
(ع) تعد من اهم سمات الشخصية الفدائية وهي (المبادرة) وتعني الإستجابة
السريعة والتلبية الفورية لدعوات النبي الكريم (ص) في طلب المنازلة او
بلا دعوة منه لدرء الأخطار ومدافعتها والوقوف امام الشدائد كما وقع له
في معركة الخندق حينما دعا الرسول (ص) المسلمين الى مبارزة عمرو بن عبد
ود العامري الذي اقتحم الخندق حيث لم يجب تلك الدعوة في تلك الساعات
العصيبة حيث (بلغت القلوب الحناجر) إلا الإمام علي إذ برز إليه وقتله
وكان عمرو بن عبد ود العامري كما نقل عنه من فرسان العرب وشجعانهم
فكانت تلك مبادرة منه (ع) للإستجابة السريعة الى دعوة النبي (ص) وكذلك
مانقل عنه مع يهود بني النضير فقد روى الشيخ المفيد في إرشاده ان النبي
لما توجه الى بني النضير عمد الى حصارهم فضرب قبته في اقصى (بني حطمة)
من البطحاء. فلما جن الليل رماه رجل يهودي بسهمٍ فأصاب القبة فأمر
النبي ان تحول قبته الى السفح واحاط به المهاجرون والأنصار لحمايته
فلما اختلط الظلام فقدوا علياً (ع) فقال الناس يارسول الله لانرى علياً
فقال (ص) اراه في بعض مايصلح شأنكم فلم يلبث ان جاء الإمام علي برأس
اليهودي الذي رمى النبي (ص) وكان يقال له (غروراً) فطرحه بين يدي
الرسول فقال كيف صنعت يا ابا الحسن فقال (ع) إني رأيت هذا الخبيث
جريئاً شجاعاً فكمنت له وقلت ما أجرأه ان يخرج اذا اختلط الليل ليطلب
منا غرة فأقبل مصلتاً سيفه في تسعة انفارٍ من اليهود فشددت عليه وقتلته
فافلت اصحابه ولم يبرحوا قريباً فأبعث معي نفراً فإني ارجو ان اظفر بهم
فبعث النبي (ص) معه عشرة من اصحابه فيهم ابو دجانة وسهل بن حنيف
فأدركوهم قبل ان يدخلوا الحصن وقتلوهم جميعاً وكان ذلك سبب فتح حصون
بني النضير.
ان المتأمل لهذه الرواية يتبين ان الإمام علي (ع) كان حاضراً في
المهمات الصعبة وقريباً من مواقعها وجديراً لأن يتحمل مسؤولية معالجتها
بمبادرة منه دون دعوة النبي (ص) له.
تلك هي بعض موارد الفداء التي وردها الإمام علي (ع) في عهد النبي
وملامح الروح الفدائية في شخصيته الفذة ليكون مثالاً خالداً وحياً
لأجيال الأمة من أجل الدفاع عن مبادئها ووجودها ضد اعدائها من غزاة
اشرار وحاقدين على اتباعه وشيعته.
.... فسلام عليك يا اباالحسن يوم ولدت ويوم استشهدت ويوم تبعث حياً
حاملاً لواء الحمد بين يدي رسول الله (ص). |