الاتفاق الأخير الذي تمخضت عنه مبادرة السيد البرزاني رئيس اقليم
كردستان قد جاء نتيجة ضغوط أمريكية على الساسة العراقيين، لإنهاء
السجال غير المثمر الذي أخذ من الوقت ما لا يستحق، والذي اضطر السيد
أياد علاوي للقبول بمشاركة كتلته في قوام حكومة المالكي.
وبصرف النظر عما ولدته الضغوط الأمريكية على القوى السياسية
العراقية من انطباعات سلبية في الصحافة ووسائل الاعلام، أثبت القادة
السياسيون العراقيون بعد ثمانية أشهر منذ الانتخابات، بأنهم ليسوا فقط
قادة سياسيون فاشلون، بل أدوات طيعة للقوى الخارجية، في حين هم في داخل
بلادهم مشاكسون ومكابرون تجاه بعضهم البعض، تعبير صارخ عن ازدواج
الشخصية الصفة الملازمة لهم أينما حلوا.
جميع سياسيينا بدون استثناء، ينتقدون بعضهم البعض على اللهاث نحو
قادة الدول العربية والأجنبية طلبا للدعم السياسي والمالي، ولا يشعرون
بالحرج من قيامهم هم بزيارات لتلك البلدان سعيا للدعم. ولذا لم يكن
مهما بالنسبة لهم أن يتحاوروا لثمانية أشهر أخرى حول تشكيل حكومة
الشراكة الوطنية دون أن يتنازلوا أو يلين بعضهم لبعض، لكنهم يستجيبون
بحماس لمكالمة تلفونية من مسئول رفيع أمريكي لإنهاء الهزل والبدء
بالعمل الجاد، وهكذا انتهى الحوار العبثي فجأة، وأعلن عن موافقتهم على
تكليف المالكي لولاية حكومية ثانية.
فقد اتصل الرئيس الأميركي باراك أوباما بعلاوي مؤخرا وأقنعه بضرورة
الانخراط بالحكومة، كما ذكرت ذلك، صحيفة الغارديان البريطانية في عددها
يوم الجمعة 12 تشرين الثاني الحالي. وأضافت الصحيفة: " أن ذلك الاتصال
جاء بعد أشهر من الدبلوماسية الأميركية غير المثمرة التي ظلت تصطدم
بصخرة النفوذ الإيراني في العراق". حقيقة لم تفاجئ العراقيين، لكن
دلالتها تعني الكثير.
وبصرف النظر عن قدرة وجدية الحكومة الجديدة في التعامل مع الاتفاقات
الموقعة بين الأطراف السياسية، فاننا على يقين بأن ما تم الاعلان عنه
أخيرا هو في صالح الاستقرار والأمن والوئام بين مكونات شعبنا. فما
يتوقعه الشعب من حكومة شراكة جدية وحقيقية هو تنفيذ برنامج اعادة اعمار
البنية الاقتصادية، وحل مشاكل الفقر والبطالة ونقص الخدمات الأساسية،
واستكمال بناء الدولة على أسس ديمقراطية سليمة، تلتزم بحرية المعتقد
والتعبير وحقوق الانسان.
لو توفر للحكومة الجديدة الانسجام الداخلي فستكون أمامها فرصة
حقيقية لتضميد جراح المهمشين والمضطهدين، واعادة سلطة القانون وهيبة
القضاء واستقلاله، وتعزيز ثقافة النزاهة في مؤسسات الدولة وحماية المال
العام وملاحقة من أثروا على حساب الشعب. ولأن الاتفاق قد حظي بدعم
وضمان الجامعة العربية والولايات المتحدة، فسيمنحه هذا قوة معنوية، تضع
الأطراف الموقعة عليه أمام التزام أخلاقي لاحترام بنوده، فهل ستلتزم
بالفعل..؟
لكن هناك أسبابا جدية تجعل القلق جديا من عدم احترام بنود الاتفاق
من قبل الحكومة التي ستتأسس على ضوئه، فالمتبقي لها في الحكم حوالي
الثلاث سنوات، والاتفاق لم يحدد فترة زمنية ملزمة لاستكمال التعديلات
الدستورية اللازمة التي تجيز استحداث المجلس السياسي المقترح، ما يجعل
احتمال انشاء المجلس، ومن ثم مباشرته لمهامه خلال عمر الحكومة الجديدة
أمرا بعيد الاحتمال. وذلك لأن مناقشة المهام التي ستناط بالمجلس
السياسي ستفتح الباب لجدل واسع وعقيم في مجلس النواب وخارجه، حيث يتوقع
أن يتعمد حزب الدعوة اللعب على الوقت لاعاقة تشكيل المجلس الجديد.
والسبب جلي هنا، لأن مهام المجلس السياسي ستكون على حساب صلاحيات
رئيس الوزراء، ولا يتوقع من هذا الأخير التخلي عنها، أو القبول
بازدواجية وظيفية قد تضعه في صدام دائم مع المجلس المقترح. وبحسب ما
سرب من معلومات عن مهام المجلس الجديد في الصحافة ووسائل الاعلام، فإن
السياسات الخاصة بالأمن والدفاع والنفط ستكون تحت اشراف وموافقة المجلس
المقترح، ويشترط لحصول الموافقة على القرارات أغلبية 80 % من أصوات
أعضائه الخمسة والعشرين، وليس لرئيس الوزراء حق نقض قرارات المجلس اذا
لم تروق له، كما هو الحال في الولايات المتحدة، حيث للرئيس الأمريكي حق
نقض قرارات الكونغرس.
ويتوقع أن يفتح هذا الموضوع خلافا شديدا وخطرا بين رئيس الوزراء من
جهة، وكتلة التحالف الكردستاني والعراقية من جهة أخرى، عند مناقشة مهام
المجلس الجديد في مجلس النواب في الأسابيع القادمة، لأن رئيس اقليم
كردستان كان أول المبادرين لاخضاع قرارات رئيس الوزراء في مجال الأمن
والدفاع لموافقة مجلس النواب.
والآن وبعد أن تم التوصل الى الاتفاق الأخير بعد مفاوضات عسيرة، فقد
توفرت فرصة ذهبية ليضع الجميع أقدامهم على الطريق الصحيح لخدمة شعبنا
الذي ضحى كثيرا، وهو ينتظر من الحكومة الجديدة انهاء محنه الكثيرة،
وسيكون خطأ تاريخيا لا يغتفر فيما لو أضاعت الكتل السياسية هذه الفرصة
التي يتمنى الجميع أن تتكلل بالنجاح. لقد أبدت صحيفة الفايننشال تايمز
البريطانية مخاوفها من فشل الاتفاق بين الكتل السياسية، متسائلة : " هل
هذه الصفقة صادقة وقادرة على الصمود في ظل بقاء سياسيين يميلون إلى
المشاكسة والعناد وخدمة مصالحهم الشخصية، ولكي لا تعيد الصفقة تكرار
إنتاج نموذج المحاصصة اللبناني، يجب على العراقيين القيام بثلاثة أمور
على عجل، ألا وهي: القضاء على المسلحين الجهاديين من خلال دعم الحكومة
لعناصر الصحوة، وبناء مؤسسات الدولة ومحاربة الفساد، وتوفير الخدمات
وتنفيذ مشاريع البنى التحتية وبناء الاقتصاد.
فإن تمت تلبية هذه الشروط سيعود ملايين المهنيين العراقيين من
منافيهم في الخارج إلى بلادهم، وسيكون أمام العراق فرصة الانبعاث
والولادة من جديد".
الحكومة الجديدة برئاسة المالكي ستواجه تحديات بالغة الصعوبة،
بعضها يتعلق بتقاسم السلطة مع قوى لا يتبادل معها الثقة بل الشكوك،
فالعراقية بشكل خاص، وبدرجة أقل ممثلو التحالف الكردستاني والصدريين
والمجلس الاسلامي مرشحة لتقود حكومة ظل داخل سلطة المالكي وفي مجلس
النواب، حيث ستلعب دور الشريك المشاكس لسياساته، وسيستند بذلك على دعم
جانب واسع من الرأي العام السني، ومن المحسوبين عليهم داخل الحكومة
والبرلمان.
ويسعى السيد علاوي إلى ابطال مشروعية لجنة المساءلة والعدالة،
واعادة الاعتبار لضحاياها الذين تم اقصائهم من الحياة السياسية
والوظيفية من مؤسسات الدولة، خلال السنين السبعة الماضية، حيث يعدون
بعشرات الآلاف من المتهمين بتعاطفهم أو انتمائهم لحزب البعث المنحل.
وتعتبر كتلة العراقية، وتشاركها الرأي بذلك الولايات المتحدة وبعض
الدول العربية، بأن انجاز تلك الأهداف سيمهد الطريق لتحقيق المصالحة
الوطنية ويحد كثيرا من أعمال العنف التي يعتقد أن البعثيين وراءها.
إن التعهدات التي قطعتها كتلة دولة القانون وفق الاتفاق الأخير لا
يمكن التعويل عليها كثيرا، فهي في نظر الناطقين باسم القائمة مجرد
تعهدات كلامية لا أكثر، لأن تنفيذها مرتبط بتعديلات دستورية، وهو حق لا
تملكه دولة القانون، أو رئيس الوزراء، وهذا ما ذكره نصا السيد حسن
السنيد القيادي في حزب السيد نوري المالكي في حواره الأخير في جلسة
مجلس النواب الأخيرة. وبناء عليه فإنه من غير المتوقع أن نرى تنفيذا
سلسا لتلك التعهدات حتى لو كانت مكتوبة وموقع عليها من قبل الكتل
السياسية، وفي هذا تكمن خيبة الأمل التي لا يتمنى أحدنا أن يصاب بها
أبدا.
فقد أمضى العراقيون السنين السبعة الماضية بانتظار أمل لم يتحقق،
ولا يرغبون اليوم أن تقودهم الحكومة المقبلة نحو أمل لن يتحقق. |