الحج... مؤتمر العودة الى الفطرة الاولى

حيدر الجراح

 

شبكة النبأ: قف، هنا يبدأ اقليم الخلود، حيث تتحول عظمة الدنيا وبهاؤها الى تراب، رمزيا يزكّي الحج صحة الايمان المعيش ويتطلب تضحية ما، وكونه يتم عادة في الربع الاخير من حياة المسلم فهو يمنحه فضيلة ختامية.

اثار الحج الاسلامي بما يذكر به وبصفته الجماعية الكثير من التأويلات الرمزية، يذكر الطواف حول الكعبة مثلا بغوص المؤمن (في حضرة الله) ورجم الشيطان يعني رمز طهارة الايمان والسعي بين الصفا والمروة يرمز الى تجول هاجر حائرة باحثة عن الماء. اما القطبية الرمزية للصفا والمروة فتذكر بالثنائي (الجلال – الجمال) الذي هو صفة لله.

في اكثر من حضارة وامة عرف الحج ومارسه الناس ويمارسوه حتى الوقت الحاضر، فقد عرفه الهنود في الأزمنة الأسطورية والفيداوية. وهو عندهم قصد الأماكن والأنهر والينابيع المقدسة، ويتم في زمن الأعياد، وتستمر طقوسه بضعة أيام، حيث يتوجه بعضهم إلى تلك الأماكن سعياً لإنهاء حياته اعتقاداً بالخلاص من عذاب المستقبل والتقمص. وتعد الهند كلها، خاصة منطقة كوروكشترا شمال غربي الهند، مكاناً مقدساً للحج.

وتختلف الآمال المرجوة من الحج باختلاف الأماكن المقدسة، ومعظمها ينشد الصحة والغنى والأطفال والتحرر من الخطيئة والولادة الثانية في الجنة والتقمص الأفضل وغيرها، فالهدف من زيارة معبد ساريا (الشمس) على سبيل المثال هو الشفاء من الجذام، أما التوجه إلى معبد براهمان المقدس فهو الخوف من الموت، وثمة أماكن أخرى لتجنب التنبؤات الفلكية السيئة.

ويحج أهل الصين إلى مكان واحد، هو هيكل المعبود تيان الأعظم. أما اليابانيون من قبيلة شنتو فهم ملزمون بالحج إلى هيكل شهير في ولاية اسجى مرة واحدة في الحياة، يؤمونه صيفاً مشياً على الأقدام، ويلبسون ثياباً بيضاء خاصة، كما يتوجب على البوذيين واليابانيين الحج إلى بركان فوجي ياما قرب طوكيو (إيدو) مرة واحدة سنوياً.

وفرضت الشريعة الموسوية على اليهود الحج إلى مكان وجود تابوت العهد، وأمرتهم بالذهاب إلى الهيكل المزعوم في القدس (أورشليم) ثلاث مرات في السنة في أثناء أعياد الفصح والحصاد والمضال، لتقديم الذبائح التي لا تقبل إلا هناك (سفر الخروج:23). وتقتصر هذه الفريضة على الذكور دون الإناث (سفرالتثنية:13).

واستمرت عادة الحج إلى بيت المقدس مع قدوم السيد المسيح، يرسلون إلى صهيون كل سنة تقدمات وقرابين ثمينة من سورية وبابل ومصر وإيطاليا وسواها، فعظم غنى الهيكل وصارت أورشليم من أغنى المدن، إلى أن خربها الامبراطور الروماني «تيتوس» عام 70م، وأجلا عنها اليهود، وبعد ذلك منعهم الامبراطور هادريان (132م) من دخول القدس. بيد أنه سمح لهم بالوقوف مرة واحدة في السنة على جبل الزيتون، يبكون فيه يوماً بدلاً من ثلاثة أيام (التاسع من آب)، عند المسيحيين يطلق لفظ الحج على زيارة الأماكن المقدسة في فلسطين، تلك الأماكن التي شرفها السيد المسيح بولادته، موته وقيامته، في القدس والناصرة وبيت لحم وغيرها.

وتشير الروايات التاريخية إلى أن أول حج للقدس كان في أوائل القرن الثاني الميلادي، ثم تكررت هذه الزيارات وتتابعت منذ القرن الرابع الميلادي، حينما اعتنق الامبراطور قسطنطين المسيحية عام 337م وجعلها من الديانات الرسمية للدولة الرومانية.

وتبدأ رحلة الحج لدى المسيحي عند وصوله إلى المدينة المقدسة بالصوم والصلاة ثم زيارة القبر، حيث يطرح عليه ملحفة يحتفظ بها لتكون كفناً له عند موته. ثم يزور جبل صهيون وجبل الزيتون ووادي يهوشافاط وبيت لحم وجبل تابور وغيرها من الأماكن المقدسة التي تتعلق بمعجزات السيد المسيح. وبعد أن يستحم في نهر الأردن يأخذ من أريحا غصناً من النخل ليقدمه عند رجوعه إلى الخوري لوضعه على المذبح علامة لتكميل زيارته، ولذلك سمي زوار فلسطين بالنخليين، ويسمى الحاج عند المسيحيين بالمقدسي نسبة إلى بيت المقدس.

في الاسلام فرِض الحج في السنة التاسعة للهجرة، ويجب على المسلم أن يحجَّ مرة واحدة في عمره، فإذا حج المسلم بعد ذلك مرة أو مرات كان ذلك تَطوعاً منه.

على مستوى المعاني التي تؤديها هذه المشاركة السنوية الجمعية تبرز تبرز عدة معاني بين المجتمعين في هذا اليوم.

في الحج تزول كل الفوارق وبتطبيق ميداني عملي؛ فيخلع الناس ملابسهم الملونة ويتشحوا بالبياض ولا يغطون رؤوسهم فيخرجون شعثا، ولا ينتعلون أحذية فاخرة فيمشون أقرب الى الحفاة ويرجعوا الى ربهم كما ولدتهم أمهاتهم يغلفهم لباس واحد أبيض مشترك يذكر بالكفن والقبر واجتماع يذكر بالحشر يوم القيامة والميزان، وهكذا فالصفة الأولى للحج أنه انساني ودعوة ابراهيم عليه السلام لم تكن لطائفة محددة بل كان أذانه للناس كافة (وأذن في الناس بالحج) فجاء اللفظ مكرراً مشدداً (الناس) أن يأتوا من أقصى المعمورة من كل فج عميق من طائرة كونكورد وقطار مغناطيسي وسفن عابرة للقارات، ولعل ما يميز الحج في هذه النقطة أنه لا توجد مدينة على وجه الأرض الا وقد جاء منها حاج وبذلك يكون الحج مؤتمراً عالمياً للتجمع البشري.

فهو يمثل مسيرة إلى بيت الله الحرام طافحة بالشوق، وهو منتهى القرب الذي يمكن أن يسمو إليه العبد من ربه في هذه الحياة الدنيا. فالعبادات الأخرى ذِكْر لله، بينما الحج ذكر وقرب من بيت الله، من مهبط النور والوحي والإيمان. وإذا كانت العبادات الأخرى يؤديها المسلم في بلده وبين أهله، فالحج عبادة على مستوى الحضور والمشاهدة لبيت الله العتيق، والنزول في ضيافته، لذلك سُمّي الحجاج: ضيوف الرحمن.

عندما يقف الحاج أمام الكعبة يعتريه شعور عميق بالطمأنينة والهدوء، وتصغر الدنيا في عينيه.

وللحج معنى ينفرد به عن سائر العبادات الأخرى، حيث قال الله تعالى: ]وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً، وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ[ (سورة آل عمران: الآية 97). فذكر الكفر بعده ولم يذكر ذلك في سائر الفرائض، ليُعلم أن معنى الحج غير معنى سائر الفرائض.

فالصلوات لتكفير السيئات، قال تعالى: ]وَأَقِمِ الصَّلاَةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ[ (سورة هود: الآية 114). والزكاة طُهرة للنفس وزكاة لها ]خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا[ (سورة التوبة: الآية 103). والصوم تطهير للبدن وكف عن الشهوات. ولكن الحج يتمتع بأهمية خاصة بين العبادات، لذا وُصف بأنه "أفضل العبادات". وهذه الأهمية الخاصة تكمن في (روح) الحج، وليس في (مظاهره)، فليس الحج فقط، أن يذهب المسلم إلى مكة، ثم يعود، بل "الحج المبرور" أن يستشعر المسلم عظمة هذه الفريضة، وأن يتمتع بالروحانيات، التي من أجلها فُرضت. فكون الحج "أفضل العبادات" يعني أنه يُصبح أفضل عبادة لِمن يؤدي شعائره بروحه الحقيقية، وآدابه الصحيحة. والحج مؤتمر عالمي للمسلمين لأجل بقاء ديانتهم نقية من غير تحريف أو غموض.

والحج تجديد للصلة بإمام الملِّة، إبراهيم والتشبع بروحه والمحافظة على إرثه، والربط بين حاضرنا وماضينا، واستعراض واقع المسلمين الراهن، وتصحيح ما فيه من أخطاء أو فساد، وإعادته إلى أصله ومنبعه (ملة إبراهيم).

والحج ايضا تحقيق للمساواة، والوحدة، والسلام، بين المجتمع الإسلامي، وهو طريقة فذة لتدريب المسلم على السلام، فهو رحلة سلم إلى أرض سلام، في زمن سلام.

جعل الله البيت الحرام مثابة للناس وأمنا، لأنه أراد سبحانه أن يصبح بيته مثابة يثوب إليها الناس جميعا، ويرجعون إليها، ويجتمعون فيها، ويتفيؤون في ظلاله الإحساس بالأمن والطمأنينة، فلا يروعهم أحد، ولا يعتدي عليهم معتد، بل يأمنون فيه على أرواحهم وأموالهم. فالبيت ذاته مستقر الأمن، ودوحة الطمأنينة والسلام، يأمن فيه الخائف، ويلجأ إليه المطرود. ويرى الرجل قاتل أبيه فلا يثأر منه، مادام في البلد الحرام، أو الشهر الحرام، أو البيت الحرام، قال سبحانه ]وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا[ (سورة البقرة: الآية 125).

الحج تزكية للنفس وارتقاء علوي بها الى مراتب سامية لا يستطيع المسلم في بقية ايامه الوصول اليها الا بالجهاد الاكبر (جهاد النفس) وهو لا يستطيعة الا من اوتي حظا عظيما.

قد تسامح من يدافعك او يزاحمك في طريق او مكان ما مرة او مرتين او حتى عشرا لكنك ستغضب في مرة اخرى وقد يتطور غضبك الى السباب والشتم والى ما لا يحمد عقباه، لكنك في الحج لا تملك الا ان تذوب تسامحا وانت تتدافع مع الملايين على الوصول الى نقطة محددة، وتمنع لسانك من انتقاص الاخرين، فجوارحك كلها معلقة الى اللامتناهي تبتهل اليه ولا تلتفت الى الاخرين بغير الحب الذي يملأ جوارحك وحواسك، وتتنبه الى لحظات الضعف البشري فيك واذا بها لحظات عنفوان وقوة تحجز عنك السوء الذي قد يرافق حركة حياتك في ايقاعه طيلة ايام السنة.

لا يملك المسلم في ايام الحج الا ان يعود الى فطرته السليمة التي فطره الله عليها، فطرة التوحيد والمحبة والسلام.

شبكة النبأ المعلوماتية- السبت 20/تشرين الثاني/2010 - 13/ذو الحجة/1431

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1431هـ  /  1999- 2010م