في شرعية الحاكم في زمن غيبة الإمام المعصوم (عليه السلام)

الشيخ فاضل الصفّار

تنبع شرعية الحاكم ونظام الحكم في زمان الغيبة من أمرين:

الأول: ولاية الفقيه الجامع للشرائط.

الثاني: رضا الأمة.

وقد تقدم الكلام مفصلاً في الامر الأول من المبحث الثاني، وأما الامر الثاني فهو المستفاد من متضافر الادلة؛ اذ لا إشكال في لزوم تحصيل رضا الأمة في شرعية أي نظام حاكم؛ بداهة ملازمة السلطة للتصرف في شؤون الناس المالية والنفسية ونحوها، والأصل الأصيل فيه هو عدم الجواز كما هو مقتضى قانون السلطنة والأدلة الخاصة المانعة من التصرف في شؤون الغير إلا بطيب أنفسهم، وهو ما قامت عليه سيرة العقلاء، وهذا مما لا كلام فيه، وإنما الكلام في طرق إحراز رضا الأمة، والمعروف المشهور في ذلك طريقان:

الأول: هو الانتخاب، وهو اختيار مشهور فقهاء الامامية.

الثاني: البيعة، وهو اختيار مشهور العامة، بل ولعله المجمع عليه بينهم.

وتفصيل الكلام في ذلك يستدعي التعرض إلى الانتخاب وأدلته الشرعية والعقلية، وكذا البيعة والنظر في أدلة كل من الطرفين.

الطريق الاول: الانتخاب ويمكن الاستدلال على لابديته في شرعية الحاكم ونظام الحكم بأدلة:

الدليل الأول: حكومة العقل

 ويمكن بيانها من جهات ثلاث:

الأولى: الضرورة العقلية؛ لاستقلال العقل بقبح الفوضى والهرج والفتنة ووجوب إقامة النظام وحفظ المصالح العامة وبسط المعروف ورفع الظلم والفساد والدفاع عن نواميس المجتمع وحقوقه، ولا يحصل ذلك كله إلا في ظل دولة صالحة عادلة نافذة ذات شوكة وقدرة قائمة، وتمتلك سيادتها وسلطتها؛ إذ لا يمكن لكل أحد أن يضمن ذلك أو يقوم بمهامه، كما لا يمكن أن يقوموا بها متفرقين؛ لأنه نقض للغرض، ومستلزم للفساد،  فلا بد وأن يقوموا به متحدين ومتوحدين في هيئة أو جماعة ينتخبونها، ويفوضون لها ذلك، وليس ذلك إلا الدولة، وأفضل سبيل إلى ذلك هو الانتخاب والاختيار؛ بداهة أن اتفاق الآراء طراً على رأي واحد مستحيل عادة، خصوصاً مع اختلاف الأنظار وتعدد الأذواق والمشارب، كما ان ترجيح بعضهم على بعض من غير مرجح، او عدم الترجيح مستلزم للمحذور المتقدم، فلم يبق إلا الانتخاب والترجيح بواسطة الأكثرية؛ للابدية العقلية لعدم وجود خيار آخر، ويمكن حينئذ إثبات ذلك شرعاً أيضاً بواسطة قاعدة الملازمة [1] ؛ لكونه من المستقلات العقلية .

الثانية: الضرورة الاجتماعية؛  بداهة أنه لا بد للناس من دولة وحكومة، والدولة لا تخلو من أن توجد بالنصب من قبل الله تعالى مالك الملوك، أو من الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) ، أو من أوليائه وحججه(عليهم السلام)، أو تكون بقهر قاهر على الأمة بالظلم والاستبداد،أو تكون بالانتخاب من قبل الأمة وبرضاها، فإن تحققت الدولة والحكومة بالنصب الإلهي فلا كلام لما قدمناه من تقدم النص على الانتخاب، ولكن المفروض في المقام عدمه؛ لأن الكلام في زمان الغيبة لا في زمان النص، وعليه يبقى عندنا خياران: أحدهما أن نقول بقيام الدولة التي تستولي على الناس بالظلم والجور، وهذا يحكم العقل بقبحه، ويتنزه عن تشريعه الحكيم، فيتعين الثالث، وهو الانتخاب من قبل الأمة، وهو المطلوب؛ ولأجل ذلك استمرت سيرة العقلاء في جميع الأعصار والظروف على الاهتمام بذلك، وتعيين الولاة والحكام بانتخاب من هو الأصلح والأليق بنظرهم، وإظهار التسلم والإطاعة له، ولن تخلو حياة البشر حتى في الغابات وفي العصور الحجرية أيضاً من جماعة أو رئيس ما يحفظ  كيانهم، ويدافع عن مصالحهم، ولعل مما يعضد ذلك طائفة من الآيات والروايات:

منها: قوله سبحانه وتعالى: {فبشر عبادي الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه}[2] فإنها كاشفة عن محبوبية اتباع الأحسن والأفضل وممدوحيته، ومن مصاديقه عرفا هو الانتخاب الحر.

ومنها: قوله: { وأمر قومك يأخذوا بأحسنها}[3] .

ومنها: في الرواية الشريفة: «إذا رأيت الناس يأخذون بالحسن فخذ بالأحسن» وغيرها مما تشير إلى ذلك تضمناً أو التزاماً.

الثالثة: الضرورة الشرعية، وهي مستفادة من فحوى قاعدة السلطنة بتقريب: أن العقل والوجدان يشهدان على تسلط الناس على الأموال التي حازوها أو أنتجوها بنشاطاتهم وأعمالهم، واستمرت سيرة العقلاء على التزامهم بذلك في حياتهم ومعاملاتهم؛ اذ يحكمون بحرمة التعدي على مال الغير ويعدونه ظلما، وهو ما حكم به الشرع أيضاً، حتى صار هذا من الضروريات ومسلمات فقه الفريقين ان يتمسكوا  بها في الأبواب المختلفة.

 وروى العلامة المجلسي رضوان الله عليه في كتاب البحار عن عوالي اللآلي عن النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: «ان الناس مسلطون على أموالهم»[4] وفي رواية أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام): «إن لصاحب المال أن يعمل بماله ما شاء ما دام حياً»[5] الكاشف عن تسلطه على ماله، فلا يجوز لغيره أن يتصرف به إلا برضاه، إلى غير ذلك من الروايات التي يستفاد منها هذه القاعدة الشاملة.

وعليه فإنه إذا قلنا بأن الناس مسلطون على أموالهم بحيث يكون لهم التصرف فيها إلا ما حرمه الله عز وجل وليس لغيرهم أن يتصرفوا في مال الغير إلا بإذنه فهم بطريق أولى مسلطون على أنفسهم وشؤونهم، فإن السلطة على النفس قبل السلطة على المال بحسب الرتبة، بل هي العلة والملاك لها، حيث إن مال الإنسان محصول عمله، وعمله نتيجة فكره وقواه، فهو بملكه لذاته وفكره وقواه تكويناً يملك أمواله المنتجة منها أيضاً؛ لأن الله تعالى خلق الإنسان مسلطاً على ذاته حراً مختاراً، فليس لأحد أن يحدد حريات الأفراد أو يتصرف في شؤونهم بغير إذنهم، فضلاً عن ملازمة السلطة للتصرف في أموال الإنسان أيضاً في مجالات الاقتصاد والعمل والتجارة والزراعة ونحوها.

 فعليه للأفراد أن ينتخبوا الفرد الأصلح ويولوه على أنفسهم، بل يجب ذلك بعدما حكم العقل بأن المجتمع لا بد له من نظام وحكم وأنهما من ضروريات حياة البشر، ولا يخفى أن توافق أنظار المجتمع وتعاضدها في تشخيص لياقة الشخص وكفايته يوجب كون الشخص اقرب إلى الواقع، وأوقع في النفوس، وأشد بعثاً على الإطاعة والخضوع وانتظام أمر الأمة، كما أن شارع الإسلام بعدما شرع للحاكم  شروطاً خاصة جعل منها الانتخاب ؛ إذ لا يصح انتخاب الفاقد للشروط والمؤهلات على ماستعرفه.

الدليل الثاني: سيرة العقلاء

 فانها مستمرة في جميع الأعصار والظروف على الاستنابة في بعض الأعمال، وعلى تفويض ما يعسر إنفاذه مباشرة إلى من يقدر عليه ويتيسر له، وخصوصاً في الأمور العامة التي تحتاج إلى خبرة ودقة نظر وقرار صائب وحسن تدبير، كالدفاع عن البلاد وإيجاد الطرق ووسائل الارتباط، وكذا التنمية الاقتصادية والاجتماعية والحرية السياسية والأمن والنظام ونحوها مما لا يتيسر لكل فرد فرد تحصيلها مباشرةً، فينتخبون لذلك حاكماً متمكناً، ويفوضونها إليه، ويساعدونه على تحصيلها.

ومن هذا القبيل إجراء الحدود والتعزيرات وفصل الخصومات، حيث إنه لا يتيسر لكل فرد فرد التصدي لها، بل يوجب ذلك الهرج والمرج واختلال النظام، فيفوض إجراؤها وتنفيذها إلى من يتبلور فيه كل المجتمع، وهو الوالي المنتخب من قبله، فوالي المجتمع كأنه ممثل لهم، أو وكيل عنهم، أو نائب في إنفاذ الأمور العامة.

والتمثيل والاستنابة والتوكيل أمور عقلائية قامت عليها السيرة العقلائية في كل الشروط، وفي جميع الأعصار والأمصار، ويكفي فيه إمضاء الشارع لها سكوته عنها مع اتصالها بزمنه، بل في نهج البلاغة في كتاب مولانا أمير المؤمنين (عليه السلام) إلى أصحاب الخراج ورد فيه: «فإنكم خزّان الرعية، ووكلاء الأمة، وسفراء الأئمة»[6] فعبر (عليه السلام) عن أصحاب الخراج الذين هم شعبة من شعب الولاة بوكلاء الأمة، فما بالك بنفس الحاكم او الوالي؟

 ومن الواضح أنه إذا تعدد المتصدون أو من لهم الأهلية في ذلك فإن أمكن جمعهم في مجلس واحد وكانت حاجة لذلك كان أولى؛ لأنه مقتضى الجمع بين الحقوق، وأما إذا لم يمكن الأول أو لم تكن حاجة إليه فإنه يدور الأمر بين ترك الحكم لكل جماعة يحكمون من يرتضونه، وهذا فوضى واختلال للنظام، أو ينصبون من يفي بالغرض بواسطة الانتخاب، وهو المطلوب.

الدليل الثالث: النصوص المتضافرة

 وهي متعاضدة  سنداً ودلالةً.

 منها: ما دل من الآيات والروايات على الحث على الشورى والأمر بها في مختلف الشؤون، وخصوصاً الحكومة والدولة، كقوله تبارك وتعالى: {والذين استجابوا لربهم وأقاموا الصلاة وأمرهم شورى بينهم}[7] في مقام بيان صفات المؤمنين، وحيث انها جملة خبرية في مقام الإنشاء تكون دلالتها على الوجوب آكد.

 وعن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): «إذا كانت أمراؤكم خياركم وأغنياؤكم سمحاءكم وأموركم شورى بينكم فظهر الأرض خير من بطنها»[8]   ووجه الاستدلال في كلمتي شورى والأمر، فإن الشورى تعني مبادلة الآراء وأخذ الأفضل كما هو المتبادر منها، ولها مصداقان:

 أحدهما: الشورى في إعمال الولاية وممارسة شؤون السلطة كما هو المتعارف في الحكومات والدول، ولعله هذا هو المتبادر منها أولاً.

ثانيهما: الشورى في التنصيب والتعيين، وإطلاق الأدلة يشمل الاثنين، والتبادر في الأول بدوي؛ ولذا قامت السيرة العقلائية عليهما معاً، ويؤيد ذلك ما في العيون عن الرضا (عليه السلام) بإسناده عن النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: «من جاءكم يريد أن يفرق الجماعة ويغصب الأمة أمرها ويتولى من غير مشورة فاقتلوه، فإن الله عز وجل قد أذن ذلك»[9] والحديث ظاهر في شورى التعيين لا في شورى الممارسة والتطبيق.

وأما كلمة الأمر في الآية وفي الروايات فتنصرف إلى المهم من الأمور، والحكومة من أهمها، وعلى فرض الشك في العموم أو الإطلاق الشاملين لكل أمر فإن القدر المتيقن منه هو الحكومة والسلطة. قال سبحانه وتعالى: {أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم}[10] وعن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) :«لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة»[11] وفي نهج البلاغة: «فلما نهضت بالأمر نكثت طائفة»[12] وفي كتاب مولانا الحسن المجتبى (عليه السلام) إلى معاوية: «ولاّني المسلمون الأمر بعده»[13] إلى غير ذلك من موارد استعمال الكلمة الواردة في شؤون الحكومة والسلطة لا في غيرها.

وعلى هذا فالولاية تنعقد بالشورى، ولها صيغ وطرق مختلفة، منها بواسطة شورى أهل الخبرة بعد انتخابهم من قبل الأمة، أو بمباشرة الأمة نفسها؛ إذ لا مانع بعد تحقق أصل الانتخاب بين أن يكون بالمباشرة أو بالواسطة كما هو المشاهد في تجارب الأمم والشعوب المختلفة؛ إذ ما دام لا يوجد نص خاص يعين أحد الطرق فمعناه أن الشارع أوكله إلى رأي الناس بما يرونه مناسباً لشؤونهم وطرقهم، كما هو مقتضى دلالة الاقتضاء.

ولا يخفى عليك أن المراد بالشورى هي التنصيبية في غير موارد النص، أي في غير زمان حضور المعصوم (عليه السلام) ، وإلا فإنه مع وجود النص لا شورى؛ إذ لا اجتهاد مقابل النص. نعم تبقى الشورى في شؤون التدبير والتطبيق، وأما في زمان الغيبة فيمكن القول بهما معاً، وبذلك يظهر بطلان ما يقوله العامة من شورى التعيين بعد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لتواتر النص في الآيات والروايات، فضلا عن دليل العقل على الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) ، ثم الأئمة الأحد عشر (عليهم السلام) من بعده. والظاهر أن المناقشة معهم صغروية تارة وكبروية اخرى؛ لأنهم ينكرون وجود النص لأمور وشبهات لا مجال لها، كما  يقولون بالتصويب والرأي، فتامل.

 ومنها: ما في كتاب سليم بن قيس عن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: «والواجب في حكم الله وحكم الإسلام على المسلمين بعدما يموت إمامهم أو يقتل ـ ضالا كان او مهتديا، مظلوما كان او ظالما ، حلال الدم او حرام الدم ـ أن لا يعملوا عملاً، ولا يحدثوا حدثاً، ولا يقدموا يداً ولا رجلاً، ولا يبدءوا بشيء قبل أن يختاروا لأنفسهم إماماً عفيفاً عالماً ورعاً عارفاً بالقضاء والسنة، يجمع أمرهم، ويحكم بينهم، ويأخذ للمظلوم من الظالم حقه، ويحفظ أطرافهم»[14]

وهو صريح في وجوب اختيار الناس لمن يقضي بينهم، ويحكم في شؤونهم، وينظّم أمرهم. نعم ذلك في صورة عدم النص، وظاهر الخبر أنه في مقام الإنشاء فيفيد وجوب الاختيار، كما ويعضده قوله: «الواجب» الذي هو نص في الوجوب فضلاً عن قوله: «في حكم الله وحكم الإسلام» الكاشف عن الوجوب الشرعي فيه إن لم يكن في الإرشاد؛ لأسبقية حكم العقل به.

 ومن الواضح أن الحديث دل على اختيار الأفضل بتوفر الشرائط، مما يكشف عن انقسام العلة في شرعية السلطان الى قسمين، هما توفر المؤهلات ثم الاختيار.

 نعم لا ينبغي الشك في أن ذلك يصح في زمن الغيبة وعدم وجود النص الخاص، وإلا فإن الاختيار متأخر رتبة عن النص كما عرفت، ويعضده ما في كتاب أعاظم الكوفة إلى مولانا سيد الشهداء (عليه السلام) ، وما في جوابه لهم، حيث جاء فيه: «أما بعد، فالحمد لله الذي قصم عدوك الجبار العنيد الذي انتزى على هذه الأمة فابتزها أمرها، وغصبها فيئها، وتأمر عليها بغير رضاً منها»[15] وفي جوابه (عليه السلام) لهم يقول: «وإني باعث إليكم أخي وابن عمي وثقتي من أهل بيتي مسلم بن عقيل، فإن كتب إليّ أنه قد اجتمع رأي ملأكم وذوي الحجى والفضل منكم على مثل ما قدمت به رسلكم وقرأت في كتبكم أقدم إليكم وشيكاً ان شاء الله»[16] .

فأعاظم الكوفة من أمثال حبيب بن مظاهر عدوا الإمامة أمر الأمة، واعتبروا فيها رضاها، والإمام (عليه السلام) جعل الإمامة رأي الملأ ورأي الولاة والأفاضل، وهو ينطبق عليهم عنوان أهل الخبرة وأهل الحل والعقد المستعقب قهراً لرضا الأمة ورأيها، كما هو عليه سيرة الأمم من تسليم زمامها إلى الخبراء والعقلاء منها.

ويعضد ذلك أيضاً ما في الدعائم عن مولانا جعفر بن محمد (عليه السلام) أنه قال: «ولاية أهل العدل الذين أمر الله بولايتهم وتوليتهم وقبولها والعمل لهم فرض من الله»[17] إذ الظاهر منه أن التولية من قبل الأمة فريضة من الله، فتكون هذه الولاية صحيحة ونافذة قهراً .

ومنها: ما في تاريخ اليعقوبي في غزوة مؤتة عن بعضهم ما ملخصه أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: «أمير الجيش زيد بن حارثة، فإن قتل فجعفر بن أبي طالب، فإن قتل فعبد الله بن رواحة، فإن قتل فليرتض المسلمون من أحبوا»[18] والحديث ظاهر، بل صريح في أنه (صلى الله عليه وآله وسلم) فوض انتخاب الأمير بعد ابن رواحة إلى أنفسهم، فيظهر منهم صحة ذلك، وانعقاد الإمارة له بأحكامها ولوازمها التي منها لزوم التسليم والطاعة، فيشمل ذلك السلطة والحكومة العامة؛ لعدم الخصوصية، أو بفهم عدم الخصوصية، ولا يقال: إنها قضية خارجية؛ لأن المورد لا يخصص الوارد، مما قد يستفاد منها كبرى كلية تجري في مختلف الشؤون التي لم يرد فيها نص على الحاكم فتفيد ان الأمر موكول للامة.

ومنها: ما في نهج البلاغة لما أرادوا بيعته (عليه السلام) بعد قتل عثمان. قال مولانا أمير المؤمنين (عليه السلام): «دعوني والتمسوا غيري، فانا مستقبلون امرا له وجوه والوان، لاتقوم له القلوب، ولاتثبت عليه العقول، وان الآفاق قد اغامت ، والمحجة قد تنكرت. واعلموا اني إن أجبتكم ركبت بكم ما أعلم، ولم أصغ إلى قول القائل وعتب العاتب، وإن تركتموني فأنا كأحدكم، ولعلي أسمعكم وأطوعكم لمن وليتموه أمركم، وأنا لكم وزيراً خير لكم مني أميراً»[19] ونحو ذلك ورد في تاريخ الطبري،[20] والكامل لابن الأثير[21] . ويظهر من الحديث أن الأمر أمر المسلمين، وأن توليته بأيديهم.

 إن قلت: لعل هذا منه (عليه السلام) كان من باب الغرض في قبال المنكرين لنصبه وخلافته.

 قلت: نعم، ولكنه ليس جدلاً بأمر باطل مخالف للواقع، بل النص كما عرفت مقدم على الانتخاب، لكن حيث إنهم لم يسلموا بنصبه أو أنكروا نصبه ذكر الانتخاب الذي هو متأخر عنه رتبة.

 وكيف كان، فانه يكشف عن ارتكاز العقلاء من الناس عن لزوم اختيار الحاكم في صورة عدم تنصيبه بالنص، ويعضد هذا المضمون طائفة من الروايات، ففي تاريخ الطبري بسنده عن محمد بن الحنفية قال: كنت مع أبي حين قتل عثمان، فقام فدخل منزله، فأتاه أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقالوا: إن هذا الرجل قد قتل، ولا بد للناس من إمام، ولا نجد اليوم أحداً أحق بهذا الأمر منك لا اقدم سابقة، ولا أقرب من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ، فقال: «لا تفعلوا، فإني أكون وزيراً خيراً من أن أكون أميرا» فقالوا: لا والله ما نحن بفاعلين حتى نبايعك. قال: «ففي المسجد، فإن بيعتي لا تكون خفيا، ولا تكون إلا عن رضا المسلمين»[22]

فجعل (عليه السلام) لرضا المسلمين اعتباراً، وجعل الإمامة ناشئة منه، وحتى على القول بأنه كان في مقام إلزام المنكرين أو معاملة الناس بما يعرفون ويعتقدون به فإنه كاشف عن أن الرتبة في تنصيب الأئمة واختيار الحكام عندهم بعد النص الخاص.

وفي الكامل ولما أصبحوا يوم البيعة ـ وهو يوم الجمعة ـ حضر الناس المسجد، وجاء علي (عليه السلام) فصعد المنبر وقال: «أيها الناس عن ملأ واذن، إن هذا أمركم ليس لأحد فيه حق إلا من أمرتم، وقد افترقنا بالأمس على أمر وكنت كارهاً لأمركم، فأبيتم إلا أن أكون عليكم، ألا وإنه ليس لي دونكم إلا مفاتيح ما لكم معي، وليس لي أن آخذ درهما دونكم» [23] .

وفي نهج البلاغة: «وإنما الشورى للمهاجرين والأنصار، فإن اجتمعوا على رجل وسموه إماماً كان ذلك لله رضاً، فإن خرج عن أمرهم خارج بطعن أو بدعة ردوه إلى ما خرج منه، فإن أبى قاتلوه على اتباعه غير سبيل المؤمنين، وولاه الله ما تولى»[24] وفي كتاب أمير المؤمنين (عليه السلام) إلى شيعته: «وقد كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عهد إلي عهداً فقال: يا ابن أبي طالب، لك ولاء أمتي، فإن ولوك في عافية وأجمعوا عليك بالرضا فقم بأمرهم، وإن اختلفوا عليك فدعهم وما هم فيه»[25] .  ولا يخفى أن الولاء وإن كان لأمير المؤمنين (عليه السلام) بالنص عندنا، ويدل عليه الخبر أيضاً، ولكن يظهر منه أن لتولية الأمة أيضاً أثرا، وان الأمر أمرهم، فيكون في طول النص وفي الرتبة المتأخرة عنه جمعا بين الادلة.

وفي شرح ابن أبي الحديد عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: «إن تولوها علياً تجدونه هادياً مهدياً»[26] فنسب (صلى الله عليه وآله وسلم) التولية إلى الأمة مباشرة، وهو ظاهر في حرية الاختيار.

ومن الروايات ما في كتاب مولانا الحسن بن علي (عليه السلام) إلى معاوية: إن علياً لما قبض ولاّني المسلمون الأمر بعده... فدع التمادي في الباطل، وادخل فيما دخل فيه الناس من بيعتي، فإنك تعلم أني أحق بهذا الأمر منك»[27] .

ويظهر من الحديث أن التولية حق للمسلمين، والاعتراض على ذلك بكونه جدلاً أو في مقام الإلزام قد مر الجواب عنه، ويعضده أيضاً ما في كتاب الصلح للامام الحسن (عليه السلام) مع معاوية. صالحه على أن يسلم إليه ولاية أمر المسلمين على أن يعمل فيهم بكتاب الله تعالى وسنة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وسيرة الخلفاء الراشدين، وليس لمعاوية بن أبي سفيان أن يعهد إلى أحد من بعده عهداً، بل يكون الأمر من بعده شورى بين المسلمين.[28] ويظهر منه أنه مع عدم التمكن من العمل بالنص تصل النوبة إلى شورى المسلمين وآرائهم.

 ومما روي أيضاً بطرق مختلفة عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: «ما ولّت أمة قط أمرها رجلاً وفيها أعلم منه إلا لم يزل أمرهم يذهب سفالا حتى يرجعوا إلى ما تركوا»[29] والحديث ظاهر في نسبة ذلك إلى الأمة، وان لها الخيار في تولية الزعيم والرئيس الذي تريده.

 ومنها: ما في العيون عن الرضا  (عليه السلام) بإسناده عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: «من جاءكم يريد أن يفرق الجماعة ويغصب الأمة أمرها ويتولّى من غير مشورة فاقتلوه»[30] إذ الظاهر من إضافة الأمر إلى الأمة مدخلية  اختيارها ورضاها في الولاية عليها.

ومن الروايات ما في معاهدة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) مع أهل مكة، وقد ورد فيها: «ليس عليكم أمير إلا من أنفسكم، أو من أهل رسول الله والسلام»[31]  وظاهره انتخابهم لأحد من أنفسهم، والعطف بأو في الجملة إما يفيد البدلية أو التأخر الرتبي، أي في صورة عدم نص الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) على الأمير يكون الخيار لهم.

 وكيف كان، فإن الحديث ظاهر فيما ذكرنا، ويعضده مضمونا ما في آداب السفر في مكارم الاخلاق من رواية حماد[32] ، وفي سنن أبي داود بسنده عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: «إذا خرج ثلاثة في سفر فليؤمروا أحدهم»[33]  وفي مسند أحمد عن عبد الله بن عمرو: أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: «لا يحل لثلاثة نفر يكونون بأرض فلاة إلا أمروا عليهم أحدهم»[34] فيعلم بذلك أن الاجتماع لا يصلح ولا ينتظم إلا بأمير، وتصلح الأمة بانتخابه إذا لم يكن منصوباً؛ إذ إن التأمير على الاثنين أو الثلاثة في الأمة في الأوامر الشخصية يكشف عن أولوية ذلك في الأمة في شؤونها  العامة.

ومنها: متضافر الآيات الشريفة الدالة على أن الله تعالى استخلف الإنسان في الأرض، ويمكن استظهار ذلك من طائفة عديدة.

منها: قوله تبارك وتعالى: {هو الذي جعلكم خلائف في الأرض فمن كفر فعليه كفره}[35] .

ومنها: قوله سبحانه وتعالى: {أمّن يجيب المضطرَ إذا دعاه ويكشف السوء ويجعلكم خلفاء الأرض}[36].

ومنها: قوله سبحانه وتعالى: {ثم جعلناكم خلائف في الأرض من بعدهم}[37] .

وصفوة القول فيها أن مقتضى هذه الآيات هو أن الله سبحانه شّرف الإنسان باستخلافه، وجعله خليفته في الأرض، فكان الإنسان بذلك خلقاً ممتازاً على جميع مخلوقات الكون، وبهذه الخلافة والاستخلاف استحق أن تسجد له الملائكة إكراماً وإعظاماً وإظهاراً لفضله ومقامه، واستجابة لأمر الله سبحانه وتعالى، ولا يخفى أن كون الإنسان خليفة الله في الأرض يستفاد منه أمران:

الأول: الخلافة في التكوين

كون الإنسان خليفة لله سبحانه في تمثيل أسمائه وصفاته الحسنى، فهو بما أنه خليفة الله عز وجل يحكي بوجوده قدرة الله المستخلف له وعمله، فهو يفكر ويهندس ويجد ويعمل، فيجعل الجبل سهلاً، والأرض القاحلة خصباً، والخراب عمراناً، والبراري انهاراً وسبلاً، ويولد بالتلقيح أزواجا من النبات والحيوان، ويتصرف في التنمية والاستثمار وبضروب التربية والتغذية والتوليد، فهو ينتفع بكل نوع منها، ويسخره لخدمته كما سخر القوى الطبيعية وسائر المخلوقات، ولأجل خلافة الإنسان لله سبحانه في الأمور التكوينية جعل الله تعالى عمارة الأرض على عاتقه حتى ينفذ بعمله، وتعميره للأرض تدبير الله سبحانه وتعالى، فقال: {هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها}[38] وكما أن الله عز وجل رب البقاع والبهائم ومدبرها فإن الخليفة مسؤول عنها، كما هو مقتضى الخلافة، ومسؤول عن العناية بها أيضاً، كما قال مولانا أمير المؤمنين (عليه السلام): «إنّكم مسؤولون حتى عن البقاع والبهائم»[39] وعن الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم): «ككلم راع وكلكم مسؤول عن رعيته»[40]  والخلاصة أن خلافة الإنسان لله سبحانه تجري في الأمور التكوينية بما أعطاه الله سبحانه من مقدرة وعظمة وقدرة على التفكير والهندسة والاستثمار والاستعمار.

الثاني: الخلافة في الحكم

إن الإنسان يخلفه سبحانه في الحكم والأمور الاجتماعية، ونعني بها الأمور الراجعة إلى القيادة والحاكمية والسلطنة، فإن كون الإنسان خليفة لله في الأرض لا يقتصر على ما ذكر، بل يعم كونه خليفة فيها في الحكم والحاكمية أيضاً، كما هو مقتضى إطلاق الاستخلاف؛ إذ من المعلوم أنه إذا كان الإنسان مسؤولاً عن البقاع مكلفاً بالعناية بالبهائم وتدبير شؤونها فإنه بالأحرى مسؤول ومكلف بتدبير نفسه ومجتمعه، وهذا ما يعبر عنه بخلافته عن الله سبحانه في الأمور الاجتماعية والسلطوية، أي الحاكمية، وعلى ذلك يكون معنى استخلاف الله للإنسان أنه خوّل إليه أمر القيادة وتدبير مجتمعه وممارسة الحكم والولاية في إقامة الضوابط والصور التي جاء فيها الدين الحنيف.

فخلافة الإنسان عن الله لا تنحصر في الأمور التكوينية من عمارة الأرض وغيرها، بل تعم حاكميته وقيادته نيابة عن الله سبحانه، فهو بوجوده الفردي يحكي عن أسمائه وصفاته، وبوجوده الاجتماعي يمثل حاكمية الباري عز وجل العليا في الأرض؛ إذ يستخلص مما ذكرنا أن للناس أن يزاولوا الحاكمية في الأرض بمقتضى الخلافة والنيابة عن الله سبحانه، ولكن من البين أن هذا لا يتحقق إلا بتقسيم المسؤوليات في عامة المجالات الحكومية حتى تختص جماعة لإدارة شؤون المجتمع الإنساني وسياسته، وعلى هذا الأساس تقوم فكرة سيادة الأمة وشرعيتها، وتتجه شرعية ممارسة الجماعة البشرية لولاية الحاكمية على نفسها، وبالتالي يبتني عليه مبدأ الانتخاب واختيار الشعب للحكام في النظام الإسلامي السياسي.

ومنها: الآيات والروايات المتضمنة للتكاليف الاجتماعية التي لوحظ فيها مصالح المجتمع الإسلامي بما هو مجتمع، وخوطب بها الأمة مع توقف تنفيذها على وجود دولة وقدرة مبسوطة اليد، فإن المجتمع بما أنه مجتمع وإن لم يكن له وجود واقعي وراء وجودات الأفراد بحسب النظر الدقي الفلسفي ولكنه عند علماء الاجتماع يتمتع بواقعية عرفية عقلائية، فله مظاهر ومزايا وآثار في مقابل الوجود الفردي، وتعتبر له خصوصيات الموت والحياة والرقي والانحطاط والحقوق والواجبات، كما هو الشأن بالنسبة للأفراد، فهو من حيث الوجود وإن كان عبارة عن مجموعة الأفراد إلا أنه من ناحية الاعتبار العقلائي له نظام خاص، وقيمة خاصة، وصفات وسمات خاصة، وقد اعتنى القرآن الكريم بتواريخ الأمم كاعتنائه بتواريخ الأشخاص أيضاً وقصصهم ومزاياهم، والشريعة الإسلامية كما أوجبت على الفرد في حياته الفردية واجبات فكذلك وضعت على عاتق المجتمع واجبات وتكاليف خوطب بها المجموع، ولعل الواجبات الكفائية ونحوها تشير إلى هذا.

قال تبارك وتعالى: {وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا}[41] والخطاب هنا موجّه إلى المجموع وليس إلى فرد خاص، وقال عز وجل: {وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين}[42] وقال عز وجل: {وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم}[43] وقال عز وجل: {والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا نكالاً من الله}[44] وقال تبارك وتعالى: {الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مئة جلدة}[45] إلى غير ذلك من الآيات التي جاءت بتكاليف شرعية وخوطب بها المجتمع من حيث المجموع، وروعيت فيها مصالحه.

 ومن الواضح أن المجتمع يتشكل من رجال ونساء وأطفال وشيوخ ومرضى ومعوقين وأصحاء ونحو ذلك، وطائفة منهم كبيرة لا يقدرون على ذلك امتثالاً لهذه التكاليف من إقامة الحدود والجهاد في سبيل الله والإصلاح بين البغاة والمؤمنين والإعداد للقوة وما أشبه، كما أن اصل الحرب والدفاع وتطبيق الحدود مما يحتاج إلى قوة وقدرة وإعداد وخبرة يتوقف تنفيذها على جماعة متفرغة لذلك، وقدرة وسلطة وجهاز حكم يتولى ذلك .

 إذاً فلا بد وبحسب دلالة الاقتضاء أن يقوم المجتمع بتشكيل دولة قادرة وقوية يفوض إليها مهمة القيام بهذه التكاليف والوظائف، وإلا كانت لغوية، أو انتهت إلى الاختلاف والفوضى وهدر الحقوق والدماء والأموال؛ إذ لا يعقل أن يتوجه إلى المجتمع التكليف ولا يكون على عاتقه إعداد ما يتوقف الامتثال عليه، فيجب عليه ذلك من جهة المقدمية؛ لأن ما يتوقف عليه الواجب واجب، وحيث انه ليس لكل فرد التصدي لها ارتجالاً لاستلزامه الهرج والمرج، فلا بد من ايجاد قانون ونظام وحاكم، وهذا هو مفاد الدولة والسلطة، وحيث تتعدد الاختيارات في تعيين هذه السلطة والحاكم تعيّن الرجوع إلى الانتخاب؛ لأن البدائل الأخرى غير وافية بالغرض، ولا موصلة إليه.

معاضدات ثلاثة

 يعضد مجموع هذه الأدلة أمور:

الأول: أن انتخاب الأمة للحاكم  وتفويض الأمور إليه نحو معاقدة ومعاهدة بين الأمة وبين الحاكم، فيدل على صحتها ونفوذها جميع ما دل على صحة العقود ونفوذها من بناء العقلاء، ومن مثل قوله عز وجل: {يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود}[46] ومن مثل قول الإمام الصادق عليه السلام في صحيحة عبد الله بن سنان: «من اشترط شرطا مخالفا لكتاب الله فلايجوز له، ولايجوز على الذي اشترط عليه، والمسلمون عند شروطهم فيما وافق كتاب الله عز وجل»[47] وغيره؛ بناء على شمول الشرط للاتفاق والتعاهد الابتدائي أيضاً، كما هو غير بعيد.

 إن قلت: وجوب الوفاء بالعقد يتوقف على كون العمل المعقود عليه تحت اختيار الطرفين حتى يقبل التعاقد عليه، لكن الولاية والحكم تقع في اختيار الأمة لا في اختيار الحاكم، فالأمة هي التي تختار حاكمها وتفوض إليه شؤونها.

 قلت: قد مرّ أن تعيين الوالي من قبل المجتمع وتفويض الولاية إليه كان أمرا رائجا متعارفا  في جميع الأعصار والقرون، وشائعاً حتى بين المجتمعات البدائية، وهو أمر اعتباري قابل للإنشاء،  فكانوا ينشئونها بصور عدة كالبيعة أو الاتفاقات القبلية التي يعقدها الرؤساء مثلاً في دواوينهم ونحو ذلك.

والآية الشريفة ناظرة إلى العقود العقلائية المتعارفة بينهم؛ لأن أدلة العقود إمضائية كما حقق في الأصول، فيستدل بها على صحة كل عقد عقلائي إلا ما دل الدليل على بطلانه، كالانتخاب مع وجود النص على خلافه، فإن من الواضح أنه مع وجود النص لا مجال للانتخاب، وكلامنا في صورة عدم وجود نص، وعليه فان الامر يدور بين تولي الحكام لشؤون الدول بواسطة القهر والغلبة، وهذا باطل وحرام، أو تترك الأمم والشعوب بلا حكومة، وهذا فوضى واختلال نظام، أو يترك الأمر للمتنازعين على الحكم والسلطة، وهذا أيضاً فوضى واختلال نظام، فلم يبق إلا تشريك الأمة في تعيين حكامها وتنصيبهم، وذلك هو مفاد الانتخاب.

الثاني: فحوى ما أفتوا به من الاختيار والانتخاب فيما إذا تعدد المفتي أو القاضي أو إمام الجماعة وجواز انتخاب قاضي التحكيم من قبل المترافعين، فإن ذلك أمر موكول إلى نفس المترافعين،  فبالأولوية القطعية يستفاد أن الحاكم والسلطان أيضاً هكذا؛ لأنه إذا كان أمر القضاء في الأمور الشخصية يرجع فيه إلى رأي الناس فكيف بالأمور العامة التي تهمهم وتنتهي إلى التصرف في أموالهم ونفوسهم وأعراضهم؟  نعم، إلا أن يقال هنا بأن الانتخاب في القاضيين وما أشبه يرجع إلى الممارسة والحكم والقضاء، وليس إلى التنصيب، وكلامنا في صورة تنصيب الحاكم والسلطان، فبين الموضوعين بون بعيد، لكنك عرفت أن الأدلة المتقدمة لا تفرق بين صورة التعيين والتنصيب أو صورة الممارسة.

الثالث: ما ربما يستفاد من الآيات والروايات الواردة بشأن البيعة، فإنها توحي ولو من بعيد إلى أن للأمة الاختيار والحرية في نصب الحاكم الذي تريد وإن كان لنا كلام في مسألة البيعة على ما ستعرفه إن شاء الله.

ومن الواضح أن هذه الطوائف المختلفة من الروايات وإن كان للمناقشة في بعضها سنداً وفي بعضها الآخر دلالة مجال، إلا أن المجموع من حيث المجموع قد يفيد الفقيه الاطمئنان بصدور بعضها ولو إجمالاً، أو ربما تتوافق في مجملها  على مفاد واحد، وهو أن للأمة الحق في انتخاب حكامها، ولا يبعد القول بأن هذا المفاد هو متواتر معنى، كما أنه معضود بطريق العقلاء لانعقاد الإمامة والولاية للحكّام عند مختلف الشعوب ومختلف الملل والأديان باختيار الناس، ومن يتولاها رغما عليهم يعدونه غاصبا معتديا، مما يكشف عن حالة ارتكازية عقلائية بينهم، وهي أن للأمة الخيار في تولية من تريد من الحكام إلا في صورة ما إذا نص الشارع المقدس على حاكم خاص؛ ولذا نقول بأن الانتخاب في غير عصر النص، وأما في صورة وجود النص فلا مجال للانتخاب.

الدليل الرابع: طائفة أخرى من الروايات، وهي في مجملها تدل  على مشروعية الانتخاب.

 منها: مشهورة أبي خديجة المتقدمة، حيث ورد فيها: «اجعلوا بينكم رجلاً»[48]  ودلالتها على كون الاختيار بيد الأمة ظاهرة.

ومنها: مقبولة عمر بن حنظلة؛ اذ  جعل (عليه السلام) تعيين الحاكم بيد المتخاصمين، وقال:  ينظران من كان منكم ممن قد روى حديثنا ونظر في حلالنا وحرامنا وعرف أحكامنا فليرضوا به حكما، فإني قد جعلته عليكم حاكماً[49]  مما يكشف عن أن المؤهلات الشخصية في الحاكم  جزء العلة في التنصيب، والجزء الثاني هو ارتضاء المتخاصمين به، فيكشف أيضاً بالأولوية عن أن اختيار الحكام والسلاطين كذلك؛ لعدم فهم الخصوصية أو فهم عدم الخصوصية في القضاء.

ومنها: أيضاً التعليل في قوله: «فإن المجمع عليه  لا ريب فيه»[50]  ومن الواضح أن المجمع عليه هو ما اتفقت عليه الأمة، وعمومه يشمل مسألة الحكم والسلطة، وكأن الإمام (عليه السلام) يجعل المجمع عليه طريقا إلى الوصول إلى الواقع، إلاّ فيما إذا كان هناك نص؛  إذ لا اعتبار للإجماع في مقابل النص.

 وعليه فإن الأمة إذا اتفقت على حاكم فسيكون هذا الحاكم مما لا ريب فيه، فينبغي الالتزام به وا طاعته، وربما يستدل على ذلك بمفهوم آية النبأ  كما في الحكم في الإسلام للسيد الاستاذ  اعلى الله مقامه حيث وردت الآية بلزوم التبيّن من أخبار الفاسقين حذراً من الوقوع في الجهل والندامة. يقول تبارك وتعالى: {إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين} فإن تعليل عدم جواز الانسياق وراء خبر الفاسق ناشئ من إصابة القوم بجهالة يعطي أن الانسياق وراء شيء لا يعد في العرف جهالة مما لا بأس به، ومن المعلوم أن الانسياق وراء رأي الأكثرية في تعيين الفقيه الجامع للشرائط أو الحاكم المختار من قبل الأمة إذا كان ممضى من قبل الفقيه الجامع للشرائط ليس من العمل بجهالة عرفا. نعم إلا إذا أورد عليه ما أورد على الاستفادة من الآية لحجية الشهرة الفتوائية، لكن يمكن الإجابة عنه بالفرق بأن العمل بالشهرة الفتوائية ينافي العمل بالكتاب والسنة؛ لأن ما دل على العمل بهما رادع عن العمل بغيرهما، بخلاف جعل الفقيه حاكماً، فإن ذلك موافق للكتاب والسنة.[51]

 ويعضد ذلك الأولوية،  فإنه لو كان اختيار القاضي برضا المتخاصمين وهو تصرف في شؤونهما كان الوالي الذي يتصرف بشؤونهما أولى . أما كون القاضي برضاهم فللنص والفتوى  إذا كان هناك قضاة متعددون، وأما الأولوية فهو المستفاد عرفا بعد ملاحظة النسبة بين الأمرين، وللتأمل في ذلك مجال.

الدليل الخامس: الأصل، حيث إن الشارع لم يعين أحد الحكام فالأصل يقتضي إباحة اختيار أي واحد منهم؛ لما ورد متضافرا عنه: «بأن كل شيء مطلق حتى يرد فيه نهي»[52]  وعليه فإنه ما دام الشارع لم ينصب  حاكماً معينا في زمن الغيبة، وإنما اكتفى بالجعل العام الذي افاد  لزوم الرجوع إلى الفقيه الجامع للشرائط، فان  معنى ذلك أن أصل الإباحة يثبت كون الحكم بالانتخاب من المباحات أيضاً، وإذا انطبق عليه عنوان إقامة العدل وحفظ الحقوق وحقن الدماء وما أشبه  يصبح من الواجبات، ويؤيده أنه الأقرب إلى الحرية الممنوحة للناس بحسب قوله عز وجل: {يضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم}[53] وربما يستأنس له بما يشاهد  في سائر الأحكام؛ إذ الإنسان مخير في تقليد أي مرجع يريد، ومراجعة أي قاض يريد، والصلاة خلف أي إمام عادل ونحو ذلك، فالتخيير في الحاكم بشكل أولى؛ لأهمية التصرفات التي يقوم بها في شؤون الناس العامة، هذا وهناك أدلة أخرى تثبت وجوب الانتخاب أو رجحانه على غيره.

* فصل من كتاب فقه الدولة

وهو بحث مقارن في الدولة ونظام الحكم على ضوء الكتاب والسنة والأنظمة الوضعية

** استاذ البحث الخارج في حوزة كربلاء المقدسة

*** للاطلاع على فصول الكتاب الاخرى

http://www.annabaa.org/news/maqalat/writeres/fadelalsafar.htm

 ........................................

[1] أي: كل ماحكم به العقل وكان في سلسلة العلل للاحكام الشرعية حكم به الشرع.

[2]  سورة الزمر: الاية 17 – 18 .

[3]  سورة الاعراف: الاية 145 .

[4] عوالي اللآلي: ج1  ص222  ح99 ؛ البحار: ج2  ص272  ح7 .

[5]  الكافي: ج7  ص8  ح10 .

[6]  نهج البلاغة: ص425 الكتاب 51  .

[7]  سورة الشورى: الاية 38 .

[8]  البحار: ج74 ص139 ح14 .

[9]  عيون اخبار الرضا: ج2 ص62 ح254 ؛  البحار: ج29 ص434 ح21 .

[10]  سورة النساء: الاية 59 .

[11]  البحار: ج32 ص194 ح143.

[12]  نهج البلاغة: ص49 الخطبة 3 .

[13]  مقاتل الطالبيين: ص35 – 36 ؛ البحار : ج44 ص40 ح1 .

[14]  سليم بن قيس: ج2 ص752 ح25 .

[15]  الارشاد: ج2 ص37 ؛ الكامل: ج4 ص20 .

[16]  الارشاد: ج2 ص39  ؛ الكامل: ج4 ص21 .

[17]  دعائم الاسلام: ج2 ص527 ح1876 .

[18]  تاريخ اليعقوبي: ج2 ص65 .

[19]  نهج البلاغة: ص136 الخطبة 92 .

[20]  تاريخ الطبري: ج4 ص427 .

[21]  الكامل: ج3 ص193 .

[22]  تاريخ الطبري: ج4 ص427 .

[23] الكامل: ج3 ص193 – 194 ؛ وانظر تاريخ الطبري: ج4 ص428 .

[24]  نهج البلاغة: ص367 الكتاب 6 .

[25]  كشف المحجة: ص180 .

[26]  شرح نهج البلاغة: ج4 ص81 .

[27]  مقاتل الطالبيين: ص35 – 36 ؛  البحار: ج44 ص40 ح1 .

[28]  كشف الغمة: ج2 ص196 .

[29]   البحار: ج44 ص63 ح12 .

[30]  عيون اخبار الرضا: ج2 ص62 ح 254 .

[31]  الطبقات الكبرى: ج1 ص 277  ؛ مكاتيب الرسولص : ج3 ص103 – 105 .

[32]  مكارم الاخلاق: ج1 ص537 – 538 .

[33]  سنن ابي داود: ج3 ص1129 ح2608.

[34]  مسند احمد: ج2 ص176 – 177 .

[35]  سورة فاطر: الاية 39 .

[36]  سورة النمل: الاية 62 .

[37]  سورة يونس: الاية 14 .

[38]  سورة هود: الاية 61 .

[39]  نهج البلاغة: ص242 الخطبة 167 .

[40]   البحار: ج72 ص38 ح36 .

[41]  سورة البقرة: الاية 190 .

[42]  سورة الحجرات: الاية 9 .

[43]  سورة الانفال: الاية 60 .

[44]  سورة المائدة: الاية 38 .

[45]  سورة النور: الاية 2 .

[46]  سورة المائدة : الاية 1.

[47]  الكافي: ج5 ص 169 ح1.

[48]  الوسائل: ج27 ص 139 ح 33421  باب 11 من ابواب صفات القاضي .

[49]  الوسائل: ج27 ص 136 ح 33416 باب 11 من ابواب صفات القاضي .

[50]  الوسائل: ج27 ص 106 ح 33334  باب 9 من ابواب صفات القاضي .

 

[51]  الفقه  الحكم في الاسلام : ج 99 ص 44- 45.

[52]  عوالي اللآلي: ج3 ص 166 ح 60 ؛ الوسائل : ج6 ص 289 ح 7998  باب 12 من ابواب القنوت؛ الوسائل : ج27 ص 173 – 174 ح 33530  باب 12 من ابواب صفات القاضي .

[53]  سورة الاعراف: الاية 157.

شبكة النبأ المعلوماتية- الاثنين 15/تشرين الثاني/2010 - 8/ذو الحجة/1431

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1431هـ  /  1999- 2010م