الصراع القيمي بين جيلين

محمد ظاهر

تقف البشرية اليوم على حافة من الصراعات القيمية، فيلاحظ العديد من المنظرين لمحصلات القرنين الأخيرين وإلى الآن، أن المجتمعات قد واجهت أخطر عدو لها عبر العصور، ذاك العدو المتحضر من الداخل، وبدلاً من استيعابه والتفاوض معه، ازدادت الفجوة المتراكمة بين مصلحة المجتمع ومصلحة تلك الفئة، وهي تلك الشريحة من الشباب والجيل الجديد، حيث نجده ارتدى طابع الحداثة ظاهرياً ويحمل في طياته طابع القدم، وبين أخرى كبيرة تناولت الأمور بطابع القدم.

ففي أحضان التطور التقني والتكنولوجي الأخير الحاصل في العالم خلال السنوات الأخيرة، وازدياد وتوسع وتيرة الثقافة وتعاظمها، على الرغم من ظهور بعض النقص في خباياها، التي هي ذات حساسية وأهمية لدى الفئة السائدة مستقبلياً.

إن مثل هذا النقص في هذه الجانب من الثقافة أدى إلى تمرد مجتمع النشء في حضن التطور التقني الهائل، وتمثل هذا التمرد بتمرد الشباب (الأبناء) على مجتمع الآباء، وتمرد الأدنى على الأعلى بكافة الصعد، حتى أن هذا التمرد وصل إلى السياسة والاقتصاد والدين، وتمرد البداوة والفطرة والغريزة على تلك الحضارة وكل محتوياتها - حضارة الآلة، كما تمثل بتمرد الوعي على العقل المنطقي المجرد والحلم على الواقع.

ولا نزاع حول واقعية التمرد على القيم الأخلاقية والفنية والسياسية في شتى أنحاء العالم، وإن كان هذا التمرد أكثر ظهوراً في المجتمعات النامية، حيث يسجل للمجتمعات المتطورة التي مرت وعاشت هذه الأجواء، عملية الالتفاف والتفاهم والدبلوماسية، حتى أصبحت ذات طابع حديث يكاد يخلو من القيم، وتملك المتمردون دفة وضع إقرار القيم والمعايير الاجتماعية التي لم يبقى لها أثر، أو سلطة تستطيع من خلالها ضبط المجتمعات، وبدلا من أن تكون القيم والمعايير هي الضابطة لأي مجتمع، أصبحت مضبوطة ومنمطة حسب احتياجات من يجب أن يكونوا متقيدين بها.

إن ظاهرة التمرد القيمي ليس بالظاهرة الحديثة، وإنما وعلى مر الأزمنة التي عاشتها البشرية دخلت نطاقاً من الصراعات التي لم تنتهي.

فكل جيل تناول من سبقه بالنقد والتمحيص والبحث وإظهار العيوب، وفي بعض الأحيان أخذ هذا التناول طابع الشدة والقسوة، وفي أحيان أخرى معول هدم وتدمير.

وهذا التعارض في وجهات النظر بين الأجيال المعاصرة، قد ينجم عنه خلافات قد تتطور إلى اضطرابات وثورات، سببها عدم الوفاق بين القديم والحديث، وهذا يبدو جلياً في البلدان النامية كون عجلة التقدم والتطور بطيئة إلى حد تظهر فيه الكثير من الخلافات.

وترجع أسباب هذا الصراع إلى ضخامة التقدم التقني في مجال المعلومات وأجهزة الإعلام والاتصال، الذي جعل الصراع أكثر وضوحاً في البلدان النامية لبطء عجلة الحداثة وندرتها في بعض الأحيان، والآباء وموقفهم الخاطئ لمواقف أبنائهم من الحداثة بشكل مختلف، في حين أن هذه المشكلة تندر بالظهور في الدول المتطورة التي كانت أساس هذا التقدم ودخلت السباق منذ بداياته.

ويرجع موقف آخر أن أسباب هذه المشكلة، هو وجود وبقاء عدة ثوابت في مجتمعاتنا تقف أحياناً معيقة للتقدم ومحفزاً لذاك الصراع، وهذه الثوابت هي:

1- الثابت الديني: الذي يقف دائماً كالمراقب الذي يرصد التحركات ويقيمها، ومن خلاله يقوم الآباء بتوجيه الملاحظات للأبناء، وأحياناً بشكل مغلوط مما يسبب فهم خاطئ للدين وقيمه.

2- الثابت الأخلاقي: إن الدول النامية ومن ضمنها مجتمعنا الشرقي له تقاليده الخاصة وأخلاقه، والتي بقيت إلى حد ما ثابتة دون تبدل، ويعود البعض منها إلى فترة بدايات القرن الماضي ومنتصفه، وهذه لا تتغير رغم كل محاولات التجديد، مما بنى حاجزاً اعترض طريق الناشئة، مما أدى إلى القفز فوقه وترك كل تأثيراته الحسنة والسيئة.

3- الثابت الطبقي: يوجد في مجتمعاتنا نوعين من القيم وهي:

آ- قيم الطبقة الغنية الميسورة.

ب- قيم الطبقة الفقيرة المعدمة.

ويضاف إلى ذلك مجتمع الريف الذي مازال محافظاً نوعاً ما على قيمه، وهذا جعل من التراكم الأخلاقي لا يسير في اتجاه واحد، سواء تراكمي عامودي أو أفقي، وإنما سار في مدار لولبي كل حسب طبقته ومنطقته.

ويشهد للأدب الدور الأكبر في تقديم الدليل على هذا الخلاف ومراحل نشوئه وأسبابه، فمثلاً نجد الأدب العربي وفي الكثير من الروايات الأدبية صورت الشارع العربي ومشاكله، ومن هذه الروايات، (الليل وآخره) للكاتب محمد جلال عبد القوي، التي صورت الجيلين-الآباء والأبناء- كل على حده بخصائصه وآدابه،حيث يظهر في هذا العمل البحث المستمر عن النقص والنقائض، التي كانت في القديم واستمرت، والذي سببت الكثير من المشكلات النفسية والاجتماعية تمثلت في صعوبة التأقلم والاتفاق، حيث نجد فيه الحداثة والحرية الأخلاقية والازدواجية المعيارية.

ومهما قيل في هذا الموضوع فينبغي لنا البحث في معيارية القيم، سواء أكانت هذه القيم قديمة ممثلة بجيل الآباء، أم محدثة متمثلة بجيل الأبناء ومصداقيتها، وإمكانية التزاوج والاصطفاء بين هذين النمطين المختلفين ظاهرياً المتماثلين ضمناً.

إن ثمّة وجهات نظر قيلت في هذا الموضوع، منها من قال بصحة الحديث وإمكانية تعميمه واستبدال القديم، ومنهم من قال بالقديم متذرعين بأن القديم هو الأصل، ومنهم من قال بالدمج والإستنتاجية من النمطين بما يتناسب كلاً من الجيلين.

وهنا يطرح سؤال لابد من الإجابة والبحث فيه: هل كل القيم القديمة خاطئة، وهل كل ما هو جديد صحيح ؟ … وأيهما سيتغلب في الآخر ؟

هذا التساؤل يدفع للبحث في إيجاد الأجوبة المقنعة لكلا الجيلين بين طيات وخبايا المعرفة والثقافة العلمية التقانية الحديثة....

شبكة النبأ المعلوماتية- الأحد 14/تشرين الثاني/2010 - 7/ذو الحجة/1431

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1431هـ  /  1999- 2010م