الاقتصاد الأمريكي وتحديات ما بعد الاشتراكية

علي الأسدي

احتلت الولايات المتحدة وبريطانيا وألمانيا وفرنسا موقع الصدارة في الاقتصاد الرأسمالي العالمي لأكثر من قرنين من الزمن، كانت لها خلالها الهيمنة شبه الكاملة على أسواق وثروات شعوب العالم، لكن التاريخ الذي لا يتوقف عن الحركة، يكتب أحداثه خارج ارادتنا ورغما عنا.

استطاعت الولايات المتحدة بفضل تقدمها الاقتصادي أن تزيح الدول الثلاث لتحتل دور القيادة للاقتصاد العالمي. لكن الولايات المتحدة كغيرها من الدول الرأسمالية واجهت تحديات كبرى عبر تاريخها، بعضها خارجيا والآخر داخليا ممثلا بالأزمات الاقتصادية التي واجهتها منذ قيامها بدءا من أزمة عام 1816 – 1819 وانتهاء بالأزمة الحالية التي بدأت في 2007، التي ما زال الاقتصاد الامريكي والعالمي ينوء بتبعاتها حتى اليوم، ولا تبدو في الأفق القريب علامات تفاؤل بحلول قريبة لها.* ( تفاصيل الأزمات الاقتصادية وتاريخها ضمن قائمة المراجع في نهاية الجز الأخير من مقالنا هذا)

لقد تم اطاحة النظام الاشتراكي في ثمانينيات القرن الماضي، واعتبر حينها حدثا تاريخيا سارا لدول العالم الرأسمالي، ولم تخفي قياداته دورها في ذلك كله، عندما اعترفوا بأنهم غيروا العالم دون اطلاق رصاصة واحدة. لكن الاستقرار والأمن العالميين لم يكونا أفضل مما كانا عليه في عهد الاتحاد السوفيتي، بل أسوء كثيرا بما لا يقاس بفترة وجوده. فقد تفجرت الصراعات والحروب المحلية والاقليمية في انحاء كثيرة من الاتحاد السوفيتي السابق وفي العالم أيضا، مما سبب نزوح الملايين من مناطق سكناها طلبا للأمن وفرص العمل، اضطرت دول العالم الصناعي بسببها الى تغير سياسات الهجرة في بلدانهم لوقف سيل المهاجرين اليها. كما اتخذت الصراعات القومية والطائفية منحا ارهابيا دمويا غير مسبوق، ويصبح من يوم ليوم أشد خطرا ورعبا، يهدد الاستقرار الاجتماعي والاقتصادي في أكثر دول العالم. لقد كان النظام الاشتراكي عامل استقرار وتوازن داخل محيطه والعالم، وربما ما زال الوقت مبكرا ليعترف الغرب بخطأ سياساته تجاه ذلك النظام.

إن واقع الحال بعد زوال الاشتراكية يشير الى أنه لا الولايات المتحدة الأمريكية، ولا الدول الاشتراكية السابقة، ولا دول العالم الثالث قد حققت ازدهارا اقتصاديا واجتماعيا تدين به لغياب الاشتراكية، بل أن بعضا من دول الاتحاد السوفيتي وأوربا الاشتراكية السابقة التي اختارت نظام اقتصاد السوق هي الآن أسوء اقتصاديا بكثير من أحوالها في ظله. كما أن الدول النامية قد تضررت كثيرا نتيجة حرمانها من الدعم المتعدد الأوجه الذي كانت تحصل عليه من الدول الاشتراكية السابقة، حيث كانت في أمس الحاجة له، ولم تعوضها الولايات المتحدة عنه عبر مساعداتها الخارجية. يذكرالكاتب والصحفي بيتر روزيه في مقاله في صحيفة غلوبل أيشوز بعض الحقيقة عن مساعدات الولايات المتحدة للدول الفقيرة في فترة الحرب الباردة فيقول: (1) " من المنظور السلبي للحرب الباردة كانت المساعدات الخارجية الامريكية للدول الفقيرة تهدف للتقليل من آثار الجوع وأن لم يكن من اجل الدوافع النبيلة، وكانت المساعدات الخارجية وانطلاقا من دافع الخشية ان ينتصر المعسكر الاشتراكي في المعركة الساخنة لكسب عقول وقلوب سكان العالم الثالث. في فترة الحرب الباردة كانت المساعدات الخارجية الامريكية تتحدد من خلال موقف ان العالم ينقسم إلى معسكرين متضادين، وفي مجال التطبيق يعني دعم الانظمة القمعية مثل ايران والفلبين والسلفادور واندونيسيا وبلدان اخرى لمجرد انها كانت حلفاء الولايات المتحدة، الحكومة الامريكية كانت تتصرف وكأن مصالحنا الحيوية تصبح معرضة للتهديد من قبل اية تجربة لا تقلد الاقتصاد الامريكي، ولا تعتمد السوق الحرة، و تراكم القطاع الخاص، واية دولة كانت تحاول تغيير قواعد هذا الاقتصاد مثل نيكاراغوا، كانت تعتبر بأنها انضمت إلى المعسكر الآخر معسكر الأعداء، وتتعرض لعقوبات سريعة ومن ضمنها تعليق المساعدات الخارجية وتسليح الجماعات المعارضة لتلك الحكومة" وتثبت الوقائع أيضا، أن مساعدات الولايات المتحدة الخارجية قد تناقصت إلى حوالي النصف بعد غياب الدول الاشتراكية، لأن أحد أهداف مساعدات الولايات المتحدة للدول النامية إبان العهد الاشتراكي، هو ابعادها من تأثير الشيوعية كما كان معروفا، وقد تلاشى ذلك التأثير الذي برر المساعدات في حينه. وقد بلغت المساعدات الخارجية الامريكية كنتيجة لذلك الى 0.15 % من مجمل الانتاج القومي الأمريكي، وهي اقل بالنصف من المساعدات الخارجية الالمانية، قياسا إلى مجمل ناتجها القومي، واقل بواحد على خمسة من المساعدات الخارجية لهولندا. كما هبطت المساعدات الخارجية الامريكية من 20.2 مليار دولار عام 1985 أثناء وجود الاتحاد السوفيتي إلى 12.3 مليار دولار عام 1994 بعد غيابه، وبقيت على نفس المستوى منذ ذلك الحين. (2)

واذا كان زوال الاشتراكية السوفيتية قد اعتبر انتصارا للسياسة الأمريكية وللنظام الرأسمالي، على الأقل حاليا وفي المستقبل المنظور، فان تحديات جديدة اقتصادية وسياسية وعسكرية بدأت بالظهور على الخارطة العالمية، ولن يمر وقت طويل قبل أن تفقد الولايات المتحدة سيادتها على عالم القطبية الواحدة اذا لم تقم بما قامت به لتقويض الاشتراكية السوفيتية، والحفاظ على موقعها كأكبر واقوى قوة اقتصادية وعسكرية في العالم. ففي عالمنا الراهن تتصاعد بسرعة قوى اقتصادية وسياسية وعسكرية لا يمكن تجاهل وزنها، فروسيا تتحرك من جديد لاحتلال دور الاتحاد السوفيتي السابق، وفي هذه المرة لا تقودها الايدلوجيا وقيم الاشتراكية، بل قيم اقتصاد السوق والتنافس للهيمنة على الثروات الطبيعية ومراكز النفوذ أينما كان ممكنا. وتعزز روسيا مكانتها في سوق وصناعة السلاح من جديد، وعلى أسس أكثر تقدما، مستعينة بالتقدم التكنولوجي الأمريكي الذي اصبح في متناول يدها، بعد أن كان محذورا على الاتحاد السوفيتي. وليس غريبا أن نشهد سباقا جديدا للتسلح، وما يتبعها من تنافس على القواعد العسكرية الاستراتيجية في البر والبحر وحتى في الفضاء، والبحث عن الحلفاء مقابل المصالح المشتركة. وقد تم اعادة الحياة للتحالف الروسي- الصيني الذي ضم اليه أخيرا الهند ثاني أكبر حشد سكاني في العالم، وبذلك تكون روسيا قد احتوت تحت مضلتها أكبر تجمع بشري في عالمنا.

 وإذا اعتبرنا الصين الشعبية كقوة اقتصادية صاعدة قائمة بذاتها، فهي لوحدها تشكل تحديا خطيرا للولايات المتحدة الأمريكية. فهي تحتل المرتبة الثانية قبل الولايات المتحدة كثاني أكبر اقتصاد في العالم، وتبني أضخم ترسانة عسكرية في تاريخها، وتحوز على أكبر جيش تحت السلاح، وثاني أضخم أسطول بحري تجاري وعسكري، تنتشر سفنه وغواصاته في بحار ومحيطات العالم. تجاريا اجتاحت الصين كل أسواق العالم الرأسمالي بسلعها الاستهلاكية الواسعة الاستعمال والرخيصة الثمن والتي تضاهي في جودتها منتجات اليابان وسنغافورة وبريطانيا وفرنسا وأمريكا ذاتها. أسواق أوربا بكاملها من لعب الأطفال إلى الصناعات الالكترونية، ومن الملابس إلى الأثاث والسيارات مصنعة في الصين، وأغلب الموازين التجارية للبلدان الصناعية الكبرى مع الصين سالبة، وحركة غزو أسواق البلدان النامية في أوجها، حيث أرغمت صناعاتها التي شيدتها في حقبة الستينيات بمعونة السوفييت وغيرهم قد أجبرت على التوقف تماما.

وتحاول الحكومة الأمريكية دون جدوى اجبار الصين على تغيير سعر صرف عملتها الوطنية لتعديل الميزان التجاري السالب معها، لكنها لم تنجح لأن السلع الصينية منافس يصعب قهره، مع العلم أن الولايات المتحدة مدينة بحوالي تريليون دولار للصين، وهو سلاح ذو حدين يمكن أن تستخدمه الصين لو رغبت لاحداث ازمة مالية خانقة.

كما لايمكن تجاهل القوة الاقتصادية الصاعدة للاتحاد الأوربي الذي تأخذ مركز الصدارة فيه ألمانيا، حيث يحشد اليمين الألماني المسيحي المتطرف جماهير واسعة ومتزايدة لاعادة الاعتبار لشعارات نقاوة الجنس الألماني التي رفعت أدولف هتلر إلى السلطة قبيل الحرب العالمية الثانية.

وتتصاعد في اليابان حمى المشاعر القومية العدائية ضد روسيا والصين الشعبية. فقد أشعل فتيل الشعور القومي اصرار روسيا على ملكية جزر الكوريل التي سبق للاتحاد السوفيتي احتلالها إبان الحرب العالمية الثانية، وترفض روسيا التفاوض حولها أو عقد معاهدة سلام معها منذ ما بعد الحرب العالمية الثانية. وقد ساعدت الزيارة التي قام بها رئيس جمهورية روسيا للجزر أخيرا على زيادة التوتر بين البلدين وسببت غضبا عارما بين اليابانيين. كما أن ادعاءات الصين بملكية بعض الجزر القريبة من الشواطئ اليابانية التي تعتبرها اليابان جزء من البر الياباني، قد فاقم مشاعر الغضب العارم داخل اليابان ضد الصين.

هل ستستطيع الولايات المتحدة الحليفة الأقرب لليابان الابقاء على السلام العالمي في الوقوف على الحياد في نزاع يتخذ منحا عدوانيا من قبل دولتين ذريتين. وهل ستعتمد اليابان على الولايات المتحدة وهي تراها تفقد موقع زعامة العالم، أم ستحاول بناء قوتها الذاتية اذا لم تكن قد بدأتها فعلا لحماية مصالحها الوطنية؟ سؤال يصعب الاجابة عليه في الظرف الراهن، حيث يبدي الفرقاء جميعا الحكمة الظاهرة، ولكن هل سيكون للحكيم كونفيسيوش صوتا مسموعا اذا ما تيقن الروس والصينيون أن دور الولايات المتحدة قد انتهى.

أما التحديات الأعظم الأخرى التي تواجه الولايات المتحدة الأمريكية والتي تتصاعد دون توقف، فهي من داخلها ذاتها، ممثلة بالأزمات الاقتصادية الدورية والطارئة، واليها يعود انكماش دور الولايات المتحدة في العالم. لقد كانت الأزمات وما تزال سببا رئيسيا في تباطؤ النمو الاقتصادي الأمريكي، وعجزه عن توفير فرص العمل الكافية للعاطلين، بعد أن كان الاقتصاد الأمريكي ولفترة طويلة من الزمن يستقبل أكثر من نصف مليون عامل سنويا من قارات العالم المختلفة. الخبير الاقتصادي الدولي روبرت شيلر** الذي حضر " ندوة جاكسون هول الاقتصادية " التي عقدت في أب 2010 لتقييم الاقتصاد العالمي في الأمد البعيد، علق على بحث ألقي في الندوة بعنوان " بعد السقوط " قدمه كارمن راينهارت وفينسنت راينهارت، قائلا :

 " وفقاً لهذا البحث، وبالمقارنة بالسنوات العشر التي تسبق الأزمات المالية كتلك التي بدأت قبل ثلاثة أعوام، يكون نمو الناتج المحلي الإجمالي وأسعار الإسكان أدنى، وتكون معدلات البطالة أعلى في السنوات العشر التالية للأزمة، وقد يستنتج المرء من هذا أننا سوف نواجه سبع سنوات أخرى من الأوقات العصيبة. الواقع أن النظرية الاقتصادية ليست متطورة إلى الحد الذي يسمح لها بالتنبؤ بنقاط التحول الرئيسة، استناداً إلى مبادئ أو نماذج حسابية أولية، وهذا يعني أننا لابد أن نعتمد على التاريخ في الأساليب التي نستخدمها، قد يكون التاريخ علماً اجتماعياً 'طيعاً'، ولكن يتعين علينا أن نرجع إليه، بل حتى التاريخ البعيد، إن كنا راغبين في فهم أمثلة أخرى للأزمات الكبرى ".

الخلاصة التي خرج بها الخبير شيلر، هي، أن هناك أسبابا ربما تكون مشتركة وراء تكرار كل تلك الأزمات الاقتصادية، ولكن، لا السيد شيلر ولا السادة راينهارت، لم تكن لهم الجرأة لتوجيه الأنظار صوب عيوب سياسة " الحرية الاقتصادية "، الحرية التي تتناسخ في أحشائها أكثر الكوارث الاقتصادية ضررا للمجتمع ولعملية النمو الاقتصادي.. لقد كانت المضاربات المالية في السندات والأسهم والأراضي وراء أكثر الأزمات الاقتصادية دمارا التي عرفها التاريخ الاقتصادي للولايات المتحدة والتي آخرها ازمة الرهون العقارية. ووفق النظرية الاقتصادية الرأسمالية فإنه ينبغي أن يترك اقتصاد السوق من دون تدخل قدر الامكان، وهذا هو المسار الذي تصر الحكومات الرأسمالية على اتباعه بالفعل، وتشجع بلدانا أخرى على الحذو حذوها، رغم ما ينطوي عليه من عيوب كثيرة.

الاختبار الحقيقي للاقتصاد الأمريكي

 الولايات المتحدة الأمريكية لا تنعم حاليا بأفضل فترات استقرارها وأمنها الاقتصادي، فهي تعيش عالمها الحقيقي، بكل ما تحمله من فوارق وصراعات طبقية، وبطالة فاقت خمسة عشر مليونا من الراغبين في العمل، لا يجدون فرص عمل تنهي معاناتهم من الفاقة، فمعونات البطالة لا تؤمن لهم أهم متطلبات العيش الكريم. تلك ظاهرة لا تشير إلى اقتصاد معافى، بل إلى اقتصاد واهن وعاجز. وكما أظهرت الأبحاث أخيرا، فان ما يصل إلى 100 مليون مواطن أميركي يعيشون في أسر تكسب أقل مما كان يحصل عليه آباؤهم في نفس أعمارهم (3).

واقع كهذا لم يأتي صدفة، ولا بالحدث الطارئ على الحياة الأمريكية، بل نتيجة سياسات خائبة وغير فعالة اتبعتها النخب السياسية الأميركية من دون نظرة استراتيجية اقتصادية قومية، كما وصفتها صحيفة الواشنطن. وبسبب غياب النظرة الاستراتيجية هذه عن تفكير الساسة والاقتصاديين الأمريكيين، فقد تم التعامل مع الأزمات الاقتصادية باعتبارها حالات طارئة، وبناء عليه، اقتصرت معالجاتهم لها على اجراءات طوارئ، عبر آليات مالية ونقدية لا ترقى لغير الحلول القصيرة الأمد، وهكذا كان الحال وما يزال عبر أكثر من قرنين من التاريخ الاقتصادي الأمريكي. آليات كهذه لا يتوقع منها أن تغير من واقع البنية الاقتصادية، أو قواعد توزيع الدخل والثروة في المجتمع الأمريكي، أو تحسين مستويات معيشة ملايين الناس، في حين يتطلب الواقع من الحكومات انتهاج سياسات اقتصادية طويلة الأمد، تعتمد خطط استثمار رؤوس أموال حكومية جديدة، وأخرى خاصة بتوجيه حكومي لحشد المزيد من الموارد الاقتصادية والبشرية لإعادة بناء وتطوير البنية الاقتصادية، وتجديد البنى التحتية المتآكلة التي وضعت الولايات المتحدة في مراتب خلف اليابان وهونغ كونغ وكوريا الجنوبية.

فعبر النشاطات الموجهة حكوميا يمكن تحريك عجلة الاقتصاد الأمريكي الواهنة، وعبرها فقط يمكن ضمان المزيد من فرص العمل لتحسين مستوى معيشة الملايين. لقد تمكنت الدول الرأسمالية بعد الحرب العالمية الثانية أن تحقق ازدهارا اقتصاديا استمر لحوالي عقدين من الزمن دون أزمات اقتصادية تذكر، ولم يتحقق ذلك عبر مقولة " دعه يعمل.. دعه يمر " الخائبة، بل عبر التوجيه والاستثمارات الحكومية التي لعبت فيها قروض الولايات المتحدة وخبرتها دورا مهما، ولولا التوجيه الحكومي والتخطيط المسبق (خطة أو مشروع مارشال) حينها لما أعيد بناء أوربا ووضعها من جديد على طريق النمو والرخاء والاستقرار.

بحسب الكاتب الأمريكي مات ميلر : " يبدأ الاختبار الحقيقي للاقتصاد الأمريكي متى ما تجاوزنا فقاعات الاسكان والبنوك التي تسببت في الركود العظيم. وعندما يتعلق الأمر بذلك التحدي- الذي يضمن مستويات أفضل للمعيشة الأميركية في عالم يشهد منافسة كونية- فإننا إما لا نعرف ماذا نفعل، أو إننا نعرف، لكنه يبدو أن لدينا القليل من النية للقيام به." (4) لقد أخفقت الحكومة الأمريكية وحكومات الدول الصناعية في حل المشاكل الاقتصادية التي تواجه اقتصادها، ولولا أزمة الرهن العقاري في الولايات المتحدة، لما كشف النقاب عن حقيقة تلك المشكلات. وبدا واضحا بعد ذلك، كم هو هش اقتصادها، وكم هي صعبة الخيارات التي ينبغي على الحكومة الأمريكية اتباعها للتعامل مع ما يواجهها من مصاعب.

 في مقال للمرشح السابق للرئاسة الأمريكية عن الحزب الديمقراطي القس جيسي جاكسون (5)، نشرته صحيفة البيان الاماراتية، سلط الضوء فيه على بعض جوانب الاخفاق في سياسة حكومته فيذكر - " إن مبلغ 750 مليار دولار المقدمة لاغاثة المصارف المتعثرة ليست هي التكاليف الوحيدة التي سيتحملها البنك الاحتياطي الفدرالي، بل هناك تكاليف كثيرة قد غض الطرف عنها. إنها التكاليف المهولة التي لا تفكر الخزانة حتى بحسابها، وهي التكاليف البشرية للركود العظيم. لقد خسر البلد حوالي 5,8 ملايين وظيفة. وخسر ملايين الناس بيوتهم. لقد ركزت خطة الإنقاذ المالي على وول ستريت بينما أهملت مصالح المواطن الأمريكي العادي، إذ لم تقدم أية مساعدات حقيقية لمالكي البيوت ".

لقد أظهرت أزمة الرهن العقاري أنه ليس اليونان و الدول الصناعية الكبرى تواجه أزمة اقتصادية حقيقية فحسب، بل الولايات المتحدة الأمريكية المتربعة على قمة أكبر اقتصاد في العالم، ولا أحد يتجاهل حقيقة أن ما تمر به أمريكا حاليا سيؤثر سلبا على دورها القيادي السياسي والاقتصادي والعسكري في العالم. فدينها العام تجاوز 13.4 تريليون دولار في الربع الاخير من عام 2010، بما يعادل 92 % ناتجها القومي المحلي الاجمالي، وهو الأعلى منذ أكثر من قرنين من التاريخ الأمريكي. ويتوقع المحللون في وزارة الخزانة الأمريكية، أن الدين العام سيرتفع باضطراد، وسيبلغ في عام 2014، 18.3 تريليون دولار بما يقرب من 100 %، ويتوقع أن يستمر في التزايد ليصل إلى 170% ناتجها القومي في عام 2020.(6)

 وتواجه اليابان وهي ثالث اقتصاد في العالم من المشكلة ذاتها، حيث يتوقع أن يبلغ دينها العام نهاية العام 2014، 240 % ناتجها القومي. وليس وضع ألمانيا رابع اقتصاد في العالم بأفضل حالا، فدينها العام تجاوز 5.1 تريليون دولار بما يعادل 155 % ناتجها القومي المحلي الاجمالي، وهو الأعلى منذ عام 1945، بما يجعل عبئ الدين العام لكل مواطن ألماني 22588 ألف يورو. وتخطط الحكومة الألمانية لاستدانة 43,4 بليون يورو هذا العام وحده لمواجهة التزاماتها المالية. ومن أجل بث التفاؤل في مزاج الشعب الألماني، أعلنت المستشارة الألمانية، أنها ستحقق فائضا مقداره 80 بليون يورو في ميزانية عام 2014 المالية، قالت المعارضة عنها أنها مجرد ضجة فارغة. وتخطط الحكومة الألمانية من أجل جمع هذا المبلغ لتقليص ميزانية التكافل الاجتماعية للفقراء، لتشمل ايقاف معونة التدفئة للفقراء في فصل الشتاء، وتخفيض المساهمات الحكومية الى صناديق التقاعد، مثل هذه التخفيضات يصعب الدفاع عنها أو تبريرها، في حين خفضت الحكومة الضرائب على دخول الأغنياء.(7)

وفي بريطانيا بلغ عجز الميزانية الحكومية في الربع الثالث من هذا العام 155 بليون باون استرليني، بينما تراوح الدين العام الداخلي والخارجي مجتمعين بحدود 7.9 تريليون باون، بما يوازي 416 % نتاتجها القومي لعام 2009. ويعتبر هذا الرقم عشرة أضعاف الرقم الذي كانت الحكومة قد صرحت به سابقا. مما يجعل حصة المواطن البريطاني الواحد من أعباء هذه الديون 300000 ألف باونا استرلينيا. فيما بلغ الدين العام الفرنسي 5.1 تريليون دولار بما يوازي 188 % ناتج فرنسا القومي لعام 2009. (8)

 وتشير توقعات الخبراء الاقتصاديين أن أزمة مالية جديدة في طريقها للوقوع، وأن التاريخ المحتمل لحدوثها لن يتعدى العام 2012، (9) وهو أمر يصعب نفيه، ففي حالة الأعباء المالية الراهنة التي تواجه أكثر الاقتصاديات في الدول الصناعية تقدما لا تبدو أي علامات تدعو للتفاؤل.

وتحاول البلدان المدينة التخفيف من أعباء ديونها بتخفيض النفقات العامة وبخاصة ميزانيات اقتصاديات التكافل الاجتماعية التي ينتفع منها العاطلون عن العمل وكبار السن وذوي الدخل المحدود، وغيرهم ممن دفعتهم السياسات الاقتصادية الرأسمالية القائمة على التوزيع غير العادل للدخل والثروة الوطنية نحو البطالة والفقر. ففي الوقت الذي تتجه حكومات الدول الصناعية لتخفيض ميزانيات المعونات الاجتماعية في بلدانها توجه بين 0.3 % إلى 5 % من نواتجها القومية لصالح ميزانية حلف الأطلسي التي لا تأتي بأي مردود اقتصادي(10).

 هذه المنظمة التي قامت أصلا لمحاصرة واضعاف ثم اسقاط الاشتراكية التي اتسعت شعبيتها بعد الحرب العالمية الثانية. ومع أن الهدف الذي قامت من اجله قد تلاشى في تسعينيات القرن الماضي، غير أن الحلف ما يزال قائما، وبدلا من الغائه، وتوجيه موارده المالية الكبيرة لخدمة التنمية الاقتصادية في البلدان الأعضاء، بدأ في التوسع والتمدد نحو بلدان كانت عضوة في حلف وارشو المنحل، حيث زاد عدد أعضائه من 15 دولة إلى 28 دولة، وما يزال مرشحا للزيادة.

إن تاريخ الحلف اقترن بمحاولات التدخل في شؤون الدول الأخرى، لمحاولة حرف سياساتها الوطنية المستقلة واجبارها على السير في ركاب الولايات المتحدة. لقد عارضت فرنسا سياسات الحلف، واشترطت تعديلات في قياداته وسياساته، لكن الولايات المتحدة التي تحتكر القيادة والقرار السياسي والعسكري لها حق رفض أي اقتراح لا يتناسب مع مصالحها الخاصة، وبناء على ذلك رفضت المطالب الفرنسية، اضطرت فرنسا على إثره للخروج من أهم مؤسساته عام 1966. البلدان الأعضاء الثماني والعشرون، تشكل الهيكلية والبنية التحتية والمصدر الرئيسي لتمويل ميزانية حلف الأطلسي الضخمة. التزامات الدول الأعضاء المالية تجاه الحلف يشكل في الظرف الراهن عبئا ليس من السهل تبريره أمام شعوبها، بعد أن زال " بعبع الشيوعية " الذي قام من اجله الحلف اثنان وستون عاما مضت. وكان اللورد اسماي، وهو أول سكرتير عام للحلف الأطلسي بعد تأسيسه في 4 / 4 /1948 قد لخص مهمة الحلف بالشعار التالي : keep The Russians out , keep The Americans In , keep The Germans down. لقد أصبح واضحا أكثر من أي وقت مضى، أن وجود الحلف وجهده مكرسة بالمقام الأول لضمان المصالح الاقتصادية الاستراتيجية للولايات المتحدة في العالم. فهي من اقترحه، وهي من يعزز وجوده، وإلزام أعضاءه بالمساهمة في نشاطاته برغم عدم حماستهم لها، وتضغط الولايات المتحدة على الدول الأعضاء في الحلف بتخصيص 33 بليون دولار اضافية لتغطية تكاليف انضمام الأعضاء الجدد للحلف، لكن الدول الأوربية ترفض تحمل تلك التكاليف، فهي مهتمة بتنفيذ سياسة خفض النفقات العامة لمعالجة العجز في ميزانياتها الحكومية.

إن الوضع الاقتصادي الحالي يضع الدول الأعضاء أمام خيارات بالغة الصعوبة، ليس أسهلها الحديث عن رغبتها في تخفيض التزاماتها المالية والبشرية تجاه الحلف. ومما يجعل التفكير في تخفيض مهم في التزاماتها المالية تجاه الحلف أمرا بعيد الاحتمال في الظرف الراهن، هو الحرب التي بدأتها الولايات المتحدة على الارهاب عام 2001 ولا تبدو أي نوايا لوقفها. بل على العكس فهي في طريقها للتصاعد، فبعد أن اتسعت رقعتها لتشمل باكستان بعد أفغانستان والعراق، تتجه جنوبا نحو خليج عدن، حيث قواعد تعليم وتدريب، ومصادر تجنيد وتمويل مجاهدي الصومال والسعودية واليمن، أخطر مراكز الارهاب في العالم، مع العلم إن ملف العراق لم يغلق بعد. وعندما أعلنت الحكومة البريطانية عن نيتها لخفض نفقات ميزانيتها العسكرية في بداية أكتوبر الماضي بنسبة 10 %، ثارت ثائرة البيت الأبيض على لسان وزيرة الخارجية ووزير الدفاع الأمريكيين، مذكرين بالتزامات الدول الأعضاء في حلف الأطلسي، اضطر رئيس الوزراء البريطاني بعدها الى طمأنة البيت الأبيض بأن نسبة التخفيض لن تؤثر على التزامات بريطانيا تجاه الحلف.

 ليس فقط المصاعب المالية الناتجة عن الركود الاقتصادي ما يشكل تحديا للولايات المتحدة وجهودها لانقاذ الحلف من التآكل، بل المعارضة الشديدة لها التي تزداد اتساعا داخل مجتمعات الدول الحليفة لها. و قد تمت معاقبة الأحزاب السياسية التي شاركت في حكومات أيدت حرب احتلال العراق في أقرب انتخابات عامة بعد تلك الحرب، كما في حالة الحكومة البريطانية العمالية، والحكومة الأسترالية وعددا من حكومات دول الاتحاد الأوربي. وفي بريطانيا حيث تحكمها حاليا حكومة ائتلافية من المحافظين والأحرار، يضغط هذا الأخير لإنهاء الدور البريطاني في حرب العراق وأفغانستان. وفي الولايات المتحدة الأمريكية نفسها هناك رغبة واسعة من أوساط عريضة من المجتمع الأمريكي بالانسحاب من تلك الحروب، والتوجه الى معالجة المشاكل الداخلية الأمريكية. كل هذه المؤشرات هي وسائل ضغط مشروعة لإنهاء سياسة التدخل العسكري الأمريكي التي كانت وما تزال تجري على حساب الرخاء الاقتصادي والسلام والاستقرار السياسي والاجتماعي في العالم.

..........................................

1-بيتر روزيه – برامج المساعدات الأمريكية، غلوبل إشيوز، الاتحاد الكردستانية، 19 /9 / 2010

2- نفس المصدر السابق3-.مات ميلر- " الاقتصاد الأمريكي والركود العظيم " واشنطن بوست، جريدة الاتحاد الكردستانية، ترجمة سامي ناصر

4- نفس المصدر السابق

5- جيسي جاكسون - " تكاليف خطة انقاذ بنوك أمريكا " البيان الاماراتية، 28 /4 / 2010

6- Treasury Direct, Public Debt Reports, Historical Debt Outstanding

7- The Economist – 10 / 6 / 2010

8- Macer Hall, The Daily Express, 19/10/2010 , and The true extent of Britain debt, The Sepectator Blog- 8/11/1010

9- جريج أي بي- واشنطن بوست وبلومبورج سيرفيس، 30 / 10 / 2010، ترجمة صحيفة القوة الثالثة الألكترونية.10- NATO, Public Diplomacy Division- 10/6/2010

*- الأزمات التي تعرض لها الاقتصاد الأمريكي أو بعض دول أوربا هي: أزمة 1816- 1819 و 1825، و 1837، و1857، و1873، و1893، و1907، ثم الكساد الأعظم الذي رافق أزمة عام 1929. تلتها عام 1939 أزمة كبرى، دفعت أدولف هتلر لمعالجتها عن طريق الهيمنة على الدول الأخرى عبر اعلانه الحرب. وبعد فترة بضعة سنين من الانتعاش الاقتصادي رافقت إعادة اعمار أوربا الغربية، بعد الخراب الذي لحقها نتيجة الحرب العالمية حدثت فقاعة أسعار النفط في عام 1973و 1979،و أزمة مالية بداية التسعينات. وخلال ذلك حلت في إسبانيا أزمة عام 1977، و شيلي في عام 1981، والنرويج في عام 1987، وفنلندا والسويد في عام 1991، والمكسيك في عام 1994، وإندونيسيا وكوريا وماليزيا والفلبين وتايلاند في عام 1977، وكولومبيا في عام 1988، والأرجنتين وتركيا في عام 2001، وآخرها الأزمة الحالية التي بدأت في 2007 في الولايات المتحدة، والتي ما زالت البشرية تنوء بتبعاتها حتى اليوم، ولا تبدو في الأفق علامات تبعث على التفاؤل. لمزيد من الاطلاع راجع- Panic, Depressions and Economic Crisis Prior To 1930, thehistorybox.com

** أستاذ علوم الاقتصاد بجامعة ييل، وكبير خبراء الاقتصاد لدى مركز أبحاث الأسواق الكلية (LLC)، ولقد اشترك مع جورج أكيرلوف في تأليف كتاب 'الغرائز الحيوانية: كيف تحرك العوامل النفسية الاقتصاد، ولماذا يشكل هذا أهمية بالنسبة للرأسمالية العالمية'.

شبكة النبأ المعلوماتية- الأحد 14/تشرين الثاني/2010 - 7/ذو الحجة/1431

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1431هـ  /  1999- 2010م