مقدمة في نظرية القوة المقبولة

غادة عبد المنعم

في المقال السابق قمت بتمهيد لتصوري حول نبذ القوة الجبرية واستخدام نوع جديد من القوة أسميته القوة المقبولة وفي هذا المقال أقدم لكم النص الذى وضعته ليصور عملية اتصال عبر هذا النوع من القوة..

1- نص النظرية

" عند الاتصال أو التعامل بين عدة أطراف، وحيث أن كل اتصال أو تعامل ممكن، هو هادف بالضرورة لكسب نفعى لكل الأطراف المشاركة فيه، فعلى كل طرف ومهما كانت القدرات أو المميزات التي يتفوق بها على الطرف الآخر الالتزام بمنح الأطراف الأخرى المشاركة في هذا الاتصال – أو العلاقة - مكاسب للاتصال القائم، ذلك أنه لابد لاستمرار أي اتصال – أو علاقة - أن يحقق كل الأطراف المشاركين به مكسب أو مكاسب تهم كل منهم، وعلى ذلك فإنه لا يمكن أن يخرج أحد الأطراف المشاركة في أي اتصال– أو العلاقة - كفائز مطلق، أو أن ينتج عن هذا الاتصال – أو العلاقة – خاسر لم يحقق أي مكسب.

لذا فإنه يتوجب على كل طرف مشارك في اتصال – أو علاقة - أن يتخذ موقفا من المرونة بحيث يقبل بأكبر قدر من المكاسب التي تهمه مما يطرح عليه من باقي الأطراف المشاركة في التواصل، وألا يتعنت للحصول على مكسب كان قد قرر بشكل مسبق ضرورة الحصول عليه من الاتصال القائم، وعليه أن يتسم بتفهم للأطراف الأخرى التي تشاركه اتصاله، بما يتيح له كطرف في علاقة يرغب في نجاحها تهيئة الفرصة أمام الطرف أو الأطراف الأخرى التي تشاركه لتحقيق مكاسب مرغوبة من جانبهم، ذلك أنه لا يوجد ما يسمى باستحالة تحقيق مكاسب لكل الأطراف المتشابكة في أي شكل من الاتصالات أو العلاقات، و يجب اعتبار إنهاء أي اتصال إيجابي (سلمي/ نفعي)، والناتج دائما بسبب من عدم قدرة الأطراف المشاركة أو أحدهم على قبول مطالب الأطراف الأخرى وغاياتها، يجب اعتباره أقصى درجات الخسارة الممكنة لكل الأطراف المشاركة في الاتصال، ذلك أنه يمنع عنهم إمكانية للكسب والنفع والتي تتوفر (فقط) باستمرار الاتصال القائم.

أما التصادم بين الأطراف القائمة بفعل الاتصال – أو العلاقة – وتحويلهم الاتصال الإيجابي لاتصال سلبي، فحواه منازعات، حرب أو تهديد أو جبر أو أي سلوك يمثل ممارسة للقوة الجبرية أو يهدف للإضرار بالغير، فهو سلوك مرفوض حضاريا، ويستوجب درجة من درجات العقاب المباشر أو غير المباشر ( مضمر، تحتي،....إلى آخره) وموجه ضد الطرف الجالب للتصادم.

وحيث تتحقق للاتصال واستمراريته الأفضلية المرجوة، يتوجب على كل قائم به الاستمرار في البحث عن غايات جديدة لاتصاله تتيح له تحقيق مكاسب تناسبه، حتى وإن كانت غير مستهدفة ولا مكتشفة عند بداية اتصاله..! وكذلك البحث عن غايات جديدة للأطراف المشاركة بالاتصال القائم معه، هذا حيث أنه كلما اكتشف القائم بالاتصال إمكانات جديدة لكسب الأطراف الأخرى المشاركة، كلما حاز لأفضلية في الاتصال القائم، مع الأخذ في الاعتبار أن الطرف الذى يحقق منافع لطرف آخر، هو بالضرورة يمتلك قوة يمارسها على الطرف المستفيد، بسبب من قدرته على ممارسة الحرمان ضد الآخر المستفيد، وهذا النوع من القوة يكسب حائزه حصانة، لا تستمر، بالضرورة، باستمرار التلويح بفعل الحرمان، وإن كانت تتحقق بالتأكيد بسبب من إدراك الطرف الآخر لحجم القوة التي يمتلكها عليه القائم بتوفير الفائدة له.

لذا تزداد قوة القائم بالاتصال بزيادة (ما يحققه من عمله: في توفير منافع للأطراف التي تشاركه اتصاله، وسعيه لدعم عملية اتصاله بقدرات ابتكاريه، مبدعة، تمكنه من توفير منافع جديدة، متجددة وغير منتهية لمشاركيه الاتصال، منافع تتغلب على العوائق المهددة بنهاية غرض الآخرين من الاتصال معه، وتبصرهم بمكاسب متوفرة في الاتصال القائم، مكاسب لم تعَّرف أو تكتشف لهم فيما سبق).

***

وقد يدهشنا كيف يمكن لنظرية ما، مجرد نظرية تصف إمكانية يمكن أن يتم بها الاتصال، أن تتعمق في تشكيل حياتنا. وحتى يمكننا فهم كيف لنظرية للاتصال أو نموذج له أن يؤثر في كل فعل ورد فعل قد نقدم عليه في حياتنا علينا أن ندرك أن تأثير الاتصال علينا لا يفرضه علينا فقط أن حضارتنا البشرية تقوم على الاتصال، ولكن أيضا لأننا كبشر لا يمكن لنا إنتاج فكرة ما، أو القيام بفعل أي فعل إلا من خلال عدد معقد من عمليات الاتصال، والتي تضم فيما تضم عدد من عمليات فك وصياغة الشفرات، وكم من عمليات إعادة خلق الروابط والصلات بين معلومات تردنا منفصلة وتخزن في ذاكرتنا كذلك، وكذلك عدد من عمليات تفكيك البنى، وإعادة البناء من جديد حيث نقوم في كل ذلك بعملية من الاتصال مع ذواتنا من ذاكرة وقدرات تحليلية وغير ذلك، هذا بالإضافة لحقيقة أن كل ما هو مخزن في ذاكرتنا من معلومات قد ورد إلينا عبر عدد من عمليات الاتصال، ونحن نقوم بكل تلك العمليات الاتصالية السريعة مئات المرات إن لم يكن آلاف المرات يوميا لكى نحصل على فكرة ما أو نصل لنتيجة أو قرار ما، أو حتى لتكوين جملة بسيطة كجملة : من فضلك، إعطني هذا الكوب من الشاي. فجملة كهذه تحتاج لاستدعاء معلومات مخزنة لدينا، هذا الاستدعاء هو اتصال داخلي يتأثر من حيث الجودة والنوعية بقدرتنا وبيئتنا في اللحظة التي نقوم به فيها، وفيه يلزمنا معلومات عن اللغة التي ننطق بها الجملة وهى معلومات حصلنا عليها من خلال عمليات اتصال (تأثرت بالبيئة التي تربينا فيها وفترة تعلمنا للغة المستخدمة) وقرارات تمت بصلة لمستوى ثقافتنا وتقديرنا للشخص الذى نخاطبه وطبيعة المكان الذى نتكلم فيه، وهذه القرارات يتم بنائها على أساس معلومات كنا قد حصلنا عليها طوال فترات حياتنا في عمليات اتصال تأثرت بالبيئة وطبيعة شخصيتنا ودرجة ذكائنا.

إذن فكل المعلومات التي نحتاجها لصياغة جملة واحدة هي معلومات تم الحصول عليها من خلال عمليات اتصال تأثرت بعوامل خارجية تحيط بنا وبصفات نتصف بها، ثم إن عملية صياغة هذه الجملة (وكل ما نتفوه به من كلام) تتم من خلال عملية اتصال ذاتي تتأثر بعدد من القرارات كما تتأثر بمؤثرات تؤدى لتشويش اتصالنا كالشعور بالصداع أو الضوضاء أو الغثيان أو الدوخة أو غير ذلك ومؤثرات أخرى قد تؤدى لمزيد من التنقيح –التحسين - للجملة المستخدمة كدرجة ذكائنا وانتباهنا ومستوانا الثقافي وسماتنا الشخصية وموهبتنا في التعبير عن ذواتنا وفي النهاية قد تتم كل هذه العمليات الاتصالية بنجاح وتسفر عن صياغة جملة ناجحة حيث نتمكن من التلفظ بدقة بما نرغب في قوله أوقد لا تنجح حيث ينتج عنها جملة غير دقيقة في التعبير عما نرغب في قوله أو غير مناسبة لما يجب أن يقال في هذه اللحظة لنتمكن من التواصل، حيث يصل ما نرغب في قوله لمن نتكلم معه ويفهمه كما نرجو.

 فإذا كان مجرد صياغة جملة واحدة مما نتكلم به يوميا يستلزم (أي يتم مصحوبا وتاليا) لكل هذه العمليات، ويتأثر بكل ما تأثرت به عمليات الاتصال التي احتاجها ذهننا ليتمم باستخدامها صياغة إنشاء جملته. فلاشك إذن أن حياتنا كلها والتي تقوم على عمليات اتصال عديدة، ستتأثر بعمق بأي تصور أو نموذج يتم طرحه لوصف أو تناول الاتصال.

2- اعتبارات واجب توفرها شريطة شيوع استخدام القوة المقبولة

وبسبب من أن أي عملية اتصال هي عملية تتأثر في الوقت نفسه بكل من البيئة التي يتم صياغتها فيها، وبالشخص الذى يقوم بهذه الصياغة وبكل سماته الذهنية والثقافية لذا وجب تحقق عدة اعتبارات، ضرورية لفكر كل من المتصل والمجتمع الذى يعيش فيه لكى يمكن لاتصال يتسم بما نصفه في النظرية أن يمثل الخيار المرغوب منهما، فلكى يدفع المجتمع أفراده ويحثهم لنبذ القوة الجبرية واختيار تعاملات تقوم على القوة المقبولة لابد أن يتحلى بتقدير للإنسان ووضع مصالحه من حيث الحياة والسلامة والسعادة كأولوية مطلقة، ولابد أن تشيع فيه ثقافة تدفع لتحديد الأخلاق، تحديد حقيقي بشكل حاد، وبعيدا عن الإدعاء والرياء لعرف أو لثقافة (كانت أو مازالت سائدة)، أو الرياء لطبيعة أو سمة بشرية ما، ولكن يتم تحديد الأخلاق بنزاهة مجردة، طبقا للحرص الشديد للحفاظ على مصالح الجميع ورعايتها.

 كذلك أن يسود المجتمع حرص حقيقي على عملية المشاركة، والإعلاء من قيمة التشارك وقيم المرونة والقبول بها بدلا من قيم التنافس والتكريس لفكرة الزعامة الواحدة أو النجم الواحد أو الموقف الواحد والصح الوحيد والنهائى، مع الإدراك التام لنسبية النجاح ونسبية الإيمان ونسبية كل صحيح ونسبية القدرة على التحكم أو السيطرة، بمعنى آخر انتشار ثقافة الإعلاء لقدرة الجماعات والأفراد داخل المجتمع على تغيير زوايا الوقوف التي تتخذها، وكل ذلك يستلزم أول ما يستلزم تطبيق الديمقراطية حيث لا يمكن لمجتمع غير ديمقراطي أن يجد في استخدام القوة غير الجبرية (المقبولة) الاختيار الأنسب له، أو أن يقبل بالتنافس الحر، والتعدد، ولابد أن يتسم المجتمع أيضا بدرجة من العملية والبرجماتية تدفعه لتفضيل الطرق المباشرة القصيرة في أي وكل موقف أو وضع، مع رغبة في النهوض والتنمية والدفع لحسن استخدام الوقت والفرص وهو ما يعنى ضرورة الإعلاء من قيم الصدق والسعي للتعامل الصادق ذلك حيث كما نعلم الصدق، طريق ممتد وآمن ومستمر، مع ما يتبع هذا الحس البرجماتي العملي من كراهية للفهلوة، وإدانة الحصول على أي مكاسب بلا جهد، مجتمع يعلى من قيمة الوقت والجهد ويكره الطرق الملتوية ويحث على التوجه مباشرة للنقاط الرئيسية في أي موضوع أو قضية، ثقافة ترفض عدم الرضوخ للتصورات المسبقة وتنبذ فرض القوة والسيطرة.

ولكن لأن مجتمعاتنا حتى الآن تبقى في درجة حضارية أقل من تلك الدرجة التي تدفع فيها بالأفراد لممارسة قوة غير جبرية، لذلك فأن تفضيل القوة المقبولة سيأتي غالبا كاختيار شخصي، لذا فإن الساعين لاستخدام هذه القوة سيتسمون بطبيعة فكرية معينة، حيث يعلو لديهم الاهتمام بالجانب الأخلاقي والرغبة في التزام الممارسات الأخلاقية، مع انفتاح يحدد الجانب الأخلاقي بكل ما هو خير ويجردهم من التمسك الغبي بممارسات لا هدف لها سوى رياء المجتمع وأعرافه، ويتميز كل منهم بقدرة على وضع نفسه في موضع الطرف الذى يتعامل معه (المستقبل لاتصاله) مع تميزهم بطبيعة تدفعهم للحرص على المشاركة والرغبة في الانخراط في الأداء الجماعي، وقدر من الذكاء يضفي على أشخاصهم نوعا من المرونة تمكنهم من تغيير زوايا وقوفهم بحثا عن الصالح المشترك في كل موقف، ولديهم من الجدية ما يحثهم على البحث عن رؤى وتصورات كل من يتعاملون معه حيث يفيدهم ذلك على المستوى المعرفي ويمنحهم القدرة على التواصل العادل، وتدفعهم هذه الجدية لتفضيل الطرق الصادقة المختصرة في التعامل وكره إتباع الطرق الملتوية.

هذه كلها سمات لابد من وجودها في أي شخص لتدفعه لاختيار إتباع هذه النوعية من الاتصالات، التي تقوم على ممارسة قوة غير جبرية مقبولة من الطرف الآخر الذى تمارس عليه، ذلك حيث تبقى طبيعة الفرد هي الفيصل في تبنيه لهذا الاتصال.

3 - مثال تخيلي يوضح النظرية

إذا تخيلنا أننا في مواقفنا التي نتخذها خلال حياتنا، أي خلال ما نقرره مسبقا عن كيفية سير علاقتنا مع الآخرين، أو خلال تسييرنا لهذه العلاقات، نمثل مجموعة من الأشخاص الواقفين على الكرة الأرضية. ثم تصورنا بعد ذلك، أن القناعات والمبادئ والمعتقدات التي يؤمن بها كل منا، والتي تمثل الحالة الاتصالية التي نتواجد عليها، ممثلة في هذا الشكل بمكان وقوف كل منا فوق الكرة الأرضية، أما الزاوية التي نقف بها فهي تمثل في هذا المثال طريقتنا في إظهار مواقفنا والسلوك الذى نسلكه تجاه الآخرين في عمليات تواصلنا معهم، سواء هؤلاء الموافقين لنا أو المخالفين، ولأن زاوية وقوفنا في هذا المثال تمثل السلوك الذى نسلكه في حياتنا عامة وحيث أن حياتنا هي مجموعة من عمليات الاتصال.

فلابد أن ما نملكه من مرونة في التعبير عن أرائنا سيظهر في قدرتنا على تغيير زوايا الوقوف التي نتخذها مع بقائنا في موضعنا نفسه - أي مع استمرارنا في الحفاظ على ما نؤمن به من معتقدات - فكل شخص يمكنه أن يحافظ على موضع وقوفه الذى يمثل هنا الرؤية الفلسفية والعقائدية له وكذلك قناعاته ومعتقداته، ولكن تبنيه لما تطرحه النظرية من نموذج اتصال يطالبه لكى يحافظ على حريات الآخرين المختلفين معه، وينجح في التواصل معهم ومدهم بمزيد من الخيارات، ألا يكتفي بالوقوف في موضعه محتفظا بشكل دائم بالزاوية التي يقف بها، ولكن عليه بالتحرك.

والتحرك هنا يأتي بتغيير زوايا الوقوف والحرص على عدم اتخاذ زاوية تدفعنا لمواجهة الآخرين (زاويا تقدر بـ 180 درجة) والتي تمثل زاوية تعني كما نعلم أن كلا الواقفان بها سيتواجهان دائما – يتصادمان أو على أفضل الفروض يتحاشان الاتصال - ولن يمكنهما التلاقي على مصالح مشتركة أبدا، الشخص المتبنى لنظرية الاتصال التي نحن بصددها هنا، لابد سيجد نفسه عند وجوده في هذا الحال يقوم تلقائيا بتغيير زاوية وقوفه ولو بنسبة قليلة، ليتمكن بذلك من العثور على نقطة للتلاقي - أي للتعامل - مع المتصل معه، دون أن يعنى ذلك التخلي عن موقفه الفكري – عن موضع وقوفه.

في المثال التوضيحي السابق سنرى الاتصال القائم بين البشر جميعا يتحدد بزاوية ميل كل منهم على الآخر وكذلك يمكننا أن نرى مجمل هذا الاتصال محدد على الكرة الأرضية بمجمل الخطوط المائلة التي تملأ الفراغات عليها بين البشر، ونرى نقاط انقطاع هذا الاتصال في الفارغات التي على شكل خطوط مستقيمة والتي توجد بين أي اثنين من الواقفين على الكرة. وعلى ذلك فيمكننا أن نوجز نظريتنا ونصفها بأنها تطالبنا باتخاذ أوضاع مواربة لا مواجهة من كل من يحيطون بنا لا في مواقفنا ولكن فقط في طرقنا في التعبير عن أنفسنا وتطالبنا من خلال هذه الأوضاع غير المتحدية أن نبحث عن المساحات الممكنة التشارك بيننا لنملأها باهتمامات جديدة قد تخلق بيننا وبين الآخرين، خط من خطوط الاتصال.

في المقال القادم أعرض لكم تطبيقات لهذه النظرية...

* مفكرة مصرية

شبكة النبأ المعلوماتية- الخميس 11/تشرين الثاني/2010 - 4/ذو الحجة/1431

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1431هـ  /  1999- 2010م