((المقدمة))
كانت ولم تزل موضوعة علاقة الإنسان بأخيه الإنسان، بما لها من تماس
مباشر باستقرار البشرية ومستقبلها، واحدة من أبرز الموضوعات التي
إستجلبت وإستوقفت العقل الإنساني، ولم يبد الأخير أدنى تقاعس أو تكاسل
عن الولوج إلى عالم المنظومات المُهيكلة والموشجة للعلائق التي تجمع
بني البشر على أعتاب هذه البسيطة، فراح يسبر أغوارها، غائصاً في عمق
دلالاتها، وباحثاً عن الموضوعة _ الإشكالية، والإنسان _ المستقبل.
إن انطلاقة العقل الإنساني، مع ما لها من رحابة، وإتساع في الأفق،
لا ريب في أنها ستتعرض لانتكاسات وتوقفات عديدة، كثيرة منها معظامة،
تناغماً للطبيعة التي سارت وتسير عليها، كما أن إختلاف اللحاظات _
المنطلقات _ التي يجعلها العقل مرتكزاته التي تمده بآلياته ومناهجه،
تلقي بظلالها على هذه الانطلاقية، جاعلة منها تتموضع، وفقاً لدلالات
متباينة، تموضعاً متعدد، يقترب تارة من السماء جاعلاً منها الممون
للممارسة العلائقية، مستمداً منها أسس التعاملات الإنسانية، أو أن يبحث
في الأرض عن حلول وضعية، علها ترفده بما يعينه على تجاوز عقبات (الإنسان
_ الإنسان).
إستمر العقل الإنساني يفكر، ويبذل الكثير من الجهد، للوصول إلى
أجوبة على تساؤلاته، ومع تنامي مديات التعقل البشري، طفت على سطح
المعرفة الإنسانية، جملة من النظريات الساعية لإعطاء إجابات، علها تكون
مقنعة، ولا شك في كون هذه النظريات لا تعدو كونها نتاجات، فهي تأملات
قام بها الإنسان حول الإشكاليات المعرفية التي توجس من مجاهيلها خيفة،
فراح يتترسن بالمعرفة، التي مثلت له تلك المشكاة النوَّارة التي تضيء
له ما إدلهم من مسالك عالمه الغريب، ما يعني أن النظريات التي طُرحت
على أنها حلول لإشكاليات العقل، لا سيما إشكالية علاقة الإنسان _
الإنسان، قد إصطبغت بصبغة المحيط الذي ولدت فيه، وتنفست الصُعداء على
أعتابه، وهذا ما يُلاحظ بجلاء في كافة النظريات الإنسانية، المراد منها
هيكلة المسيرة البشرية، بأدلجة منظوماتها، إلا النزر اليسير منها، أي
تلك التي جاءت من لدن السماء، لتسعف بني البشر بما يعينهم على تجاوز
العقبات المعرقلة لمسيرتهم نحو الكمال.
وبطبيعة الحال، فإن عدد لا يستهان به من النظريات، ذهبت إلى أن
علاقة الإنسان بأخيه الإنسان، تشوبها الريبة، وتساورها الظنون، ولعل
أبرز نظرية، ذهبت هذا المذهب _ في الوقت المعاصر _، وعبّدت مسالكه،
نظرية (صدام الحضارات)Theory of Civilizations Clash))، التي نظّر لها
الأمريكي صموئيل هنتنغتون، والتي أدلجت لحالة تصادمية توشج الحضارات
الإنسانية، لإختلاف المتبنيات الثقافية والفكرية لكل حضارة عن أخواتها،
حيث سعى هنتنغتون بنظريته _ التي لاقت رواجاً ما لم تلاقه غيرها _ إلى
تطبيع الصِدام الحاصل بين الحضارات الإنسانية العالمية، مرشحاً في
الوقت عينه، علاقة الحضارتين الغربية والإسلامية إلى المزيد من
الإلتحام اللا إيجابي، الناجم عن الاختلافات المنظوماتية، العقائدية _
القيّميّة التي تنطوي عليها كل واحدة من هاتين الحضارتين.
من الأهمية بمكان الإشارة إلى هذه النظرية، عبّرت عن نسقية معينة
من التناغم الايديولوجي ما بين العقلنة الأمريكية _ التنظير الأمريكي
الساعي إلى تقديم إجابات على تساؤلات العقل الإنساني _ وبين التحرك
الاستراتيجي الأمريكي، الرامي إلى وضع خطط تخدم المصالح القومية
الأمريكية، لذا يُلاحظ عليها أنها جاءت بعد أن تدكدكت عروش الإشتراكية
الماركسية، بفعل جملة من العوامل، منها وليس وحدها !!!، الحركة
الإصلاحية التي أطلق عنانها ميخائيل غورباتشوف في الاتحاد السوفيتي عام
1991م.
يراد من هذه الدراسة([1])أن تتوقف عند واحدة من أبرز الموضوعات
التي إستجلبت ذهنية الفرد الإنساني في عالمنا المعاصر، الذي أضحى قرية
صغيرة، بعد أن تنبأ بذلك أستاذ الإعلاميات الكندي (مارشال ماكلوهان) في
كتابه (القرية الكونية) عام 1969م، ألا وهي موضوعة (حوار الحضارات)
Dialogue of The Civilizations، لما لها من أهمية معظامة، يكفي
لإدراكها، التأمل في مستقبل الجنس البشري في حال إستعظام وإستفحال المد
التعصبي، الرامي إلى سيادة النظرة الإقصائية للآخر / المختلف، بغية
التأسيس لخطاب تكفيري الاتجاه والمبغى، وإن تسربلت تكتيكاته بأكثر من
جلباب، وسلكت طرقاً ما هي بالقليلة.
ليس من نافل القول الإشارة إلى أن موضوعة حوار الحضارات، تعد من
أكثر القضايا جدلاً، فلئن كانت القضية الجدلية _ كما يذهب المتخصصون في
الرأي العام _ هي تلك القضية التي تمس مصلحة أو ربما مصير الجماعة دون
أن يحصل عليها إجماع من قبل الجماعة ذاتها، فلا شك في المديات
التشكيكية – الجدلية التي تثيرها قضية الحوار الحضاري، خصوصاً إذا كانت
مرتمية في أحضان الفكر الإسلامي المعاصر، وسيتم التعرض في المستقبل إلى
الأسباب التي جعلت وتجعل هذه القضية جدلية أكثر من غيرها، تلك الأسباب
التي تتمثل أيضاً في كونها عقبات كؤؤدة تقف في وجه الحوار بين
الحضارتين الإسلامية والغربية، مضافاً إليها السعي الحثيث من قبل زعامة
الجانب الغربي لصناعة عدو جديد عقب إنهيار الاتحاد السوفيتي عام 1991م،
وتصريحات وزيرة خارجية الولايات المتحدة الأمريكية (مارغريت تاتشر) ((لقد
قضينا على الشيوعية وبقي علينا أن نقضي على الإسلام))، وما يدعم هذا
المذهب، النظرية الإستراتيجية الرائدة في حقل (العلاقات الدولية)
International Relations، والتي أثبتت نجاحها بلا نزاع، المبتنية على
ضرورة إحتوائية العالم على عدويقف على الجانب الآخر من اليابسة في قبال
القوة الأعظم في العالم _ مثلاً _ U.S.A لذا تتهيكل هذه النظرية لا فقط
على وجود العدو، بل على إيجاده إن لم يكن موجوداً من قبل، فالأمم
القوية – على حد تعبير الكاتب محمد حسنين هيكل[2]_ تبحث عن العدو أكثر
مما تبحث عن الصديق، لأن الأول يساهم في رفد وتدعيم الاستراتيجيات
القومية لهذه الدول أكثر مما يقوم بذلك الأخير.
ستنطلق هذه الدراسة التي تهدف إلى تسليط حزمة من الأشعة التحليلية
على موضوعة الحوار بين الحضارات، لا سيما الإسلامية والغربية، من فرضية
أن موضوعة الحوار أو لنقل آلية تنظيم العلاقة في المنظومة الإسلامية مع
الآخر / المختلف، وفقأ لاستراتيجية إنفتاحية تأخذ القواسم المشتركة في
عين الاعتبار، تمثل مبدأً إسلامياً أصيلاً، ولا يُعبر كما يصور البعض،
عن ردة فعل وقائية يطرحها الفكر الإسلامي المعاصر، ولا يعبر أيضاً، عن
تفاعــل إيجابي منطلق من الجانب الضعيف بغية إستمالة وإسترضاء الجانب
الآخر/القوي.
وبالرغم من أن عالم اليوم ينطوي على الكثير من الحضارات، بيد أن
إننا سنعالج الموضوعة وفقاً لموقف الفكر الإسلامي المعاصر (الحضارة
الإسلامية) من الحوار مع الآخر، وتحديداً، الحضارة الغربية، وذلك لما
تُلقيه العلاقة بين هاتين الحضارتين من أهمية على المحيط العالمي، وعلى
مستقبل البشرية بشكلٍ عام.
العالم بين نهاية التأريخ وصِدام الحضارت
كثيرة هي النظريات التي أُريد منها إماطة اللثام عن العلاقة التي
تربط (الإنسان) الذي يتهيكل تبعاً لنسقية بايلوجية وإدراكية و....
معينة، مع (الإنسان) الآخر، المختلِف عنه ببعض أو بالكثير من الخصائص،
والتي قد تكون الجنس أو اللون أو المعتقد أو....، خصوصاً إذا ما تم
الحديث عن القضية في إطار الحضارات، وليس مجرد إجتماع إنساني يضم جملة
من الأفراد، غير أنه قد برزت في الوقت الحاضر نظريتان، خرجتا من رحم
العقل الأمريكي، واحدة تُبشر بنهاية التاريخ، هذه النهاية التي ستكون،
نهايةً رأسمالية ليبرالية، وسينتهي العالم بها، وبالتالي فهي
تدعوالإنسان/غير الرأسمالي والليبرالي إلى التأسي بهذه المنظومة، وأخرى
لا تؤيد هذا الطرح، فهي تذهب إلى أن التاريخ لم يصل إلى نهايته، وأن
المرحلة المقبلة ستشهد أضراباً من الصِدامات، لكنها لن تكون إقتصاديةً
أوسياسية !!، وإنما ستكون ثقافية، تتجلى بالتباين الحضاري، وبشكلٍ خاص،
بين الحضارتين الإسلامية والغربية، وفي هذا الفصل سيتم التعرض إلى
هاتين النظريتين، مع الحديث قبلهما عن (الصِراع) بشكلٍ عام، كمدخل
أوتمهيد لهما، ومن هنا فقد تم تقسيم الفصل الى المبحثين الاتيين:
المبحث الاول: الصِراع.
المبحث الثاني: نهاية التأريخ وصِدام الحضارات.
((المبحث الأول)) ((الصِراع))
لا شك في أن الصِراع، كظاهرة إجتماعية _ سياسية، قد صاحب التجمع
الإنساني منذ نشوءه، فحيثما تواجد البشر على عتبة من أعتاب البسيطة،
كان الصراع موجوداً، بعد أن تتجه العلاقة التي تُوشج الناس إلى التشنج
والتوتر، وبعد أن يعتقد الناس أن الاحتراب يعد المخرج الوحيد أو الأنجع
للوصول إلى ما يصبون إليه، والصراع كمفهوم، يذهب (دنكن ميشيل) إلى أنه
تلك الحالة التي تكون فيها المنافسة غير سلمية، أي أن كل طرف من أطراف
النزاع يكون مستعداً لاستعمال إسلوب العنف أو الإجراءات الانتقامية ضد
الطرف الآخر([3])، ويقسم ميشيل الصراع إلى خفي وظاهر، حسب الأحوال التي
ينشب فيها، ويُسجل على ميشيل في هذا الصدد، عدم تمييزه بين الصراع،
الذي يمثل القاعدة العريضة، لعلائق إجتماعية متعكرة الوشائج، وبين
الحرب أو لنقل الصراع المسلح، الذي يمثل أعلى مرحلة من مراحل الصراع،
وهذا ما أشار إليه (عبد القادر محمد فهمي)، الذي كان أكثر دقة في
تعبيره، حيث يُعرف الصراع بأنه تلك الحالة التي تعبر عن تناقض مفاهيمي
وقيّمي وعقائدي وفلسفي، يصعب في كثير من الأحوال أن تكون موضع إتفاق
بالنسبة لأطرافه([4])، ويذهب فهمي إلى انه في الوقت الذي تتنوع فيه
مضامين الصراع ومظاهره (سياسياً، إقتصادياً، آيديولوجياً) ترتبط الحرب
أساساً بحالة الالتحام العضوي المباشر، وبعد أن تتصاعد وتائر الصراع
على مستويات يصعب ضبطها والتحكم فيها، مما يدفع بالأطراف المتصارعة إلى
العنف المسلح، بإستخدام القوة العسكرية، وهنا تشكل الحرب الحل الأخير،
عندما تلجأ الأطراف المتصارعة إلى حسم تناقضاتها المتجذرة بالأداة
العسكرية، بعد أن تعجز عن حلها بالوسائل السلمية([5]).
عن مصاحبة الصراع للحياة الإنسانية منذ مبتداها، يتحدث القرآن
الكريم عن الصراع الذي نشب نتيجة لحسدٍ مصلحي، وآل إلى القتل، حيث يقول
{ واتل عليهم نبأ ابني آدم بالحق إذ قربا قرباناً فتُقبل من احدهما ولم
يتقبل من الآخر قال لاقتلنك قال إنما يتقبل الله من المتقين......)([6])
وبطبيعة الحال، فإن صحبة الصراع للإنسانية، لم تكُ من دون التأثير
على مستويات التعقل الإنساني، حتى أن الكثير من المنظرين، عمدوا إلى
تبرير الحالة التصارعية، التي تبرز على الساحة الإنسانية بين الفينة
والأخرى، جاعلين منها قضية طبيعية، تمثل حالة عضوية _ بايلوجية _
لنموالإنسانية وتقدمها نحومستقبل سعيد كما سنرى، وليس هذا فحسب، بل أن
البعض يعتقد أنها السبب الموجد للمجتمع المدني على سطح الأرض، ولعل
أبرز من ذهب هذا المذهب، المنظر الانكليزي توماس هوبز، الذي ذهب ايضاً،
إلى أن المجتمع البشري هو في حالة صراع وحرب مستمرة، فالقوي دائماً
يسلب حقوق الضعيف، والأخير يبدأ يضعف فيقدم عليه آخر أقوى منه فيسلبه
أمواله وحقوقه، وقد دعمت النظرية الداروينية رؤية هوبز، وأضافت عليها،
أن من الضروري أن يكون البقاء للأقوى والأصلح، والصراع الذي يخوضه
الجنس البشري ما هو إلا حالة طبيعية يمارسها بصورة مستمرة من أجل
البقاء ([7]).
وقد قام (سيغموند فرويد) بإثبات أن السلوك العدواني الذي يقود إلى
الحرب _ أعلى مراحل الصراع _ هونتاج طاقة عدوانية كامنة وغير واعية في
أعماق النفس البشرية، وأن هذه الطاقة تتحرك ضمن ضوابط إجتماعية في
أوقات السلم تحول دون إنفجارها، إلا إنها، وفي أوقات الحروب، تكون
مهيأة لتظهر في أكثر صورها عنفاً وتطرفاً، ويركز فرويد على ما يسميه (غريزة
الموت) كعامل دافع للحرب، فيقول ((إذا لم تكن الدولة في حالة حرب، وإذا
لم تتوفر أمامها بدائل ملائمة تغنيها عن الحرب، فان غريزة الموت
الكامنة فيها إذا لم تجد مجالاً للتنفيس عنها بتوجيهها نحو خصومها،
فإنها ستتحرك لتعمل على قتلها ذاتياً))([8])
وكلام فرويد هذا، سليم إذا ما نُظر إليه على أنه تفسير علمي
للنفسية البشرية، في حال مرورها بظروف معينة، وليس في مطلق الظروف
والاحوال، لكن فرويد أراد به تبرير الحالة التصارعية بين الدول _ التي
تعبر عن كيانات معنوية للبشر _ معتبراً إياها طبيعية، وانها إستجابة
لغريزة الموت الكامنة في ذواتها، وأن عدم الإستجابة إليها يعني إنعكاس
المردودات الإيجابية إلى سلبية، فلا بد إذن من الإقرار والتسليم لهذه
الغريزة والسعي الحثيث لإشباعها.
أما (فردريك نيتشة) فانه إنتقد المسيحية في دعواتها لإنكار الحرب،
معتبراً هذه الدعوة عدواً للحوافز الخلاقة في الإنسان، وأنها دين يحول
دون وجود الـ(SUPER MAN)، أوالشخص الذي يتمتع بمزايا خارقة، والحرب في
نظره تلعب دوراً لا جدال فيه لتجديد الحضارات، ومن قبيل هذا ما أشار
إليه (فردريك فون بيرنهاردي) المتأثر بالأفكار الداروينية حول (البقاء
لأصلح) بقوله ((إن العوامل الفكرية والمعنوية التي تدعم التفوق في
الحرب هي ذاتها التي تجعل من التطور ممكناً بين الأمم، وإذا كان
الانتصار في الحرب بين الأمم هو نتاج مقومات القوة بكل عناصرها، فان
الأمم التي تملك هذه المقومات هي الأصلح لان تبقى وتقود دون غيرها))
أما (فردريك راتزل)، المنظر الألماني، فإن نظريته للوحدة الألمانية
بقدر ما عكست فلسفة القوة والتفوق الجرماني، بقدر ما طوعت من فروض
التطور لمصلحتها، وأبرزت فكرة (الدولة كائن حي) بإعتبارها الأساس
النظري لما عُرف بنظرية الجيوبولتكية العضوية، وهي التي تبرر الصراع
والتوسع في إطار مقولة (البقاء للأصلح)([9]).
بدوره يذهب عالم الانثروبولوجيا (ليفي بريل)، مبلوراً مصطلح
العقلية البدائية، لكي يبرر الاستعمار بشكل غير مباشر، ففي رأيه أن
الغرب هو وحده الذي توصل إلى الفكر العقلائي أو المنطقي، وأما بقية
الشعوب فلا تزال تعيش في مرحلة العقلية ما قبل المنطقية، وبالتالي، فما
عليها إلا أن تمر بنفس المراحل التطورية، لكي تلحق بالغرب، وبما أنها
لا تستطيع أن تفعل ذلك لوحدها فإنه ينبغي على الغرب أن يساعدها([10])
!!!
إن التمحيص في آراء العلماء الغربيين المذكورة سلفاً، يحدو الباحث
إلى استخلاص جملة من النتائج، أبرزها إثنين:
النتيجة الأولى: إنه ليس بالإمكان القيام بممارسة فصلية ما بين
التنظير الذي يُقدمه العالِم، وبين الواقع الذي عاش فيه، والذي من
موازينه وأُطره نظر إبان تحليله القضايا التي إختص بها، ولمثل هذا أشار
محمد خاتمي قائلاً ((ينبغي عند دراسة الأفكار التي ظهرت في التاريخ،
عدم إهمال مسألة مهمة، وضرورية، هي العلاقة بين الفكر من جهة، والأوضاع
الاجتماعية _ الاقتصادية المحيطة بفكر المفكر وظروف حياته من جهة أخرى))([11])،
وقد عمد الباحث إلى عدم التعرض لدراسة الظروف الحياتية للمفكرين،
وملازماتها الواقعية وتأثير هذه الظروف والملازمات على إتساع الأفق
التنظيرية وضيقها لدى المفكر، كونه _ الباحث _ يبغي الاختصار في هذا
المطلب لعدم إرتكازية موضوعة الدراسة عليه، وإنما جلَّ ما رام إليه
الباحث هو التدليل على الصلة الترابطية بين الفكر والواقع الذي نشأ فيه.
النتيجة الثانية: وترتبط هذه النتيجة أيما إرتباط بالأولى، وهي أن
الكثير من المنظرين، لا سيما السياسيين منهم، أو لنقل الذين نظّروا
لامور ترتبط بالسياسة من قريب أو بعيد، كانوا ولا زالوا، يضعون المصالح
القومية لبلدانهم نصب أعينهم قبل أن يقوموا بأية ممارسة تنظيرية،
وبالتالي الابتعاد عن الموضوعية العلمية، والتي تنطوي، من جملة ما
تنطوي عليه، على عدم إعطاء أية أجوبة مسبقة حول الموضوعات البحثية،
وإنما إيكال أمرها إلى ما تنتجه الدراسة العلمية من نتائج علمية بحتة،
فإننا عندما نطّلع على ما قدمه فردريك فون بيرنهاردي وكارل هاوس هوفر
وماكندر وكلاوزفيتز وفرانسيس فوكوياما وصموئيل هنتنغتون، سنعي أن كل
هؤلاء نظّروا خدمة لاستراتيجيات بلدانهم.
وعموماً فللحرب جملة من الأسباب التي تحدو بني البشر للتقاتل ما
بينهم، يُجملها (هارالد موللر) بالاتي:
أولاً: النزاعات الإقليمية.
ثانياً: التنافس على موارد محدودة.
ثالثاً: التسابق على أسواق مرغوب فيها.
رابعاً: الغارات.
خامساً: الحماس الديني.
سادساً: إختلاف الآراء الايديولوجي.
سابعاً: معضلة الأمن التي تثيرها سباقات التسلح، التي يمكن أن تكون
عاملاً يدفع إلى حروب وقائية.
ثامناً: مصالح السيطرة للنخبة والقادة في الدول غير الديمقراطية([12]).
وبقدر ما أشار إليه موللر من أسباب واقعية وموضوعية، فانه لم يستطع
الخروج من قوقعة الايديولوجية، مدعياً أن من جملة الأسباب القائدة
للحرب بين الدول، هي مصالح السيطرة للنخبة والقادة في الدول غير
الديمقراطية، ما يعني أنه نزّه الدول الديمقراطية عن السعي الحثيث وراء
المصالح النخبوية، وهذا واضح البطلان جلاء الشمس.
كما أنه أغفل الجانب السايكلوجي وقيادته للحروب، فكثير من العلماء،
وعلى رأسهم (لفي ورنر) يرون أن العوامل السايكلوجية التي تدفع باتجاه
الحرب، تتمثل بالنزاعات العدوانية والمشاعر العدائية، التعطش إلى الثأر
والانتقام، الحاجة إلى التغيير والبحث عن المكانة، الشعور بأداء رسالة،
ويشير (إريك فروم) إلى أن هنالك عوامل قوية تتحرك باتجاه الرغبة في
إلحاق الأذى بالغير([13]).....
يعتقد (روجيه غارودي) أن الحروب التي يشهدها العالم حالياً هي حروب
دينية، لكنها من نسق آخر، لا بين الكاثوليك والبروتستانت، ولا بين
المسلمين والمسيحيين، وإنما بين هذا الذي لا يجرؤ أن يعلن إسمه، والذي
يحكم بالفعل، اليوم، جميع العلاقات الاجتماعية وجميع العلاقات الدولية
على حد سواء، وحدانية السوق التي تغطي جميع الوثنيات([14]).
woodlion0085@yahoo.com
...........................................................
[1]) كُتِبَت هذه الدراسة في عام 2007، عندما إنتهت
المرحلة الثالثة من دراستي لنيل البكالوريوس (علوم سياسية / جامعة
بغداد)، وربما لو كُتبَتْ الآن لكانت أشمل وأدق، بيد أن الانشغال
بغيرها من جهة، وكونها تنطوي على مقدار معين من الفائدة للقارئ من جهةٍ
أخرى، هوما جعلني أقدمُ على نشرها.
[2]) للإطلاع على هذا الموضوع مراجعة: محمد حسنين
هيكل (الإمبراطورية الأمريكية والإغارة على العراق).
[3]) دنكن ميشيل (معجم علم الاجتماع) ترجمة إحسان
محمد الحسن، بغداد 1400هـ / 1980 م، دار الحرية للطباعة، ص 78.
[4]) عبد القادر محمد فهمي (المدخل إلى دراسة
الإستراتيجية) نشر كلية العلم السياسية _ جامعة بغداد، ت.ط. بلا، ص
124.
[5]) المصدر السابق ص 125.
[6]) سورة المائدة – آية 27 وما بعدها إلى الآية 31.
[7]) دنكن ميشيل، مصدر سابق، ص 77
[8]) عبد القادر محمد فهمي، مصدر سابق، ص 134_135
[9]) المصدر السابق ص 59_ 60
[10]) هاشم صالح (هل حوار الحضارات ممكن ؟ وكيف؟) _
صحيفة الشرق الأوسط 22 مارس / آذار 2005.
[11]) محمد خاتمي (مدينة السياسة) نشر دار الجديد _
بيروت ص 32.
[12]) هارالد موللر (تعايش الثقافات... مشروع مضاد
لهنتنغتون) ترجمة: إبراهيم أبوهشهش، الطبعة الأولى 2005، دار أويا
للطباعة والنشر _ طرابلس ص 103_104.
[13]) عبد القدر محمد فهمي، مصدر سابق، ص 134_ 135
[14]) روجيه غارودي (نحوحرب دينية) ترجمة: صياح
الجهيم، الطبعة الثانية 1997، دار عطية للطباعة والنشر _ بيروت ص
16_17. |