جاء نشوء المُدن في الأزمان القديمة استجابة لحاجة وجود نظام إداري
يُكمل البنى العائلية والعشائرية التي تمثل قاعدة النظام الاجتماعي
آنذاك، ومثلما تميز الريف كمركز للاشتغال الزراعي , اشتهرت المدن
كمراكز للتجارة والسلطة السياسية.
وقد تزامنت الطفرة الكبرى للمدن مع قيام الثورة الصناعية حيت تهاوت
الأسوار التي طالما فصلت المدينة عن الريف المحيط بها, وأستبدل أهالي
الأرياف اتصالهم بالمدن من الزيارات العابرة الى الإقامة الدائمة
لأغراض تغيير الأحوال المعاشية والاجتماعية والثقافية ,ولأول مرة في
التاريخ تتخذ الزيادة السكانية في المدن منحىً تصاعديا على حساب القرى
والأرياف التي نزح عنها ساكنيها لأسباب تعرّف بالطاردة من الريف بسبب
الظروف الاجتماعية والاقتصادية الصعبة , والجاذبة الى المدن نتيجة
لتطورها الى مراكز حضرية تتهيأ فيها فرص الارتقاء الاجتماعي والاقتصادي
وتحتوي على وسائل كثيرة للراحة والاستمتاع.
يذكر عالم الاجتماع لوسيان باي بأن(إحضار عدد كبير من الناس الى
الحياة الحضرية يعني دائما اشراكهم في شكل من أشكال السياسة (هل ستكون
مشاركة بناءة أم هدامة اجتماعيا.. ؟) فإذا أمكن تنفيذ هذه العملية دون
حدوث اغتراب أو عواقب مدمرة , فأن الدولة يمكن أن تستفيد استفادة سريعة
بزيادة عدد مواطنيها , أما اذا أفسد العملية الصراع أو التوتر, فمن
الممكن أن تظل بعض الندوب الدائمة على الدولة , وتصبح مصدرا مستمرا"
للمتاعب في وجه السير الفعال للعملية السياسية)[2], ويكمن أصل التضارب
في مدى قابلية مؤسسات الريف (الطبيعية والفطرية) مثل (العائلة الممتدة
, العشيرة، القبيلة) المحكومة بقيم السلوك الشعبي والأعراف للاستجابة
الى شروط المجتمع المدني التعاقدي الذي تسود فيه قيم المنفعة وتحكمه
القوانين , خاصة وأن منظمات المجتمع المدني مثل (المدارس، الجامعة،
المؤسسات الدينية والعسكرية , السلطات التشريعية والقضائية، الأحزاب
السياسية) تمثل وسيلة الشخص الريفي القادم الى المدينة لصعود سلالم
الهرم الاجتماعي بقصد تغيير المنزلة الاجتماعية أو الوضعية الطبقية عبر
الحراك الأفقي (تغيير المهنة) أو العمودي (التحول الطبقي) حيث يتسم
الوسط الريفي بالجمود والركود تجاه هذه التحولات.
شهد العراق بعد تأسيس دولته الحديثة عام 1920 موجات متعاقبة من
الهجرات الريفية الى المدن الكبرى وخاصة العاصمة بغداد , كانت معظمها
قسرية فرضتها الظروف الاجتماعية والاقتصادية والسياسية غير الملائمة ,
وكانت أبرز هذه الهجرات، هجرة أهالي ريف جنوب العراق الى العاصمة بغداد
بعد أنشاء سدة الكوت عام 1935 وتسببها بقطع مصادر المياه عن المئات من
قرى العمارة والكوت, بالإضافة الى قسوة أقطاع تلك المناطق المعتمدة
بشكل أساسي في اقتصادها على زراعة الرز القاسية، ومن الهجرات الهامة
بعد قيام العهد الجمهوري الهجرة الطوعية في منتصف السبعينات بعد
الانتعاش النفطي وتغوّل الدولة الريعية التي سارت بنهج العسكرة الواسعة
للمجتمع مما أدى الى توجيه ضربات مدمرة الى البنية الريفية واستنزاف
قدرتها الزراعية وطاقاتها البشرية، وبعد حرب الكويت أقدم النظام الحاكم
على تجفيف مناطق الأهوار بدواع أمنية مما أدى بسكانها الى الرحيل
الجماعي صوب المدن العراقية القريبة والبعيدة.
يشير تاريخ العراق الحديث الى أن البريطانيين الذين ساهموا بتأسيس
الدولة العراقية على غرار النظم السياسية الحديثة في الغرب , تعاملوا
بانتقائية مع لوازم التنظيم والحداثة المطلوبة في بناء الدولة بما
يتناسب مع مصالحهم الاستعمارية الآنية الستراتيجية ,فقد فضلوا التعامل
مع شيوخ العشائر وسهلوا لهم الوصول الى مراكز الثروة والسلطة عبر
إقطاعهم مساحات واسعة من الأراضي الزراعية وإدخالهم الى عمق عالم
السياسة من خلال مجلسي الأعيان والنواب, ومن جهة أخرى عمل الانكليز على
تهميش النخب المدينية بسبب انحياز هؤلاء للدولة العثمانية التي كانوا
يستمدون منها الدعم لمراكزهم الاجتماعية وامتيازاتهم الاقتصادية ,ومع
وجود ما ينطبق عليه وصف (هياكل مؤسسات ديمقراطية) إبان الحكم الملكي ,
ظلت البنى العائلية والعشائرية محافظة على الكثير من عزها وقوتها, ولم
تتبين خيوط لعقد اجتماعي حضاري يكسر صلادة هذه البنى ويقارب بين السلطة
الملكية والغالبية العظمى من الشعب بسبب شخصنة الدولة من قبل رموز
العهد الجديد وخشية القوى المندمجة مع المصالح البريطانية من ولادة
مجتمع مدني حديث في العراق.
وبحسب رأي المفكر إبراهيم العجلوني فأن النظام السياسي لا يعني
السلطة القائمة فقط بل يضم جميع الفعاليات السياسية وعلى رأسها
المعارضة, وقد ساهم نشوء الأحزاب الوطنية المعارضة بشكل ايجابي في
تحريك المجتمع العراقي واستيعاب مطالب وحاجات مختلف الشرائح الاجتماعية
, ومن بينها جموع المهاجرين الريفيين الذين استقروا في المدن وعملت
الأحزاب الوطنية على دمج مطالبهم ضمن الحراك السياسي الوطني العام
والذي كان يتمظهر بواسطة المظاهرات والانتفاضات الشعبية تمهيدا" لقيام
التغيير الثوري الكبير في 14تموز عام 1958.
ان المتتبع لتاريخ العراق الحديث لا يمكن الا أن يدهش إزاء النماء
الذي عرفته الحركة الجماهيرية في الأربعينيات والخمسينيات (تلك الحركات
المدينية لأبناء الفئات الوسطى والعامة) , والجدب الذي أصاب تلك الفئات
والحركات ابتداء من الستينات , وانتقال مركز الثقل السياسي منها الى
الريف)[3], فقد شهدت مرحلة ما بعد انقلاب 1963 هيمنة على الحكم من قبل
أبناء القرى والبلدات الصغيرة فيما يعرف بالمثلث العربي السني الى
الشمال من بغداد وقد شغلوا ما نسبته 63% من المناصب الوزارية أيام
الأخوين عارف , و75% في السبع سنوات الأولى لحكم البعث والذي جسّد
مجيئه إلى الحكم بعد انقلاب 1968 حدثا" مهما أذ التقت النخبة العسكرية
المسيطرة, مع النخبة المدنية للحزب المنتمية الى اصول مشابهة، مما كشف
البناء السياسي في العراق لاختراق ما سماها حسن العلوي بـ (المنظمة
السرية) المستندة في أصول تنظيمها على قوة رابطة الدم وبما يشابه عمل
مافيات الريف الايطالي، حيث خيمت على العراق حقبة استبدادية غير مسبوقة
قضت على النسيج الراقي للمجتمع العراقي بتحطيم الأحزاب السياسية
والمنظمات المدنية المستقلة وقتل وتشريد الألاف من نخب وكوادر المجتمع
السياسية والثقافية والعلمية.
ساهم الحصار الدولي الذي سبق سقوط نظام البعث عام 2003 بانتعاش
المنظومات الاجتماعية الفرعية (العشيرة , الطائفة) واندفاعها الى واجهة
المجتمع العراقي بقوة باعتبارها آليات دفاع فاعلة عن الفرد بعد تفسخ
مؤسسات الدولة وتأكل قدراتها وفساد السلطة التنفيذية وضعف السلطة
القضائية وانتشار واقع البؤس المعاشي والفقر الشديد , وقد أفرز هذا
الحال بالاشتراك مع الاحتلال العسكري الأجنبي نظام جديد للحكم يرتكز
على قاعدة للتحالف (القبلي ـ الطائفي) الذي لا يستغني عن الحضور الدائم
للراعي الأجنبي باعتباره ثالث أثافي قاعدة الحكم , وليس من الصعب تمييز
متانة خيوط هذا التحالف عبر النظرة السريعة لنتائج الانتخابات
البرلمانية والمحلية , وتفصح الرعاية التي توليها الدولة الجديدة
للمؤتمرات والفعاليات العشائرية مقارنة" بالاهتمام بالنشاطات المدنية
عن تخادم راسخ بين القبيلة والطائفة تتغذى فيه البنية الحزبية
(الحديثة) من النسغ الريفي الى حد التطابق والاندماج الكامل مع البنية
الطائفية (التقليدية) وخلق ما بات يسمى بالطائفة الحزب أي تحول الطوائف
العراقية الى أحزاب سياسية ممثلة في البرلمان.
ومن جانب أخر يكشف المحتوى البشري للميليشيات المسلحة التي تسيدت
الساحة العراقية بعد عام 2003عن أصول ريفية وهجرة حديثة الى المدينة
للغالبية الساحقة من منتسبيها وذلك (إن أكثر التجمعات اللارسمية هي
أكثرها ارضاءاً وأقربها الى القادم الجديد للمدينة وقد لا تكون منظمة
بالضرورة بمعنى إن تكون لها مواثيق وواجبات وقواعد وتعليمات ولكنها
يمكن ان تكون فعالة كل الفاعلية على أساس منظمات المساعدة المتبادلة
سواء المؤقتة او الدائمة، ولاشك ان النقص الشديد في الدراية بأسباب
القوة والاقتراب منها يدفع المهاجر الى الانتماء لجماعات المساعدة
المتبادلة هذه وكما قال ريتشارد موس في هذا الصدد "ان الهوة بين
الأنظمة البيروقراطية الحضرية والخلفية الزراعية للمهاجرين من الضخامة
بحيث لانتوقع حدوث توافق بينهما الا بعد ان يكتل المهاجرون انفسهم في
صورة اتحادات عارضة تكون لهذا الغرض بالذات، وتخضع بقدر الإمكان لقيادة
فاهمة")[4].
.......................................................
[1] - مدير مركز الجنوب للدراسات والتخطيط
الستراتيجي.
[2] - علم الاجتماع الريفي والحضري، د. محمد
الجوهري، د. علياء شكري.
[3] - الدولة والمجتمع في العراق المعاصر، د. علي
وتوت.
[4] - علم الاجتماع الريفي والحضري، د. محمد
الجوهري، د. علياء شكري. |