التطور النسبي المتواضع جدا الذي شهده الاقتصاد العراقي خلال العقود
الخمسة التي سبقت احتلال العراق عام 2003 قد تم بفضل السياسات
الاقتصادية الموجهة، التي لعب فيها قطاع الدولة دورا بارزا، وبالأخص في
حقول الصناعات الخفيفة وصناعات البناء والمعادن والبتروكيماويات
واستخراج النفط وتصفيته.
وكان عماد سياسة التصنيع التي اتبعت خلال تلك الفترة هي سياسة
الحماية التجارية المعتدلة، لكنها أصبحت بالغة التشدد أثناء أعوام
الحصار الاقتصادي الذي فرضه مجلس الأمن الدولي على العراق، بضغط من
الولايات المتحدة على إثر غزو الكويت عام 1990. لقد هدفت اجراءات
السياسة الحمائية تلك إلى دعم الانتاج الوطني، الذي أمن لعشرات الآلاف
من القوى العاملة العراقية فرص عمل دائمة، ورفد السوق الداخلية
بالمنتجات البديلة للاستيراد.
لكن سياسة الانفتاح الاقتصادي الذي أطلق له العنان إبان عهد
الاحتلال، واستمرت في تنفيذها الحكومة العراقية الراهنة، قد اضرت كثيرا
بقطاعات الانتاج المحلية، حيث لم تكن موجهة ولا منضبطة، وإنما فوضوية.
ولم يكن غريبا أن يؤدي تنفيذ تلك السياسة الى اغلاق أكثر من 180 ألف
مشروع صغير ومتوسط، اضافة الى عشرات من المشاريع الكبرى، وتشريد
العاملين فيها لينضموا إلى جيش البطالة الذي يزداد يوما بعد يوم.
ويظهر أن المسئولين العراقيين قد أذعنوا، بوعي أو بدون وعي لشروط
صندوق النقد الدولي التي ألزمهم بها نظير وعود بالموافقة على منح
العراق قروضا مالية ميسرة. وكان من بين الشروط تنفيذ سياسة الانفتاح
على السوق الخارجي بما فيها حرية دخول وخروج السلع ورؤوس الأموال،
وانهاء العمل بالبطاقة التموينية، وخصخصة مشاريع القطاع العام، وفتح
صناعة استخراج النفط للاستثمار الأجنبي، ووقف كل أشكال الدعم الحكومي
للنشاط الاقتصادي.
وقد أدى الرفع التدريجي لدعم المحروقات والسلع الغذائية إلى إلحاق
الضرر بحياة الملايين من ذوي الدخل المحدود والفقراء. وبرغم المئات من
المقالات التي ناشد كتابها الوزارات المعنية باتباع سياسات حمائية
لانتاجنا الوطني من المنافسة الأجنبية، لكن الأمر ظل كما كان، فلم يكن
هناك من يسمع أو يصغي، ما دام صندوق النقد الدولي قد أبدى رضاه عن
سياسة السوق المفتوحة التي تتبعها الحكومة العراقية.
إن مدراء صندوق النقد الدولي غير مهتمين بالآثار السيئة على
المجتمع التي سببتها شروطهم البيروقراطية الجامدة، وغير معنيين بحقيقة
أن أكثر السلع الأجنبية التي تغرق بها أسواقنا، هي سلعا مدعومة من
حكومات البلدان المصدرة لها، بينما يدفع اقتصادنا الثمن بطالة وعملة
صعبة نحن في أمس الحاجة اليها. فالكويت وسوريا وتركيا تدعم انتاجها
الزراعي، والصين الشعبية تدعم انتاجها الصناعي، وهذه المنتجات تغرق
أسواقنا المحلية، فيما منتجاتنا تواجه التجاهل من الحكومة والمستهلكين
على حد سواء.
في آخر تقرير لصندوق النقد الدولي بتاريخ 1 /10 / 2010 اشاد بـ "التقدم
الجيد" الذي حققه العراق في اعادة هيكلة اقتصاده، وبإيفائه بشروط وقف
الدعم للمصنعين والمزارعين(1). خبراء الصندوق يعرفون جيدا، أنه يتعذر
تطوير الصناعات والمشاريع الزراعية الصغيرة دون حماية من المنافسة
الأجنبية، أو دون معونات مالية حكومية، لمساعدتهم على تخطي المصاعب
التي تواجههم في المراحل الأولى من نشاطهم،أو إبان حالات الركود
والأزمات الاقتصادية التي يتعرض لها الاقتصاد بوجه عام.
الدول الصناعية المتقدمة ذاتها كانت قد قدمت دعما سخيا للمشاريع
الصناعية والزراعية طوال تاريخها الطويل منذ بداية الثورة الصناعية،
وهي تقوم بذلك الآن أيضا. الولايات المتحدة الأمريكية وحدها تدعم
ببلايين الدولارات بعض المنتجات الزراعية، وقد وعدت بانفاق سبعمائة
بليون دولار لمساعدة المصارف وصناعات السيارات التي تواجه صعوبات
مالية. وتعفي بعض الولايات الاتحادية المشاريع الانتاجية الجديدة من
دفع ضرائب الدخل لمدة تتراوح بين 5 - 10 سنوات. إن هذا يعتبر دليلا
ساطعا على أهمية التدخل الحكومي لبناء الاقتصاد الوطني، وحمايته في
ظروف المنافسة الدولية وفي فترات الركود والكساد، وهي أمثلة كان على
العراق الحذو حذوها، لا التراجع عنها بضغوط من صندوق النقد الدولي أو
غيره.
كوريا الجنوبية وتايلاند وماليزيا، رفضت ارشادات الصندوق بالغاء
التدخل الحكومي في النشاط الاقتصادي، بل على العكس سارت قدما في سياسة
التنمية الاقتصادية الموجهة، فكانت في مقدمة الدول الأسيوية، حيث تتمتع
حاليا بأعلى معدل نمو اقتصادي في العالم. لقد بلغ نموها السنوي نسبة
تتراوح بين 7 % الى 10.5 %، وقد حصنت اقتصادها ضد الأزمة المالية
الأخيرة التي تعرضت لها كافة الدول الصناعية الكبرى بدون استثناء.
وينمو الانتاج الصناعي بمعدل يزيد عن 10 % سنويا، وازداد عدد العاملين
في قطاع الصناعة من 5 % من السكان قبل تنفيذ سياسة التدخل الحكومي إلى
25 % من السكان حاليا، وارتفعت مساهمة القطاع الصناعي في الناتج القومي
الى أكثر من 30 %، ويتوقع أن يصل دخل الفرد في الدول الثلاث مستوى
الدخل الفردي في الولايات المتحدة الأمريكية في عام 2020. إن
الاقتصاديين والصناعيين في أرجاء المعمورة قد أشادوا بالتطور الذي
أحرزته البلدان الثلاثة، حيث اعتبروه دليلا حيا على جدارة نظام السوق.
وفي الحقيقة ليست هناك صلة وثيقة بين الازدهار الاقتصادي المتحقق في
البلدان الثلاثة، ورأسمالية " دعه يعمل.. دعه يمر" السائدة في بلدان
منظمة التنمية والتعاون الاقتصادي. لقد نفذت البلدان المذكورة، دعما
ماليا حكوميا عظيما على كل مستويات الأنشطة الاقتصادية، مستخدمة مجموعة
من الأساليب التي تتيح فرصة توجيه عملية التنمية.(2)
وعلى عكس ما سارت عليه الدول الثلاث المذكورة من رفض لشروط صندوق
النقد الدولي، أخذت روسيا بها في التسعينيات كشرط لمنحها قروضا مالية
ببلايين الدولارات، استخدمتها لاعادة هيكلة اقتصادها بما يتناسب مع
آليات اقتصاد السوق. أشترط الصندوق في المقابل أن تقوم الحكومة الروسية
بخصخصة مشاريع قطاع الدولة، وقد كلفت هذه العملية وحدها اقتصاد روسيا
خسارة قدرت بثلاث ترليونات دولار من قيمتها الحقيقية، حيث بيعت إلى
شركات أجنبية أمريكية وألمانية بأسعار رمزية لعب فيها الفساد دورا
مفضوحا.
ورغم مضي أكثر من ربع قرن على البدء بتنفيذ ارشادات الصندوق، ما زال
الاقتصاد الروسي يترنح تحت معدلات تضخم سنوية تجاوزت 13 % سنويا، ومعدل
بطالة فاق 9.5 %، ويتوقع أن يرتفع إلى 12.7 % نهاية النصف الثاني من
هذا العام، ليبلغ عدد العاطلين عن العمل حوالي 9.5 مليون عاطلا، ولا
توجد أي مؤشرات حاليا على خروج البلاد من حالة الركود الاقتصادية
الراهنة.(3)
صندوق النقد والبنك الدوليان مؤسستان يروجان بقوة لأفكار مدرسة
الليبرالية الجديدة وفق مقولتهم التي اشتهروا بها وهي: " كل ما يفرزه
السوق صالح.. أما تدخل الدولة فهو طالح ". لكن الأزمة الاقتصادية
الحالية التي تعيشها دول العالم الرأسمالي المتطورة اقتصاديا، لم تأتي
نتيجة " تدخل الدولة الطالح" بل نتيجة ما أفرزه السوق والرأسمال المالي
المرتبط عضويا بها والذي لم يكن أبدا في صالح المجتمع.
ضحايا الأزمة الاقتصادية في المقام الأول هم الطبقات العاملة وكبار
السن والأطفال والعاطلون عن العمل. فاسبانيا على سبيل المثال، تقف على
حافة كارثة اجتماعية، فالبطالة فيها بلغت 20 %، وأجبر آلاف العمال على
تخفيض أجورهم، بينما تحول قسما آخر إلى عمال مؤقتين. كما جرى زيادة
الضرائب غير المباشرة، وبذلك يجبر جزءا واسعا من الشعب على العيش في
حدود الكفاف، كما تم تقليص ميزانيات التكافل الاجتماعية، كاعانات
البطالة والعوز والطفولة والرعاية الصحية ورواتب التقاعد.
وتقوم الحكومة الايرلندية والبريطانية باتخاذ اجراءات مماثلة، وكان
نفس الشيء قد جرى في اليونان قبل ذلك. إن وصفة صندوق النقد الدولي " كل
ما يفرزه السوق صالح.. وتدخل الدولة طالح " لم تحصن الدول الرأسمالية
المتقدمة ذاتها ضد الأزمات، وهي من روج لهذه " الشعوذة "، فكيف يمكن
لاقتصاديات هشة كالاقتصاد العراقي أن تقف على قدميها؟
.........................................
1- بي بي سي " صندوق النقد الدولي يشيد بالتقدم
المتحقق في اقتصاد العراق "، 1 /10 / 2010
2- هانس بيترمارتين وهارالد شومان، فخ العولمة،
ترجمة د.عدنان عباس علي، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب-
الكويت، 1990، ص 260
3- Andrea Peatrs , “ Rising unemployment fules
social tension in Russia”,World Socialist Web Site , 20/10/2010 |