مواسم الخروب وإزاحة التراكمات

علوان السلمان

القصة القصيرة ومضة مضيئة تعتمد التكنيك الفني المتحرك مابين الزمكانية وحركة الشخوص والكشف عما يدور في نفسياتهم باعتماد أسلوب الحوار بشقيه الخارجي والداخلي (المونولوج).. وظهور الحدث الذي ينسج القاص من خيوط واقعه قصصه محلقا في أجواء خياله ليحقق المتعة والمنفعة..

والقاص (صالح جبار محمد) في مجموعته القصصية (مواسم الخروب) الصادرة عن دار ومكتبة البصائر / 2010 بيروت.. والتي تضمنت اثنتان وعشرون قصة قصيرة.. وهي تنحو نحو إزاحة التراكمات الواقعية التقليدية.. وتخطي المقولات الجامدة.. فتنفتح على قيم الوجود والتحرر من تفاصيل الواقع اليومي من خلال منطقه الداخلي واستبصاره بوسائل تعبيرية معاصرة وتوظيفها سرديا كتوظيف (التراث وارمز والحلم..)..

لغرض الكشف عن التفاصيل والحقائق الجوهرية البعيدة عن الرؤية الظاهرية التي تكمن خارج النص.. وهذا يتطلب توفير وسائل تعبيرية لا يمتلكها إلا كاتب يمتلك حرية تكفل له خلق صور موضوعية في التجسيد والتأثير والكشف عن التناقضات الكامنة في الحياة الإنسانية..

كي يجعل القاص من تجربته السردية وطرقه التعبيرية عالما متميزا متفردا بحصيلته التي تتركب مما في داخله من إحساس بالواقع قبل أن تكون حصيلة لقواعد ثابتة أخذت مداها واجتراها سواد الخطوط..

(أدركت انه مهرج لسيرك بلحيته الطويلة../تقتضي الأمور أن يكون غير ذلك / التي خالطها الشيب نزع جلده وحياءه معا أبدل ملابسه ذات الإيحاء الديني بملابس أخرى.. / الإبدال عالم أخر من سياقات مختلفة /.. لكنه ظل محافظا على عباراته السابقة.. يتحدث عن الحلال والحرام يتودد بلسان مثقل بالود والتخضع الزائف لايحاول كشف ما يبطنه.. صادفته بالأمس / المصادفة أمر لم يحتسب /) ص 9

فالموقف هو صميم العمل القصصي عنده وهو الكيان الداخلي بما يكتنز من دلالات الكشف والرفض المتجرد من الأطر والتقاليد.. لذا فقصصه خاضعة للمؤثرات النفسية والاجتماعية من اجل تجسيد الظاهرة الجوهرية التي لاتتحقق إلا بالوعي الذي دعا إليه نقاد الواقعية المعاصرة (الانفتاح على كل الثقافات) منهم ارنست فيشر وجورج لوكاش..

و(مواسم الخروب) تستوعب هذا الطرح ابتداء من العنوان الذي يستقبل كل المواسم الخروبية التي تتميز بعزلتها الصحراوية. والتي تشكل بقصصها المنبثقة من أجواء المواجهة بين الإنسان والواقع بكل موجوداته وتناقضاته..

ويبقى الموحد لأجواء المواجهة الترابط ما بين عالمها الخارجي والداخلي عن طريق تأكيدها على المتناقضات والموقف الواعي الذي يؤكد المحلية.. كونه مشتقا من موقف اجتماعي مرتبط بظرف تأريخي..

(أردت سؤاله: هل هو الذي خاطب الغيمة الماطرة: أمطري فأينما خراجك لي..

قبل أن أسأله.. تركني ومضى.. ناديت في الظلام: ياجدي.. ياجدي.. يا مولاي ياهارون الرشيد.. تعال وانظر فخراجنا يذهب لجيوب البيزنطة أرجوك ارجع..

قفزت قوائم السرير المستلقي باستقامة. رفعت الفراش فوقه سمعته يقول: لاتحزن.. اقتل حزنك بالنوم.. في المنام رأيت (عبدالله) أخر ملوك الطوائف يبكي.. اقتربت منه. أمه تقف إلى جواره تؤنبه قائلة: ابكي كما تبكي النساء على ملك أضعته. سألته كيف أضعت الملك.. هل هو كرة قدم؟) ص 97

فالتكرار هنا لإحداث التأثير الوجداني العميق في نفس المتلقي.. والكاتب ينظر إلى تجربته القصصية لا باعتبارها وقائع تستعيد حضورها.. بل باعتبارها أداة لاكتشاف الواقع المتغير ووسيلة للاتصال بالمواقف الجديدة. أي أن دلالة المادة التاريخية تأتي علامة من علامات البحث عن الحقائق الجوهرية التي تهدف القصة إلى صياغتها..

لذا فالقاص يزاوج بين الماضي بين الماضي بكل أبعاده والحضر المر بكل ثقله.. وهذا التزاوج الزمني منح القصة بعدا غير محدد..

إضافة إلى استخدامه الرمز (المدلول الفني الذي احتاجته القصة لتصعيد التكنيك فيها.. فجعل منها أداة فكرية للتعبير عن قيم غامضة لعلاقات اجتماعية. لقد استطاع القاص بناء مشاهد درامية بأسلوب منبثق من الوعي الداخلي الذي يجري بتعبير مكثف العبارة..

محدد باختيار الألفاظ.. تجسدت أجواء السرد المتنامية عن طريق الوعي الشعري المقترن باكتشاف الموقف الإنساني الممتلئ بدلالات الامتداد التاريخي مع تعدد الأصوات في النص:

(شاهدت أبي يقف أمامي ببدلته الكحلية.. رفسني بقدمه صاح غاضبا: من أين لك هذه المهارة؟ أضاف: انهض وابحث لامك الجائعة رغيف خبز تسد به جوعها.. انقطعت أنفاسي.. لملمت بقايا أفعالي.. هبطت مذعورا منه عند استدارة السلم لمحته يفك أزرار قميصه سمعته يقول لها: سئمت هذا الولد فمنذ أن بلغ سبقني إلى جميع البغايا..) ص 37 – ص 38

لقد جمعت (مواسم الخروب) بين تيار الوعي وتجريد المشاهد.. لذا فهي لاتعتمد الرتابة والجمود.. كون رموزها وشخصياتها متطورة.. نامية.. مكتنزة بنمو الوعي الاجتماعي وانفجار هواجسها بالحيوية الدرامية.. فكانت تشكيلة قصصية متميزة بأنها أكثر استبصارا لتحديد موقف اجتماعي وإنساني.. إذ عالمها السردي يتجه صوب الامتلاء بالقيم والصور الفنية المجسمة لظروف الواقع..

(لملم هلامات أفكاره.. تعب من مشاوره.. طقطق فقرات ظهره وعنقه.. همس بصوت اجترحه: كم تحمل هذه الأكتاف من عبء ثقيل؟ يئن بلا الم.. ياترى هل يوجد الم بلا وجع؟ يساوم عضلات قلبه بلفافة دخان.. يبحث عن أمنية مجهولة في دهليز يقبع خلف تجاويف رأسه.. دار في حلقات صاخبة.

ينتبه انه مدرس متوسطة لايعي غير النشرات الجدارية وإجادة النحو بشكل يجعله يتربص أخطاء المحيطين به..) ص 141 ص 142

فالقاص لايقف عند حد اكتشاف شخصياته لموقفها الاجتماعي والإنساني.. بل انه يجعلها متطلعة وهي تكابد بموقفها لاعقلانية الواقع..

(مواسم الخروب) تستمد وسائلها الفنية من تجارب معاصرة تتخطى إشكال الغربة الذاتية المستنبطة من الواقع الحياتي..

فحركة الشخوص تتحقق بحضورها من زوايا متعددة فتؤلف مشاهدا استطاع القاص اقتناصها وحركاتها اللاهثة بأقل الكلمات وأكثف العبارات التي توحي بالتوتر فستقطب من المتلقي جهدا ليشارك في تجسيم صورة المشهد المتحركة بحسه الانفعالي ومتابعته الذهنية من اجل العثور على موقف يعيش في داخل نفس.

شبكة النبأ المعلوماتية- الأربعاء 27/تشرين الأول/2010 - 19/ذو القعدة/1431

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1431هـ  /  1999- 2010م