الأفغاني والشيرازي – سيرة إصلاح

برير السادة

هذه المقالة كتبت قبل خمس سنوات, ولم تبصر النور لاني كنت اطمح في طباعتها مع أخواتها, ولما لم يتسنى لي ذلك لاسباب, آثرت أن اقدمها للقارئ عبر الشبكات الالكترونية, خصوصا بعد أن ضاعت أوراق المقدمة. أنا لم اعد صياغة أفكارها مره ثانية بل تركتها على حالها حتى مع فرض حاجتها للمراجعة والتنقيح, فقد رأيت أن تقرءا كما هي قبل خمس سنوات.

 

مدخل:

الكتابة في فكر الإمام الشيرازي تغريني لاني أجد لقاربي الصغير مرفاء على شواطئه, غير أني كلما اخترت موضوعا للكتابة غيرته أوعدلت لسواه لاني وجدته بحثا مضنيا, صعب المنال عسير المرتقى.. حتى استقرت بي الأفكار وانتهى بي المطاف للكتابة عن الإمام الشيرازي مقارنة مع السيد جمال الدين الأفغاني رائد الإصلاح, فثمة ما يغري بالكتابة حول الشخصيتين, لان في حياتهما نقاط اشتراك وخيوط تلاقي تبدءا فصولها من المولد أوقل المنشاء للدقة والأمانة.

فهما وان كانا خطين متوازيين فان احدهما أطول من الأخر, وهما إن افترقا في الزمان فقد اجتمعا في السعي الدؤب والهمة العالية والنفس المثقلة بالألم وهم الإصلاح والتغيير والنهوض بالعالم الإسلامي من سباته إلى الحضارة حتى عانا كلاهما ما زاد من كربهما وحسرتهما رغم تفاوت الأحوال وتقلب الزمان.

فهما إن لم يلتقي كلاهما الأخر, ولم يجمعهما الدرس والزمان, فقد جمعهما التاريخ على صفحاته ذرتين نادرتين من نوادر الدهر, ومجاهدين صنعا المجد, شمرا ساعدي الهمة والعطاء من اجل النهوض بالامة الإسلامية. يلتقيان في سموالذات وسموالمعنى.

الملتقى الأول لهما كان النجف الاشرف حيث هي المنشأ, والمدرسة الأم لتكوينهما الفكري والعقدي.. وكيف لا وهي تتوقد من نور الإمام الأوحد علي بن أبي طالب, وتشرق العلوم فيها من شمسه الدافئة, وتتدفق الحكمة من صدره.

ولد السيد جمال الدين في أسد آباد بهمدان أواسعد آباد في أفغانستان, غير إن مدينة صباه ونشوته هي النجف الاشرف كما يشير لذلك مختار الاسدي"ولد السيد جمال الدين في أسد آباد بهمدان عام 1838 وخلال سنوات صباه الأولى سافر إلى مدينة النجف الاشرف في العراق ليبقى فيها خمس سنوات لدراسة اللغة العربية والعلوم الدينية"[1]

ولان بعدة ولادة السيد جمال الدين عن النجف الاشرف, وناء به التكوين والخلق, واختار له القضاء أسد آباد, فان النجف الاشرف كانت ارض ولادته, فكان بذرة من بذورها, وزهرة تفتحت في أحضانها وبين قبابها تغتدي وترتوي من عبيرها ونورها, يقول عبد الحليم محمد" ولد الإمام الشيرازي في النجف الاشرف عام 1347 ه وقضى فترة صباه في مسقط رأسه, حيث هاجر إلى كربلاء المقدسة وهوفي عمر التاسعة"[2]

قرن من الزمان وهما على موعد مع القدر والرحيل من النجف الاشرف, فرحل الأفغاني أيضا إلى كابل وهوفي التاسعة عشره من عمره. وهوما لم يمنعهما من السمووالسير في خطى المجد والفضيلة. فكلاهما كان جذوة من نار أوقبسا من نور, جذوة تضي وقبس يتوهج. امتلكا همة عالية للتعلم وحبا للمعرفة, فقد تفتقت مواهب الشيرازي منذ صغره فكان يلتهم العلوم على أيدي كبار أساتذة الحوزة العلمية ومراجعها من أمثال السيد هادي الميلاني والشيخ محمد رضا الأصفهاني والسيد زين العابدين الكاشاني"[3] ونحن إن لم نعرف بعضا من أساتذة الأفغاني كما عرفنا عن نضيره, فلا نشك في نبوغه وذكاءه "والمحصلة انه ليس كثيرا على جمال الدين إن يلقف من كل أنواع العلوم بقدر وافر, فقد شهر عنه منذ طفولته حدة في الذكاء, برزت في صباه ورجولته وليس من العسير على من تمتع بهذه الملكة إن يتقن اللغات والمعارف والعلوم.."[4]

كما أنهما جمعا أرومة النسب وامتدا إلى الدوحة الرفيعة من المجد والعلى, حيث ينتهي نسبهما إلى الإمام الحسين عليه السلام, بالرغم من اختلاف بيئة التكوين وطبيعة المكان. فالسيد جمال الدين انحدر من طبيعة أفغانستان القاسية حيث الجبال الوعرة والصخور الصلبة, تندلع الحروب فيها بين الفينة والاخر لتملئ الجبال بدويها وآلامها فما إن تهدا الحروب الداخلية حتى تشتعل الفتن والحروب الخارجية " لقد هال جمال الدين ما كان بين فارس وأفغانستان من تنازع وتناحر, وكان يرى حكومة الهند البريطانية تستغل هذا التنازع بين الامتين المسلمتين فتزيد في الخلاف المذهبي السنة والشيعة ثم تتدخل في الخلاف الحاصل على الحدود بينهما"[5]..وهوأيضا ما هال الإمام الشيرازي, وشغل تفكيره طيلة سنوات الحرب الصدامية على إيران الإسلامية والتي راح ضحيتها الملايين من القتلى والمشردين..

"وتجددت بالحروب الرهيبة الداخلية بين الأمراء (أمراء أفغانستان) وساعد البريطانيون شير علي وأمدوه بقناطر الذهب فوزعها على الرؤساء والعاملين لأمير محمد أعظم فبيعت الأمانات ونقضت العهود....ولم تلبث الحروب الرهيبة بعد ذلك أن انكشفت عن هزيمة محمد أعظم... ولم يبقى في أفغانستان إلا السيد جمال الدين لم يفر ولم يهرب، وأمام هذا الواقع الأليم لم يرى جمال الدين بدا من الرحيل فأثر فراق الوطن وأستأذن شير علي للحج، وارتحل عن طريق الهند "

أما الأمام الشيرازي فقد ظل في كربلاء حتى قيام حزب البعث، في كنف جده الإمام الحسين وتحت رعايته، القبلة التي يؤمها المسلمون، محط أنظارهم ومهوى أفئدتهم، فبين ربوعها وضلوعها وهج النبوة وعبق الإمامة، بل جزء من قداسة الأمة ونفحة من بطولاتها، وصور من شموخها التي رسمها الحسين بحد سيفه من دمائه الطاهرة.

وللحسين وهج لمع في وجه حفيده الشيرازي وظهر بريقه في زوايا كربلاء، يقيم من ترابها قباب النور ومحاريب الثورة، لبناء حضارة ضلت نائمة على أعتاب كتابها السماوي، لم تعرف كيف تصوغ من حروفه منهجا ومن روحه معالم الطريق.

ولأن خرج صاحبه من وطنه مستأذناً فقد خرج الشيرازي من العراق خائفا محكوما عليه بالإعدام" عندما سيطر حزب البعث عام 1388 على العراق بانقلاب عسكري بدا بمضايقة الحوزات العلمية ورجالاتها ومفكريها، ومضايقة أصحاب المؤسسات الإسلامية والتجار وأصحاب النفوذ الاجتماعي ومن هذا المنطلق تعرضت الحوزة العلمية في مدينة كربلاء المقدسة للتصفية، فأعتقل وفي فترات متقاربة كثير من العلماء والخطباء "ويصف الأمام الشيرازي هذا الموضوع في كراسه الصغير مطاردة قرن ونصف صفحة 25 "ومكث بعد الوالد سنوات في كربلاء، حتى بدأت مطاردتنا فاضطررننا للانتقال إلى الكويت، أما أخي السيد حسن رحمه الله فقد تعرض للتعذيب،عذبوه أشد أنواع التعذيب في العراق..."هاجر الإمام الشيرازي وفي قلبه حنين إلى كربلاء، ورغم انه استقر في الكويت إلا أن كربلاء الحسين كانت ماثلة أمام عينيه، تعصف بقلبه وروحه ذكريات مليئة بالدف والحنان، سجلها قلمه حروفا ونطقها لسانه تمتات فكان يقول دائما " كم اشتقت إلى حرم جدي الحسين والصلاة فيه "[6]

لم يعرف السيد حمال الدين الأفغاني الاستقرار في وطن، فقد ظل ينتقل بين الأمم، ويهاجر من بلد إلى بلد، يبحث عن مأوى لطموحه ورسالته.فهوما أن ينزل بمكان حتى يضيق بأفكاره وأطروحاته " لم يكن باستطاعة الحكومة الهندية أن تظهر عدم اللامبالاة تجاه ما يجري عندي أبواب هذا الرجل الذي حل في دارها، وكانت تخشى أن تؤثر أراء هذا المصلح في نفوس رجال الهند وعلمائها، ولما ضاقت ذرعا بهذه الوفود والوفود التي ستلي، أوفدت عظيما من المأمورين إلى منزل السيد جمال الدين، وكان عنده أكابر العلماء والراجات، ليقول له أن الحكومة الهندية كانت تساهلت معكم للإقامة نحوالشهرين،ولكنها ارتأت أن تتقدم إليكم اليوم بأن حالة البلاد لا تساعد على بقائكم أكثر..."

ولما رأى تخاذل من حوله من الراجات والكبراء والعلماء في تلك البلاد، إذ لم يقابلوا هذا الأمر إلا بالبكاء التفت إليهم وصرخ فيهم " يا أهل الهند وعزة الحق وسر العد لوكنتم وانتم تعدون بمئات الملايين ذبابا مع حاميتكم البريطانية ومن استخدمتهم من أبنائكم فحملتهم سلاحها لقتل استقلالكم واستنفاد ثروتكم وهم بجمعهم لا يتجاوزون عشرات الألوف لوكنتم انتم المئات الملايين كما قلت ذبابا لكان طنينكم يصم آذان بريطانيا العظمى ويجعل في آذان كبيرهم مستر كلادستون وقرا"[7]

ولم يكن الحال بأحسن منه في مصر أوتركيا،فقد رحل بعد إقامته القصيرة في مصر باتجاه الاستانه في تركيا ليعود إليها مجددا...حتى قال حين عرض عليه أبوه أن يقيم معهم في مدينته الصغيرة: إنني كصقر محلق يرى فضاء هذا العالم الفسيح ضيقا لطيرانه وإنني لأعجب منكم إذ تريدون أن تحبسوني في هذا القفص الضيق الصغير "[8]

لقد كانت المزايا التي يتمتع بها السيد جمال الدين الأفغاني من الأسباب التي أثارت حفيظة حساده وأعدائه، وكانت قوته في الحق دافعا لجلب المتاعب من منكري عمله وفضله، ولعل الأسباب هي نفسها التي دفعت الأهواء في نفوس ضعيفة للنيل من الإمام الشيرازي "وهنا لم يبق من سبيل أمام العامة من الناس إلا الخوض مع الخائضين، وهذا مما عاناها الإمام الشيرازي قدس الله سره، بل كل عالم لا ترتضيه السياسة المحلية للنظام الحاكم ولا الأحزاب المناهضة للإمام الراحل، ولا الجهات الحاسدة ولا الغزاة الأجانب القابعين وراء الكواليس "[9]

ولم تجد هذه الأصوات صدى في قلب الإمام الشيرازي صدى يرددها أويتجاوب مع صراخها إلا الدعاء بالعفووالصفح،وان تكون نقطة النور للتغيير والإصلاح في النفوس والقلوب"وان كان هناك منافس على ارض الواقع فإنما هي لغلبة القوم على الأمر بأمور لم يكن للإمام الشيرازي قدس سره استعمالها، لحرمتها الشرعية كالتقسيط والظلم ونظائرها..."[10]

وما كاد يلمع نجم الإمام الشيرازي حتى أشرق على الخليج السابقة،وره، يملئه بالدفء ويحرك فيه أوتار الإسلام، ويثير لواعج النهضة والإصلاح،فلقد كان لدوران نهضته العلمية والمؤسساتية في كل بلد صوتا جميلا يوقظ النائمين من الغفلة، كما كان لها صوتا مزعجا يحرك نوازع الحسد والحقد في قلوب أعدائه وحساده."فقد أشار الكثيرون ‘إلى مدى حبه وولائه لدولة الكويت،حيث عاش فيها ثلاث سنوات بعد لجوئه إليها هربا من سطوة وظلم وجور صدام وزبانيته،حيث كانت هذه السنوات بمثابة حياة أخرى من التعارف والعمل ووضع الأسس السليمة وكرس جهوده من اجل تقوية البنية التحتية لأفكار الشباب في كافة المبادئ والأسس في النهج الإسلامي الموحد، وترتب على ذلك انخراط عدد كبير من الشباب.. إلى هذا النهج مما كان له أكبر الأثر في تمسك هؤلاء الشباب بالدين الإسلامي والولاء للأرض والوطن"[11]

وهكذا ظل الإمام الشيرازي يحضر لمشروع الحكومة الإسلامية العالمية حتى انتهى به المطاف إلى آل محمد عليهم السلام قم المقدسة عام 1979م. كما كانت الاستانه نهاية المطاف للسيد جمال الدين الأفغاني بعد طول تنقل وارتحال،لم يكن العبء فيها كثرة المتاع بل كثرة الهموم وضيق الصدر وانشغال الفكر "وكان في انتظاره موفد السلطان لاستقباله من قبل السلطان ولما سأله الصناديق لرفعها..

قال له الأفغاني: ليس معي غير صناديق الثياب وصناديق الكتب

فقال حسنا أين هي؟

فأشار السيد جمال الدين قائلا صناديق الكتب هاهنا وأومأ إلى صدره،وصناديق الثياب هذه وأشار إلى جبته"[12]

قراءة في الفكر الاصلاحي والنهضوي

أجدني ألان ملزما بتغيير أسلوبي في الكتابة عن المرحلة السابقة، حيث فرضته عوامل الاختصار،والهرب من الإطناب في ذكر تفاصيل حياتهما.ونحن أحوج ما يكون لقراءة تجاربهما وأفكارهما الإصلاحية والنهضوية لتصحيح مسار حركتنا نحوالأفضل.ولا بد لنا أن تعرف مفهوم الإصلاح قبل أن نقرأ هذه التجربة الإصلاحية.

الإصلاح من الفعل صلح يصلح..إذا صار ذوفائدة بعد إذ لم يكن،بسبب ما لحق به من إعطاب وفساد،ويدخل معنى أوضح للكلمة في اللغة الإنجليزية وهي reform وهي تعني إعادة البناء أي form again أي التغيير للأحسن سواء كان ذلك في مجال الأخلاق والعادات والطرق والسياسات.

ولعلنا ننطلق من الاستبداد كظاهرة استوجبت من الرجلين مقابلة الزعماء السياسيين في بداية مشروعهما، رغم الفوارق السياسية الكبيرة الني دخلت على الفكر السياسي والاجتماعي وما صاحب ذلك من تطور؟ فعلى سبيل المثال هيمنت الدولة العثمانية والصفوية على العالم الإسلامي في عصر السيد جمال الدين الأفغاني. غير أن هذه الدولتين أصبحت دول في عصر الشيرازي.

وهذا التغيير وإن فرض أنماط اجتماعية جديدة في الحياة، فقد ظل الاستبداد ومصادرة الحريات وقتل الأبرياء وغياب الوعي الجماهيري نقاط تلاقي واشتراك بين العصرين.

السيد جمال الدين الأفغاني عصره ومشروعه:-

يصف الأستاذ قلعجي عصر الأفغاني كالتالي "كان الاستعمار يقرع أبواب الشرق وكان الاستبداد يسحق أهله ويذل شعوبه وكانت هذه الشعوب غارقة في سبات عميق تهدرها الأوهام والخرافات وأحلام المجد القديم، ويحكمها ملوك مستبدون وولاة غاشمون يسوقون الناس بالسياط ويستغلونهم بالأكاذيب ويهيمنون عليهم بالبطش والإرهاب حينا وحينا بالدجل والخداع حتى خيل أن ذلك الظلم لن يخلفه عدل وأن ذلك الظلام لن يعقبه نور...وانتهزت أوربا التي ظهرت على مسرح التاريخ بكل علنها ومدنيتها ويقظتها وقوتها،تلك الغفوة الطويلة الخاملة التي رانت على بلدان الشرق،فأخذ تتخطف أجزاها وتتحيف جوانبها وتلتهما واحذ بعد الأخر.."[13]

ورغم أ، هذا الوصف قد ينطبق تماما على عصر الإمام الشيرازي، فأن مفردات الإصلاح والتغيير في مشروع الأفغاني قليلة مقارنة مع نظيره الإمام الشيرازي، برغم من خبرته السياسية كوزير، ورحلاته العديدة إلى البلاد المختلفة، وإطلاعه على أوضاع الناس فيها،وملامسته عن قرب مشاكلهم ومعاناتهم. يقول الأستاذ قلعجي"عاش جمال الدين في النصف الثاني من القرن التاسع عشر وبلاد الشرق تفتك بها عوامل الجهل والتفرقة والاستبداد فتنقل فيها يدعوهم إلى العلم والاتحاد والحرية والشورى أي القوة التي بها تتحطم مظالم المستبدين وتصد أطماع الحاقدين "[14] ويقول الدكتور السحمراني" إذا كان من حق بعضنا أن يقول أن الأفغاني لم يقدم للعرب والمسلمين مشروعا ثوريا متكاملا، إلا إن قيمته الأساسية كانت في تلك الروحية المتطلعة للتغيير، والتي نجح في غرس بذورها مشرقا ومغربا فكانت له الريادة في مجال الإصلاح "[15]

ومشروع الأفغاني كان صغيرا،فقد حمل تطلعات الأمة للنهوض، ونقل معاناتها إلى بلاط السلاطين الذي غرقوا في الملذات والأهواء، ورسم صورة للإرادة القوية والصلبة في سبيل الهدف. ولعلنا نستطيع أن مسلط الضوء على هذه الأفكار والتطلعات من جانبين.

الجانب السياسي:-

برزت دعوته السياسية في أمرين هما تحرير البلاد من الحكم الاستبدادي وإنقاذها من الاستعمار الأجنبي، وكان الطريق إليهما اقتحام بلاط السلاطين واستنهاضها،وتوجيه سهام النقد إليها،ودعوتهم لإصلاح دواتهم ومبانيهم وأفكارهم وعدم الانجرار إلى الشهوات والانغماس في الملذات الرخيصة" كان يمتلك شجاعة أدبية استطاع من خلالها أن يقتحم مراكز التأثير السياسي والاجتماعي في مختلف البلاد التي حل فيها ولم يكن يتهيب من مقابلة الملوك والسلاطين واقتحام مجالسهم رغم ما يحيط تلك المجالس من بهارج وأبهة ومظاهر القوة والجبروت،والتي تبعث الخوف والرعب في قلوب الناس، كان السيد جمال الدين يخاطر الحكام والسلاطين بلهجة الناصح الشجاع دون خوف أو وجل فقد وقف مخاطبا الشاه بقوله أستطيع أن افخر بنفسي أن أرى عاهل إيران قد استيقظ من سباته العميق واخذ يفكر في تعمير البلاد ورقيها ويثق بي. نعم أنني إيراني "[16]

ويقول مخاطبا السلطان عبد الحميد "يا جلالة السلطان، مللت من تعاطينا الشكاية، ومن غيرك صاحب الأمر؟ خد بحزم جدك محمود،وأقص الخائنين من خاصتك، الذين يبعدون عن بلاطك حقائق تخريب الوزراء هنا، والعمال في الولايات وهم وصنائعهم وجباة جيوبهم الخاصة، خفف الحجاب عنك واظهر للملا ظهورا يقطع من الخائنين الظهور واعتقد أن نعم الحارس الأجل..."[17]

كما قال مخاطبا شاه إيران أوالدولة الصفوية بعد أن سأله "أيصح أن أكون يا حضرة السيد وأ،املك ملوك فارس كأحد أفراد الفلاحين؟

فرد عليه"اعلم يا حضرة الشاه أن تاجك وعظمة سلطانك وقوائم عرشك، ستكون بالحكم الدستوري أعظم وأنفذ وأتبث مما هي الآن. والفلاح والصانع في المملكة ياحضرة الشاه انفع من عظمتك ومن أمرائك به،واسمح لإخلاصي أن أؤديه صريحا قبل فوات وقته"[18]

لقد رأى الأفغاني أن استبداد الحاكم،وفساد حاشيته هوالسبب الأول وراء ما تعاني منه الممالك الإسلامية من ضعف وما تضج به من ويلات، لأن بيدها القوة والقدرة فغياب العدل، وتفشي الظلم وهدر ثروات الشعوب، وراء ظهور ثالوث الجهل والتخلف والمرض. ونحن وإن اقتصرنا على نماذج بسيطة من تنديد الأفغاني بالسلطة الجائرة،فأن له منازلات عديدة مع غيرهم أمثال خديوي مصر،وقيصر روسيا وناصر شاه...ولقد كانت هذه المنازلات السبب الأول والأهم في كثرة رحلاته كما أسلفنا،بل كان لها الأثر في إحاطته بالجواسيس، ومتابعة تحركاته خيفة من أن يفجر ثورة الإصلاح في قلوب الفقراء والمستضعفين، الذين أنهكهم الاستبداد والظلم والتجويع والقهر" إذا فالأفغاني الرحالة عاش في داره بالأستانة محاطا بالجواسيس محروما من الكتابة، لا يؤذن له بقلم وورق، ووراءه الرقباء أينما حل وذهب "[19]

الجانب الفكري والديني:-

البؤس الذي تركه الاستبداد على حياة الناس منع الحركة العلمية من الازدهار،بل وعرقل مسيرتها المتواضعة عن النهوض،فانتشر التدين المنقوص،والفهم الخاطئ للإسلام، وسادت الأساطير،وكثر الدجل وتهيأت السبل للمناهج المنحرفة، والمذاهب الباطلة،مثل المادية والدهرية واليشريين للدخول إلى عقيدة المسلمين، واحسبها افتك الطرق التي استعمرنا بها الغرب، وتركما نتخبط في وحلها منذ عصر الترجمة إلي هذا اليوم.فله في كل نوم أطروحة، ومنهج يغري به شبابنا عن ثقافته،من العلمانية والشيوعية إلى البرجماتية والرأسمالية وغيرها من الأطروحات الثقافية والعقائدية.

لقد حولت هذه الخيوط السيد جمال الدين الأفغاني من سياسي لامع إلى مفكر وخطيب مفوه،يخاطب الجماهير " لقد ترشحت مرتكزات السيد جمال الدين الأفغاني الفكرية من مشاهداته لانحطاط المسلمين، وتخلفهم عبر ما شاع بينهم من فهم ملتبس للإسلام وخاصة بعد أن جرد الدين من مضامينه الاجتماعية والسياسية وتحول إلى ممارسات وطقوس ساكنة منفصلة عن الحياة "[20]

ومن هنا نفهم أن مشروع السيد جمال الدين لم يكن متكاملا، فهي اطروحات للمشاكل التي عصفت بالأمة في عصره كالتناحر والعصبيات،وسد باب الاجتهاد وضعف الحركة العلمية،ومع انه كان خطيبا مفوها كما وصفه جرجي زيدان بقوله"انه كان خطيبا مصقعا لم يقم في الشرق اخطب منه "لم يكن إنتاجه الثقافي والفكري بالكافي لمعالجة الويلات التي تعصف بالدولتين الإسلاميتين المترامية الأطراف، فقد كتب تاريخ مختصر للأفغان في باديات حياته، وبعض الرسائل القصيرة في الرد على الدهريين وبعض المذاهب الأخرى، كما أصدر مجلة العروة الوثقى مع تلميذه الشيخ محمد عبده،أما على مستوى المؤسسات والجمعيات فقد أسس جمعية العروة الوثقى والرابطة الإسلامية "هكذا كان تأثير جمال الدين في تلاميذه محدثا أكثر من كاتبا، وبدا ذلك بوضوح في ما حرره عبده في العروة الوثقى "[21]كان يرى أن العالم الإسلامي يتجه نحوكارثة ماحقة ولا يكاد يحس بها وتدرك أبعادها، فكان يطلق الصرخة تلوالصرخة عبر خطاباته الكثيرة أينما حل ومن خلال صحيفته العروة الوثقى التي أصدرها في باريس وفي تمثل بحق إشراقه الصحافة الإسلامية الرائدة في العصر الحديث والتي هزت أعماق الماضي وعبرت أسوار الزمن"

ولقد مثلت الدعوة لقيام الجامعة الإسلامية السياج الذي أحاط بمفردات الإصلاح والنهوض فذابت فيه, باعتبارها تجسيدا حقيقيا للتعاون والتغيير والإصلاح, يجند طاقات الأمة لمواجهة الخطر الحقيقي الذي يريد الاستئثار بثرواتها فكان "السيد جمال الدين ينفتح على الفكر الإسلامي بكل مشاربه ويتعامل مع المسلمين بشتى مذاهبهم الفقهية ومدارسهم العقائدية, ساعيا إلى الوحدة الإسلامية نابذا لعناصر الفرقة والتعصب, مما اتاح له ذلك آفاقا للتحرك باتجاه مشروعة النهضوي في مختلف الساحات الإسلامية التي انفتحت علية واستجابت لمشروعه الإصلاحي الداعي إلى الجامعة الإسلامية وإقامة دولة إسلامية قادرة على الوقوف بوجه التدخل الغربي في شؤون الأمة الإسلامية"[22]

"تلك هي الوحدة الإسلامية التي نادى بها الأفغاني على صفحات العروة الوثقى وحدة الحكومة المركزية الإسلامية القائمة على العدل والحرية, المؤسسة على تعاليم الدين القويم" يقول في هذا الصدد "كيف يمكن جمع الكلمة بعد افتراقها, وهي لم تفترق إلا لان كلا عكف على شانه! استغفر الله لوكان له شان يعكف عليه لما انفصل عن اخيه وهواشد أعضائه اتصالا به ولكنه صرف لشؤون غيره وهويظنها شؤون نفسه"[23]

الإمام الشيرازي عصره ومشروعه:

لوقدر لي وصف عصر الإمام الشيرازي لما زدت كلمة على وصف عصر السيد الأفغاني, فلقد حاول الاستعمار وأذنابه خلال عقود من الزمن السيطرة على مقاليد الأمور وتوجيه الجماهير نحونهجه المضاد للدين والعقيدة ومصالح ألامه الإسلامية وهذه العقود هي عقد الأربعينات والخمسينات والستينات, أعقبها ثلاثة عقود شهدت المد الإسلامي. ولقد كان للإمام الشيرازي دور فاعل طوال هذه العقود في محاربة الحكومات الجائرة والمناهج والأفكار المنحرفة, من حكومة نوري السعيد إلى حزب البعث ومن المد القومي إلى الشيوعية "إلا إن السلطات استاءت من الإمام الشيرازي لجرأته واعتقدت انه يشكل خطرا عليها فاخدت تتحين الفرص لاعتقاله... فقد فسح عبد الكريم قاسم المجال أمام الشيوعيين ليعيثوا في الأرض فسادا وكان شعارهم الرئيسي الله في قفص الاتهام والعياذ بالله. فتحرك العلماء الاعلام لمواجهة هذا الخطر فافتى سماحة الإمام الحكيم فتواه المشهورة "الشيوعية كفر والحاد" ودعمه الإمام الشيرازي فاخذ يستخدم سلاح الفكر لمواجهة هذا التيار وسارع إلى كتابة مجموعة من الدراسات العقائدية"[24]

يهدف مشروع الإمام الشيرازي إلى إقامة حكومة الألف مليون مسلم, فهي الدائرة التي تجمع كل المفردات الحضارية التي كتبها, فهناك مفردات حتمية للوصول إلى حكومة الألف مليون مسلم, كما إن هناك مفردات ضرورية لبقائها يقول في كتابة السبيل إلى إنهاض المسلمين ص25 "إن اكل الثورة لأبنائها طبيعي في حالة غياب الوعي الجماهيري وفي حالة عدم توزيع القوة وانحصارها بفئة واحدة إذن يجب علينا:

أولا:تحطيم الأنظمة الجائرة الحاكمة في بلادنا

وثانيا:معرفة الطريق الطبيعي المؤدي إلى إقامة حكومة إسلامية مكانها وفق الأسلوب الإلهي, وان تعرف كيفية تحقيق الحريات فيها, والتقدم الصناعي والثقافي, ونعرف كيفية توزيع القدرات..."

فإذا كانت الجامعة الإسلامية حلما راود الأفغاني, وارق فكره, فان حكومة الألف مليون مسلم كانت هاجسا قويا لدى الإمام الشيرازي, جعلت كل انطلاقاته إليها "فعندما تجلس بين يدي الإمام الشيرازي وتقترح عليه مشروعا فهو يجيبك من زاوية هذه النظرية الواسعة فعندما تكون كاتبا وتلتقي به يطلب منك الإمام إن تكتب في كل عام ثلاثة كتب على الاقل حتى يمكنك استيعاب جزء من مسؤولية حكومة الألف مليون مسلم. عندما تريد إن تكتب في موضوع محدد كالزكاة في الإسلام يرشدك الإمام الشيرازي إلى تناول هذا الموضوع من زاوية حكومة آلف مليون مسلم, وكيف باستطاعة الزكاة حل المعضلات الكبيرة في عالمنا الإسلامي. وفي نسق منطقي رائع يستطيع الإمام الشيرازي إن يربط كل الأجزاء بالكلية (حكومة آلف مليون مسلم) إن نظرية حكومة آلف مليون مسلم ليست شعارا يطلقه الإمام الشيرازي وليس حلما ورديا من أحلام الصيف فهوفي داخله يعيش حالة من الانسجام الكامل مع هذه الفكرة, فقناعاته التاريخية تؤكد هذه الفكرة"[25]

ولقد وضع لهذه الفكرة العديد من الكتب والكراسات, يشير إليها تارة ويلمح أخرى إليها اوالى بعض مفرداتها من الحريات والشورى والاقتصاد وغيرها..

ومع ذلك فقد تناولها بشكل متكامل في ثلاثة من كتبة هي الصياغة الجديدة والسبيل إلى إنهاض المسلمين والإسلام ومتطلبات التغيير الاجتماعي. يقول حول ذلك "ثم انه كما يكون بناء مؤسسة أو إدارة أو مدرسة أوما اشبه بحاجة إلى ثلاثة أشياء:

الأول: العلم بالبناء

الثاني:الخارطة المهيئة من اجل البناء

الثالث: التطبيق الخارجي

فكذلك بناء الأمة بحاجة إلى هذه الأمور الثلاثة وقد كتبنا كتاب (الصياغة) باعتبار الأمر الأول فان فيه العلم بالبناء وكتبنا كتاب (السبيل) تمهيدا للأمر الثاني واراءة الخارطة لكيفية بناء العالم الإسلامي الكبير أما التطبيق العملي الخارجي فقد كتبنا لاجله (ممارسة التغيير) فهذا الكتاب مرقاة ثالثة في هذا السلم ومحاولة للتعرف على طرق ممارسة التغيير للوصول إلى حكومة آلف وخمسمائة مليون مسلم...حيث إن الإحصاء الأخير يدل على إن عدد المسلمين في العالم بلغ آلف وخمسمائة مليون مسلما.."[26]

ولو استعرضنا هذه الكتب لرأينا فيها عرض عام لكل المشاكل اليومية والحياتية التي تصيب المسلمين, ففي كتاب الصياغة برزت ملامح المجتمع الإسلامي,فكره, قيمة المهيمنة, ليرسم لنا وبدقة مكامن الخلل والقصور التي تلف العالم الإسلامي وتطال كل بقاعه, وهومع ذلك لا يتركها دون علاج, يؤصله من الكتاب والسنة. وأما كتاب السبيل فقد كانت الأفكار لإقامة الدولة الإسلامية وكيف ينبغي لها إن تكون أكثر وضوحا وتحديدا, إذ جعل لها ست مرتكزات تقوم عليها لبناء الدولة الإسلامية هي الوعي, التنظيم,والتعاون الإسلامي,والسلام,والاكتفاء الذاتي,ومنهج الحكم, يقول في كتابة السبيل "كان الكلام في كيفية إقامة حكومة آلف مليون مسلم..وقلنا إن ذلك يتوقف على وجود حركة عامة منية على أسس هي:

الأساس الأول: التوعية والأساس الثاني:التنظيم, والأساس الثالث:مراعاة أصول الحركة العامة, والأساس:الرابع:هوالسلام, والأساس الخامس: هوالاكتفاء الذاتي, والكلام ألان في الأساس السادس وهومنهج الحكم في إبعاده المختلفة"[27]. وقد انطوت تحت هذه الأبعاد الستة الكثير من المفردات والأبعاد المختلفة مثل الاستقامة والحرية والشورى والنزاهة والصبر والصمود وغيرها الكثير. وأما الكتاب الأخير التغيير فقد كان بمثابة صور حية للكيفية التي يجب إن يكون عليها المصلح ورسم دقيق للعراقيل تعترض طريقة لتحقيق حكومة آلف مليون مسلم.

وينبغي هنا التنبيه لنقطتين في هذا المشروع: الأولى تداخل المفردات في مشروع الإمام الشيرازي بين كونها وسيلة للوصول للدولة الإسلامية وبين كونها وسيلة لاستمراها لان القيم لا تؤطر, أوينتهي دورها بنهاية المرحلة. الثاني: إن الإمام الشيرازي لا يرى نخبوية الثورة, أو الحركة الو العملية الإصلاحية, وإنما يكمن دورها في بناء الجماهير. اذا الحركة أوالثورة هي جماهيرية بكل ما للكلمة من معنى. يقول في كتابة السبيل "فيجب على التنظيم إن يتخد من هذا الأمر درسا لعملة الذائب في خدمة الجماهير, إن أصحاب النفسيات السلبية الذين يتصورون أنهم الأفضل ويقول احدهم "إن هذا رأي" أو"انا أكثر فهما" أو"إن الجماهير لا تفهم وهي غير واعية" أو"ما للجماهير والتدخل في هذه الشئون" وما اشبه ذلك نتيجتها انفضاض الجماهير من حول المطلوب فلا يتمكن من انقاد العالم الإسلامي ولا حتى بلد واحد.

ويقول أيضا في هذا الصدد "واجب التنظيم إن يلحظ الجماهيرية على طول الخط, فان الجماهير هي التي تتمكن من انقاد بلاد الإسلام لا جماعة خاصة من المثقفين فقط"[28]

ولم يكتفي الإمام الشيرازي بهذا بل رسم معالم الحركة الإسلامية, من الاستعداد, والمواصفات, إلى الواجبات وخطوات العمل. ولقد رسم لها ولي الدولة الإسلامية الكبرى الإطار الفقهي الذي تتحرك فيه. ولعل اغرب مافي هذا المشروع إن كل مفردة منه طريق لقيام الدولة الإسلامية الكبرى أوتصب فيه. يقول "والحريات متاحة للمسلمين في الكثير من بلدان العالم التي من الممكن اتخاذها سندا لتحركها والنيل لأهدافها فكما جاء الغربيون إلى بلادنا في فترات مظلمة في تاريخهم ونالوا الحرية في بلاد الإسلام وعاشوا عليها ثم أخذوها إلى بلادهم.. كذلك باستطاعة أبناء الأمة إن يذهبوا إلى تلك البلاد التي تنعم ببعض الحريات ليتخذوا منها منطلقا لتحركهم نحوالوحدة الإسلامية"[29] والتي هي طريق –أي الوحدة الإسلامية- لقيام الدولة الإسلامية الكبرى. والاغرب من هذا قدرته الفائقة عل التنظير, وقراءة المستقبل بدقة بالغة, اعتماد على معطيات الحاضر والسنن التاريخية والكونية, فكان يشير إلى الحدث قبل وقوعه والأسباب المؤدية إلية, وكمثال نحيل القارئ إلى كتابة الصغير( الصلح وإسرائيل).

وان كانت الأزمة الفكرية والدينية, واختلاط المفاهيم الإسلامية مع فلسفات الشرق والغرب قد جعل من السيد جمال الدين الأفغاني خطيبا مفهوها, فان هجمت الاستعمار على بلادنا وغزوه الثقافي لنا بكل وسائل التكنولوجيا صنعت من الإمام الشيرازي خطيبا تارة وكاتبا أخرى, حتى ضاقت المكتبة الإسلامية بكتبة ومحاضراته التربوية والفكرية..فلقب بسلطان المؤلفين بعد إن تجاوز ما كتبه 1500, ولقب بالمجدد الثاني لما رسمه من معالم إسلامية في الفكر والثقافة" إن اطروحات الإمام الشيرازي استبقت الزمن في اكتشافاتها وتنبؤاتها الفكرية والعلمية والتنظيرية الجديدة تماما وانطباقها تماما على الفكر الإنساني بكل شاردة ووارده من أعماق المحيطات إلى أعالي الفضاء إلى مختلف مجالات العلم وتطوره من الحاسوب إلى الطب والاستنساخ"[30]

وحسبنا إن نشير إلى إن هذه الأطروحة قد تميزت بالأصالة والواقعية والإبداع والشمولية وغيرها مما أطنبنا في ذكره في مقالنا "قراءة في المشروع الحضاري للإمام الشيرازي" ومع سعة مشروع الإمام الشيرازي وتعدد إبعاده الفكرية, فاننا سوف نستقراء بعض الجوانب السياسية والفكرية, بسب مافرضته طبيعة البحث والدراسة.

الجانب السياسي:

كان للإمام الشيرازي تحرك سياسي واسع على مستوى الزعماء والوزراء والبرلمانيون, بهدف تصحيح الجوانب السياسية, وأثارها الاجتماعية ولقد صاحب هذه التحركات السياسية حركة فكرية ظهرت في كتبه ومؤلفاته ككتاب السياسة والدولة الإسلامية وتلك الأيام الذي سجل فيه لقاءاته مع الزعماء العراقيين, أمثال عبد الرسول الخالص, وسعيد القزاز, وعبد الكريم قاسم, يقول حول لقائه بعبد الرسول الخالص "وقد التقيت به عندما كان وزير الشؤون الاجتماعية, وتحدث معه حول المفاسد الخلقية التي يشعها التلفزيون, إذ كانوا ينشرون من خلاله الفساد ويستثيرون غرائز الشباب من خلال عرض الأفلام الخليعة والماجنة"[31]

ولم تمنعه أعباء المرجعية التي تقلدها في الثلاثين من عمره من الاهتمام بالقضايا الإسلامية الكبرى,فساهم وناضل من اجل قيام الدولة الإسلامية الإيرانية. وقد اعترف أزلام النظام الشاهنشاهي بذلك "إن الشيرازي وراء وصول أصداء غليان الشارع الإيراني إلى مسامع العالم. كما دعم مختلف القضايا الكبرى مثل قضية فلسطين ولبنان وكشمير وغيرها, يقول الأستاذ عبد الحليم محمد حول هذا الموضوع"دعم الإمام الشيرازي المجاهدين الفلسطينيين وأفتى بوجوب تحرير القدس من أيدي الاسرائيلين وساند اللاجئين الفلسطينيين ماديا...كما انه ساند القضية الفلسطينية إعلاميا بصورة جادة وأصدر كتابا تحت عنوان "هؤلاء اليهود".....

الجانب الفكري:

الجانب الفكري عند الإمام الشيرازي مزيج من الأصالة والإبداع, ومزيج من الثورة والواقعية ومزيج من العمق والضخامة, استوعب أبعاد كثيرة وعديدة من الحياة فمن الفقه إلى السياسة ومن الاقتصاد إلى الطب. فانجازاته على الصعيد الفكري لم تكن كتبا أخلاقية أو محاضرات تربوية فقط, بل تعدتها إلى لجان وهيئات ومؤسسات اجتماعية عديدة حتى وسم بأنه دولة "لقد أصبح دوله في وسط دوله وهذه هي العبارة التي تصافح كل من يؤتى به إلى مديرية الأمن العامة بتهمة التعاون مع الإمام الشيرازي, وفعلا كانت مؤسساته ومشاريعه واللجان التي شكلها والمشاريع الاقتصادية التابعة لها تشكل في واقعها دولة مصغره في وسط الدولة الكبيرة, لكن يبقى اكبر انجاز قام به الإمام الشيرازي هوصنع جيل من الواعين الرساليين من مختلف الجنسيات, الذين انتشروا في الأرض وتحول كل واحد منهم إلى مشروع"[32]

وأخيرا يصعب استقراء هذا المشروع الضخم للإمام الشيرازي في وريقات صغيرة مثل هذه، وهوالذي لن تستوعبه الكتب الكبيرة، والأرض الواسعة حتى ضاق به الكون. فأقصى ما نستطيع قوله انه كان شاملا، محيطا بكل جوانب الحياة والسر في ذلك كله انه مشروع الإسلام، ومنهجه الذي قال عنه الله ما فرطنا في الكتاب من شي.

وان كان مشروع السيد جمال الدين الأفغاني وراء تنقلاته ورحلاته، ووراء سجنه واصطدامه مع رجال الدين أمثال الشيخ أبو الهدى الصيادي حتى وفاته " كانت المعركة التي اشتد أوارها بين جمال الدين وأبي الهدى الصيادي من المعارك التي خاضها الأفغاني على مر السنين،وكاد يخرج منها منتصرا شديد العزيمة إلا أن هذه المعركة استطاعت في نهاية المطاف أن تنال من هذا الجبل الشامخ فيقضي في دار الأستانة "[33]

ولم يكن الأمام الشيرازي بأحسن حظا منه،فلقد كان هوأيضا عرضة للمؤامرات والدسائس، أشار إلي بعضها في كراسة الصغير مطاردة قرن ونصف.يقول عبد الحليم محمد "وعمل الكثير في الكثير حتى ضاقت به السلطات ذرعا، فأخذت تحيك المؤامرات للتخلص منه مما اضطر الإمام الشيرازي إلى الخروج من العراق"

فأن كان الأفغاني رائد الإصلاح فأن الشيرازي مبدعه وباعثه من جديد، وأن كان الأفغاني حكيم الشرق فأن الشيرازي طبيبه وجراحه الماهر. ولعمري لان مهد مشروع الافغاني لظهور صحوة إسلامية عارمة امتدت إلى أصقاع العالم الإسلامي. فأن مشروع الإمام الشيرازي يمهد لقيام الدولة الإسلامية العالمية الكبرى، وظهور قائدها الإمام المنتظر عجل الله فرجه الشريف، والتي اظهر ملامحها ومرتكزاتها من الكتاب والسنة.

 .................................................................

[1] جمال الدين الأفغاني شخصية لم تتكرر –مختار الاسدي – جمال الدين الأفغاني حكيم الشرق د. رحاب عكاوي

[2] الإمام الشيرازي فكره ومنهجه ومواقفه ص11 عبد الحليم محمد

[3] نفس المصدر

[4] جمال الدين الأفغاني حكيم الشرق ص16

[5] نفس المصدر ص19

[6] المصدر السابق

[7] تلك الأيام للإمام الشيرازي ص280

[8] جمال الدين الأفغاني حكيم الشرقص27

[9] المجدد الشيرازي الثاني تحول في التاريخ الإسلامي

[10] نفس المصدر ص210

[11] مقال في جريدة الوطن الكويتية بمناسبة الذكرى الرابعة

[12] جمال الدين الأفغاني حكيم الشرقص67

[13] نقلا عن كتاب جمال الدين الأفغاني شخصية لن تتكرر ص30

[14] نفس المصدر ص31

[15] نفس المصدر ص34

[16] مقال من رجال الإصلاح جمال الدين الأفغاني

[17] جمال الدين الأفغاني حكيم الشرق ص72

[18] نفس المصدر ص64

[19] نفس المصدر ص74

[20] جمال الدين الأفغاني شخصية لن تتكرر ص43

[21] جمال الدين الأفغاني حكيم الشرق ص121

[22] مقال من رجال الإصلاح جمال الدين الأفغاني

[23] جمال الدين الأفغاني حكيم الشرق ص105

[24] الإمام الشيرازي فكره ونهجه ومواقفه ص111,112

[25] نفس المصدر ص40

[26] الإسلام ومتطلبات التغيير الاجتماعي –الإمام الشيرازي ص11

[27] السبيل إلى إنهاض المسلمين –الإمام الشيرازي ص279

[28] نفس المصدر السابق ص96

[29] الوصول إلى حكومة واحدة إسلامية –الإمام الشيرازي ص8

[30] مقال بمناسبة الذكرى الرابعة لرحيل الإمام الشيرازي –جريدة الوطن الكويتية

[31] تلك الأيام –الشيرازي ص29

[32] الإمام الشيرازي فكره ومنهجه ومواقفه ص13

[33]جمال الدين الأفغاني حكيم الشرق 75

شبكة النبأ المعلوماتية- الاثنين 25/تشرين الأول/2010 - 17/ذو القعدة/1431

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1431هـ  /  1999- 2010م